ما زال البحث عن عقلانية ما تُفسِّر الطريقة التي يُرجَّح أن جمال خاشقجي قتل فيها يدور حول نفسه. ليس لماذا صفي الرجل، فلهذا أسبابه الوجيهة في سياق صراع بن سلمان من أجل التحكم بالسلطة التي وصلت اليه في غفلة من الزمن، بل لماذا قُتل داخل القنصلية السعودية تحديداً، ولماذا بهذه العلنية، ولماذا بهذه الوحشية الإستعراضية.. واستطراداً، فلماذا يجري - قُبَيل وصول فرق التحقيق التركية - إدخال صناديق من المنظفات بشكل مكشوف الى المكان الذي يعج بالصحافيين والمصورين من كل العالم، بينما كان يسهل تمويهها..
لا بد من وظيفة لكل هذه الغرابات غير المألوفة في عالم الاغتيال.
فهل تكون نتاج ليس الحماقة والاستهتار فحسب كما نعرفهما، بل الجنوح الى خوض المغامرات التي يحبها الأمير الشاب، وهو الذي أمضى طفولته ومراهقته في التباري على ألعاب الفيديو الالكترونية الاكثر تعقيداً وشراسة. يجس رد الفعل المقابل ويستمتع بالتحدي، ويثبت قدرته على كسب المعادلة، ويفوز (يأمل بالفوز)، ويكرس "حريته": يفعل ما يشاء، ويصدم حين يشاء العالم، وبالاخص أقرب حلفائه، ويتركهم في حيرة يجعجعون، ثم يُذكّرهم بميزاته التي لا تُقاوَم. فهو من يشتري ب 110 مليار دولار سلاحاً في صفقة واحدة من الولايات المتحدة (يقول عنها ترامب في واحدة من تعليقاته على حادثة خاشقجي أنه "بصراحة يحتاجها" وانها الأكبر في تاريخ بلاده)، وهو من يُنقذ وادي "سيليكون" المأزوم بفعل المنافسة الصينية والهندية له، إذ يجري تلزيم شركات المعلوماتية والبرمجة فيه إدارة مدينة "نيوم" الخرافية المنوي انشاؤها على البحر الاحمر والقائمة بالكامل على الذكاء الاصطناعي والروبوتية. وهو من أنفق 27 مليون دولار في 2017 على "اللوبيينغ" مع االسيناتورات الامريكيين، منها نصف مليون ذهبت مباشرة الى صناديق حملاتهم الانتخابية، وهو من كلف شركة "ماكينزي" للاستشارات (هي نفسها التي وضعت له "خطة 2030") بتنظيم الدورة الثانية من مؤتمر "دافوس الصحراء" (يا لدَعيّة الاسم المُركّب) المنعقد بعد أيام "بمن حَضر" من البرغماتيين - وما أكثرهم - الذين لا يرون صلة بين البزنس الذي يديرونه ويمكن للمال السعودي و"استثماراته" الرفع من شأنه، وبين تلك الجريمة (أو سواها: احتجاز الامراء ورجال الاعمال السعوديين الكبار وابتزازهم بعد ضربهم وإهانتهم، الحرب المستمرة على اليمن التي تقتل الاطفال قبل سواهم بالقصف أو بالكوليرا، لا فرق إلخ..)، بينما انسحب منه رجال أعمال وسياسة إعتُبِروا "دقة قديمة"، كموقف رمزي لن يؤدي الى وقف مشاريعهم واستثماراتهم وشراكاتهم مع السعودية، ولكنه يمنحهم لمسة نقاء ومبدئية مفيدة لصورتهم في الأوساط التي يتعاملون معها (ولعل بعضهم، وعلى مستوى شخصي، ما زال يمتلك بعض القيم!).
أما على صعيد آخر، فالتصريحات المتتالية والمتنافضة، والهستيرية أحياناً، التي يدلي بها ترامب تفضح غاياتها. يعتبر أن بن سلمان قد وقع بين يديه، وأنه يمكنه إبتزازه أكثر على الصعيدين المالي والسياسي، وأنه فعلاً، ومن دون الغطاء الامريكي الذي يتولى إخراج الـ"ستوري تيللنغ" المطلوبة حول قضية خاشقجي ويلفلف بالتالي الموضوع، فلن يمكنه البقاء في السلطة. وترامب لن يفوت الفرصة. وفي ذلك يلعب السيناتورات من الحزب الجمهوري "المستنكرين للجريمة" دورهم برفع درجة التهويل على بن سلمان، كما هي مقاطعة وزير الخزانة الامريكي لمؤتمر "دافوس الصحراء" في آخر دقيقة.
هي ذئاب تتقاتل، وهي لا تخفي ذئبيتها بل تتباهى. ولعل المقصود تأهيل "المشاهدين" (عموم البشر) على مقدار البشاعة والعنف المنفلتان، جعلها معتادة باسرع ما يمكن، والعلاج يكون بالصدمة! هذا عالم النيوليبرالية متخلصاً من كل ماكياج وتمويه وإدعاءات من أي نوع. فجاً كما هو فعلاً. دغلاً. فهل أساء بن سلمان، الذي يجيد الاستعانة بشركات العلاقات العامة والدعاية والاستشارات، ويجاهر بالاسلحة التي يمتلكها (نفط ومال وإيران وإرهاب!) ويعرف قيمتها، ويعرف كذلك أن البعد القيمي لا أهمية له بتاتاً، وهو لا يريد حتى مجرد ادعاء الاكتراث به.. هل أساء تقدير شراسة "الصديق" الذي ينازله؟
حمي الشوط! يغيب عن المشهد صهر ترامب و"صديق" بن سلمان، جاريد كوشنر، صاحب "صفقة القرن" ضد فلسطين. ولعله يطل في أحد فصول المشهد المقبلة لينجز اتفاقات مع الأمير السعودي تكون قد نَضجت! ولكن أين السعودية نفسها (فهي ليست قطر أو الامارات) بشبكة أمرائها الممتدة والقوانين الدقيقة التي حكمت توزيع السلطة والثروة بينهم، وبقبائلها بالغة القوة التي لم يُنه ديناميتها الريع الذي إقتُطع لكل منها، ورجال الدين فيها، مطاوعة وهّابيين وكذلك تيارات مختلفة، وأجهزتها الامنية والعسكرية دقيقة التوازن؟
فهل بَعدُ من مفاجآت؟