لا شيء مثل الكراهية مثير للعدوى وقابل للاشتعال، ربما أكثر من أدنى شرارة صادفت رذاذة زيت متطاير.
يفور الخليج اليوم بخطابات كراهية غاية في الخطورة، لم تكن بهذه المجاهرة بالسوء ولا بالتسابق عليه، على الأقل في العقود الأربعة الماضية. تراجعت أخبار انقلابات الاشقاء على بعضهم للاستحواذ على كراسي الحكم، وخفتت حكايات السلب والنهب عند قطع الطرق.. تراجع كل ذلك حينما ظن الناس أن حكامهم، بعد أن عمّ الرخاء، توصلوا إلى صيغة تعاون بينهم تكفل لهم الحد الأدنى من تحجيم الأطماع ودرء الأذى وإشاعة الاحترام. تراجع كل ذلك حينما توهم سكان هذه المنطقة بأنهم باتوا يتنعمون بطيبات "دولة الرفاه" التي وعدت بها عائدات النفط منذ منتصف القرن العشرين. خمسون عاماً كأنها لم تكن شيئاً، وكأن هذه الجموع البشرية - التي تجاوز تعدادها اليوم خمسين مليون نفس - كأنها لم تتعلم ولم تذهب إلى الجامعات والمدارس، لم تسافر إلى جهات العالم الأربع، ولم تتأمل في تقدم الإنسانية، ولم تتعظ من قصص نجاح الآخرين ولا من أسباب فشلهم، بل أنها لم تعتبر من ويلات الحروب التي اكتوت بها لعشرات السنين، في العراق واليمن، فإذ بها لم تراوح تقاليدها البائدة: إلهاب الكراهيات الداخلية، ثم استجداء التدخلات الخارجية ليُطْبق الدمار على ما تبقى من حياة.
تضطرم بلدان الخليج العربية بأشكال متجددة ومتزايدة من الكراهيات، تحشو عقول وقلوب أهلها وتقودهم إلى مصائر غامضة: لمز حول وجود خلايا تجسس، اشاعات عن شراء ذمم، اتهامات بدعم عمليات مسلحة، ادعاءات تهريب عتاد وتمويل فصائل، استفزازات إعلامية، سُباب بلا حشمة، شتائم مقذعة على منصات التواصل الرقمي، يتدفق وبلا انقطاع على مدار الثواني واللحظات، يستهدف حياة بسطاء الناس، ينتهك خصوصياتهم، يوغر قلوبهم، يُصيب نسيجهم الاجتماعي الهشّ بالعطب، هم الذين تخيلوا أن هذا النسيج سيبقى محصناً بروابط الدم والتفاهمات والمصالح المشتركة.
يقوم رهان سوق الكراهيات على تزايد أعداد الساخطين على حياة اللامعنى التي تتمغط بارتياح في هذه المجتمعات. نمط حياة متصالح مع انسداد الأفق، ومتكيف مع تقليص الفرص، يعيد إنتاج الخضوع وسلوكيات الطاعة والرضا بالمتوفر من فُتات أنظمة مطلقة، محتكِرة للسلطة والثروة، ومجتمعات تزدهر فيها ثقافة الاستهلاك وتسليع الإنسان.
نافخو الكير، ترتفع قيمتهم في سوق الكراهيات المتداولة، تعلو أصواتهم يوماً بعد يوم. استحالت هذه الأصوات إلى شرارات تبعث من تحت الرماد جحيما مسكوتا عنه، تلهبه رياح العصبويات وتهيّجه بطولات التاريخ المشوه.
هذا ما يُشعل الناس به مجالسهم ولقاءاتهم، بينما تستمتع الأنظمة الحاكمة بالفرجة والمراقبة والرصد.
أضحى الإنسان يستهلك كماً وافراً من وقته وطاقته للمتابعة أولاً، ثم الإنخراط تالياً، والمشاركة دائماً في سوق مفتوحة لكراهيات رائجة، سوق عامر بالمرتادين المعبئين حماسة وتعصباً، ميادينه فضاءات التقنية الرقمية المفتوحة، القائمة على اجتزاء المعلومات من سياقاتها المختلفة وإعادة عرضها وتوظيفها كحقائق بديلة. حقائق لها مؤمنيها المخْلصين الذين تتكرّس في داخلهم تلك الجُذاذات بالتكرار والتكثيف المتواصل، لتغدو مسلمات وإيمانيات تستحق النضال. سوق غدت له منتجاته اليومية البرّاقة، مثلما له مستثمروه ومنتفعوه سواء أفراداً أو مؤسسات أو أجهزة مخابرات أو أنظمة سياسية. ولكي يحتلّ هذا السوق مكانة مرموقة في النفوس كان لابد له من تخريجة مقنعة، فكان أن تم ربطه بالوطنية والولاء والدفاع عن حياض السيادة والهويات. مرتادوا هذا السوق مع تُجّاره لا تعتريهم ذرة شك واحدة من أنهم النخبة الطليعية القائدة لنهضة بلدانهم في هذه اللحظة الحساسة. لأجل ذلك يتفننون في اجتراح الإهانات وتسميم الفضاء العام بالإشاعات واختراع الأدوات الممعنة في التحقير والتصغير وتحويل الكراهية إلى ذُهان جماهيري غامر وواجب مقدّس يستحق المشاركة والتضحيات.
سراب الإصلاح في بلدان الخليج العربي
15-02-2018
إن رهان سوق الكراهيات قائم على تزايد أعداد الساخطين على حياة اللامعنى، التي تتمغط بارتياح في هذه المجتمعات. هذه النمط الذي يقع الإنسان في فخه ولا يفلته إلا بالغُصّة أو الموت. نمط حياة يتصالح مع انسداد الأفق، ويتكيف مع تقليص الفرص، ويعيد إنتاج الخضوع وسلوكيات الطاعة والرضا بالمتوفر من فُتات أنظمة مطلقة، محتكرة للسلطة والثروة، ومجتمعات تزدهر فيها ثقافة الاستهلاك وتسليع الإنسان، اشغاله عن حقيقة وجوده ومحورية مشاركته الفاعلة في رسم وإدارة حياته العامة. إنها إحدى أبرز تمظهرات العبث بمصير الآدمي.
فبعد أن تم هدر حاضره ونهب موارده الطبيعية وقهر موارده البشرية، ها هو البديل يتوفر في سوق الكراهيات الرائجة، الإنشغال المحموم بالدفاع عن "شوفينتيه الوطنية" عبر شاشات الهاتف النقّال والحاسوب المحمول، الانشغال المحموم بالتطوع لمساندة جيوش وهمية تدافع عن "كرامة الوطن" و"هيبة الدولة" و"الموروث الحضاري الزاخر" بتحقير الآخر وتصغير أعماله، حتى تتأجج مشاعر البغض وتتلّهى النفس عن فداحة مواجهة واقعها البئيس، حيث لا قيمة لها إلا بمقدار ولائها للنظام الفاسد والتزمت والاستماتة في الدفاع عنه ضد نظام أكثر فساداً منه.
هو الانشغال المحموم بالتطوع لمساندة جيوش وهمية تدافع عن "كرامة الوطن" و"هيبة الدولة" و"الموروث الحضاري الزاخر" بتحقير الآخر وتصغير أعماله، حتى تتأجج مشاعر البغض وتتلّهى النفس عن فداحة مواجهة واقعها البئيس، حيث لا قيمة لها إلا بمقدار ولائها للنظام الفاسد والاستماتة في الدفاع عنه ضد نظام أكثر فساداً منه.
ألم يعلّمنا التاريخ بأن الشوفينيات الوطنية أقصر السبل المفضية إلى الحرب، وقبل أن تفعل ذلك تكون قد أغرقت الجماعات والأفراد في محيط هادر من الكراهيات والتباغضات العابرة للأجناس والأعراق والثقافات؟ لكن، ها نحن دائماً: نُردد أحداث التاريخ ولا نعي دروسه.
قد يُطرب جماعة بشرية وصفها بأنها شعب طيب، كريم، متسامح. وربما يلذّ للكبرياء الفردي والجمعي معاً إعادة إنتاج وتكرار صورة نمطية عن ذوات ملائكية مشتهاة، غير أن ذلك ليس أبعد عن واقع الوجود البشري فحسب، بل وأكثر تضليلاً لحقيقة لا تعترف إلا بالتجربة والممارسة برهاناً. على سبيل البرهان: بإمكان إيهام الجماهير في هذه البلدان بأنها تتعايش بانسجام، سواء مع من يُساكنونهم في البلد الواحد أو مع من يُجاورنهم على حدود الجغرافيا والتاريخ. بيد أن استفزازاً فارغًا أو اشاعة عابرة أو حتى معلومة مزيفة، أو صورة مفبركة يُمررها أحد مسعّري الكراهيات، بمقدورها أن تقلب كل موازين تلك الشخصية "المتزنة"، "المتسامحة"، "ذات الخلق، فإذ بها تشحذ ذاكرتها وتُبري أقلامها وأصابعها لتنبُش عن كل مثلبة أو خطأ حدث في الماضي السحيق وتعيد بعثه بصورة سطحية تنحاز لعصبويات بائدة، لا تمت إلى حياة التمدن ولا إلى حق الإنسان في الحياة والتجدد بأية صلة، بإسلوب لا يعوزه التعالي والتمنّن المؤذي، ثم أنها لا تكتفي بذلك مرة واحدة بل تُعيد تكراره لإلهاب غرائز الرد بالمثل والانتقام في دائرة من السعير لا قعر لها.
أين الخلل يا تُرى؟
نعود بالذاكرة قليلاً فلا نرى إلا شحناً متواصلاً قد مورس على الإنسان هنا. حيث أن بلده هي مركز الكون، موطن الفضائل، مهد التحضر، الإنسان هنا يعيش حياة الأسرة "المتحدة السعيدة"، أب (الحاكم) حنون، وأولاد (المحكومين) راضين مُطيعين، بارّين بوالدهم وولي أمرهم، الكل لا يضرّ، لا يؤذي، مسالم، بينما الآخر مرتكس في الحروب الطائفية والتطاحنات العرقية. "أزعومات سطحية" تتناثر في مناهج التعليم، وخطاب الإعلام الرسمي، وخطابات التدين السائد. أزعومات شعاراتية تشوّش على أسئلة المواطنة بوصفها عروة تتقوّى بإدراك الحقوق والواجبات، بل تُوهِنُها وتطردها من نقاشات الحيّز العام، حتى وجدت هذه الأزعومات خميرتها في "السوشلة" الرقمية المستجيبة للحروب النفسية التي تقف ورائها أجهزة مخابرات وجماعات مصالح لا همّ لها إلا إبقاء الوضع على ما هو عليه. حسناً، قد يكون كل ذلك مفهوماً إلى حدٍ ما، إذا كان الناس، بمعنى الجماعة البشرية التي تقطن هذه البلاد، تعي إرادتها الحرّة ، ثم تنطلق من ذلك لتكون مصدر السلطات جميعها، ومن هذا الوعي وذلك المصدر تُدير كل مفصل من مفاصل دولتها عبر مؤسسات، تراقَب وتُراقِب تُحاسَب، وتُحاسِب، في ظل ثقافة توْلي النقد أهمية محورية واحترام ممارس بوصفه إحدى ضمانات تطور جهاز الدولة وحيوية مكوناته. لكن ماذا يحدث عندما تكون هذه الجماعة مغيبة عن كل ذلك، لا هي مصدر لأي سلطة، ولا هي قادرة على مراقبة أدنى وظيفة عمومية، ولا هي تدرّبت على تقبّل النقد ولا مارسته في اختيار خياراتها الشخصية. هل بمقدور هذه الجماعة أن تكون أكثر من مُستقبِل طيّع لكل ما يبثّه عليها جهاز مركزي أوحد: يملك المعلومة، يحتكرها، يختار وسيلة الإعلان عنها، يتحين الوقت المناسب لاطلاقها، لا يسمح لغيره أن يشاركه التداول، يقمع أي مكوّن اجتماعي أو فرد إن أصرّ على ممارسة حق التساؤل والنشر والتقييم. ألا تمسي هذه الجماعة أداة سهلة تُدار مشاعرها وتُثار انفعالاتها ويُوجه غضبها، ويشتت انتباهها بحسب أمزجة ورغبات الواحد (فرداً أو جهازاً أو نظاماً). هل ثمة ضمانات، معلنة ومعلومة، تؤكد تَحرُر هذه الفئة المتحكمة من أمراض الكراهية؟ وهل الدولة تملك الممكنات الكفيلة لمحاسبتهم في حال مجانبتهم للصواب وتوريطهم للبلاد في ثارات مفتوحة العواقب؟ ثارات قد تكون داخلية بين مكونات الجماعة الوطنية ذاتها أو ثارات عابرة للحدود، وعابرة للأزمان، حيث من السهل إضرام نار الحرب، ومن المستحيل اطفاء جحيمها.
القاعدة والاستثناء في الخلافات الخليجية
19-07-2017
ثمة علاقة وثيقة بين الكراهيات والفشل، خاصة فشل المحتكربن للثروات والقرارات لفترات زمنية طويلة. الكراهيات ملهاة ناجحة عن محاسبة صانعي العثرات، وإلا لماذا نستلّ سلاح الكراهية عندما نغرق في الفشل؟ الفشل في ميادين التعليم والتشغيل والصحة والإبداع، في الداخل. والتعثر في ميادين المشاريع المشتركة في الاقتصاد والثقافة والاجتماع، مع الشركاء (الذين كانوا اشقاء في الأمس القريب). ثم، لِمَ يعلو صوت الكراهيات عندما تكون هناك ضرورات لطرح اسئلة ملحّة ومحورية لمعاش البشر: أسئلة الحياة والحرية والعدالة ونشدان الخير العام. للكراهيات أيضاً قدرة فائقة على اكتساب الأنصار، وإلا كيف استطاعت أن تكون مغرية ومقنعة وجاذبة حتى يتسابق على تذكيتها من يدّعي أنه يدينها ويرفضها؟ أصحاب القاب علمية عليا، علماء دين، مشاهير، مثقفون، فنّانون، وشخصيات عامة تتقدم الحشود لترمي بحطبها في النيران المستعرة وأحياناً كثيرة تصنع زيتها "ذي الخصوصية" وتسكبه عليها. بعد كل هذا، هل لدينا مناعة من مكر الكراهيات ومخاتلاتها؟ خاصة تلك القابعة تحت أزياء الوطنية والفخر والإعتزاز والولاء وغيرها من الأزياء الرائجة، الزاهية، والمنطلية على الحشود المحرومة من حقوقها الأساسية والمكبوتة عن المشاركة في تحديد المسؤوليات التي تتحمّلها والحقوق التي تستحقها.
أصحاب ألقاب علمية عليا، علماء دين، مشاهير، مثقفون، فنّانون، وشخصيات عامة تتقدم الحشود لترمي بحطبها في النيران المستعرة، وأحياناً كثيرة تصنع زيتها "ذي الخصوصية" وتسكبه عليها.
ليس ثمة جواب محدد لكل تلك الأسئلة، ولا أظن أن خلاصنا وعلاجنا في إجابات نهائية بقدر ما نحتاج إلى تذكير ضمائرنا بفخاخ ما نتوهم أنها "فضائل" بينما هي ليست أكثر من حشو بالكراهية وتأجيج لمشاعر البغض والهدم والعنف المتعدد الأبعاد.
كتب الروائي اللبناني توفيق يوسف عوّاد روايته "طواحين بيروت" في نهايات ستينيات القرن العشرين، متنبئاً بشكل جارح بدنو حرب أهلية تحرق لبنان وتفرّق أهله. حرب كانت شراراتها جاهزة للإشتعال، بعد أن أمّنت الكراهيات مهمتها بنجاح وبذرت بذور الخراب الكفيلة بكل ما سيلي. كل شيء كان جاهزاً للإنفجار: الهزائم والطوائف والتدخلات الخارجية، بانتظار حادثة أو حادثتين.. حتى ارتفعت الستارة عن الجحيم الذي اكتوى به البشر طوال خمسة عشر عاماً."كالقِدر تغلي بيروت. والقدور على النار في عواصم العرب كلها. المهمّ ما نطبخ".
فماذا نطبخُ اليوم في قدورنا للغد؟