مع أنها وسائل مجرّبة مراراً وتكراراً وبكل الدرجات والصيغ، وأثبتت فشلها في بلادنا كما في سواها.. إلا أن السلطة تصيب أصحابها بعمى البصيرة، بذاك المزيج من التعالي المغرور والنزق الطائش، فيهوون.. ولو بعد حين. "الظلم مؤذن بخراب العمران" (ابن خلدون!). آخر إبداعات القمع المنهجي الذي يُستخدم في مصر بديلاً من امتلاك خطط اقتصادية واجتماعية للبلد العظيم، قرار إغلاق "مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب" بحجج تافهة وموارِبة. في آخر تقرير للمركز صدر الشهر الماضي ويخص 2015، (عنوانه "حصاد القهر") رصدوا 328 حالة قتل خارج مقار الاحتجاز و137 حالة داخلها. وهم يعملون منذ 1993، وتولوا علاج 5 آلاف حالة على امتداد البلاد..
"اتجننوا" تقول مديرته، ليس بشأن القرار الذي يخص "النديم"، بل لقتل أمين شرطة منذ أيام سائقاً في الدرب الأحمر بالقاهرة، اختلف معه على الأجرة. "اتجننوا"، تروي صحافية وطالبة في الجامعة الأميركية تحرش أمين شرطة بها قرب باب الجامعة، كاشفة اعتداءات أخرى تصل إلى الاغتصاب. "اتجننوا"، فقام رجال الأمن بالاعتداء العنيف والمتكرر على الأطباء في أماكن عديدة (وليس في المطرية وحدها). "اتجننوا" فخطفوا منذ شهر وعذبوا حتى الموت الباحث الإيطالي الشاب جوليو ريجيني.. اللائحة لا تنتهي وتتجدد باستمرار، بينما يستمر اعتقال أكثر من 50 ألف شاب وشابة في سجون مرعبة، قليلهم قدم لمحاكمات أو حكم عليه بأحكام (لا تتناسب و "جرمه" وفق الدستور والقانون المصري نفسيهما)، وأكثرهم موقوف منذ أكثر من سنتين بلا محاكمة، قليلهم ينتمي لتنظيم "الإخوان المسلمين" وأكثرهم لا! شباب "ارتكبوا" ثورة 25 يناير، يُقمعون كعلاج لشفائهم من الحلم أو لمعاقبتهم على نشاطات تخص الشأن العام من قبيل الاهتمام بأطفال الشوارع مثلاً.. بل امتدت يد القمع للأدب، وأشهر حوادثه وآخرها حبس أحمد ناجي سنتين لأن فصلاً من روايته "يخدش الحياء".
الخبر المفرح في كل هذا هو مقاومة العسف، والعناد والصمود بوجهه: احتشاد أكثر من 10 آلاف طبيب في "جمعية عمومية" لإدانة الاعتداءات ومعها الخصخصة والإهمال في المجال، وتضامن 18 منظمة حقوقية مع "النديم" وإصدارها بياناً لوضع إمكاناتها في خدمته "ليتمكن من الاستمرار في دعم المظلومات والمظلومين والناجيات والناجين من جرائم التعذيب والعنف الجنسي"، وإصدار 150 مثقفاً بياناً ضد حبس ناجي، تُلي في دار ميريت (التي سبق لها التعرض للعسف) وأدان "غلق المجال العام"، بما هو تهديد لمصر "يقود البلاد إلى الهاوية"..
القمع العشوائي المعمم خطة مدروسة بإحكام لإرباك المصمِّمين وتعطيلهم. والأخطر، لإخافة كل الناس: #عجز.