"أرقام العراق"... بلا تعليق (*)

العراق نُهْبةٌ، يغرف منها الخاصة ويموت الآخرون، كل الآخرين، وهم 90 في المئة من شعبه - من كل المناطق والطوائف والملل والنحل - من الجوع والمرض والقنوط.
2018-08-03

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
مروى عادل - مصر

يكاد يصير في علم أصول الكلام (أو الاتيمولوجيا) بند قائم بذاته إسمه "أرقام العراق"! ما سيرد هنا فصيح كفاية بحيث لا يحتاج لشرح ولا لتعليق. وهو موثّق من قبل هيئات دولية ومحلية، بعضها رسمي (كهيئة النزاهة العراقية، أو منظمات للامم المتحدة على الرغم من ميلها للكتمان)، وبعضها الآخر مأخوذ من مصادر بحثية موثوقة ومشهود لها بالمهنية، كمنظمة الشفافية الدولية. وبعضها الأخير ورد في وسائل إعلام جدية، وهي الاخرى عالمية أو محلية. كلها معطيات معروفة، متداوَلة، ولكن بالمفرّق. وأما حين تُجمع، فتصبح الصورة مختلفة.

- احتل العراق المرتبة 169 في أسفل سلم الـ180 دولة بما يخص الفساد، بحسب ما رصدته منظمة الشفافية العالمية في آخر تقرير لها 2018. سيقول قائل إنه ظل الثالث في الفساد في العالم منذ 2003 وحتى قبل سنتين، وها هو قد يسجل تقدماً إذ صار في المرتبة 11!

- يعيش العراق على وارداته من النفط، وهي تمثل 99 في المئة من دخله الوطني.. مما يعني أن الانتاج كله معطل، وأن الريع هو سيد الموقف الوحيد. علماً أن في بلاد الرافدين تقاليد تاريخية عريقة في الزراعة وإمكانات هائلة، وكذلك في الصناعة، وأن فيه ثروات طبيعية أخرى غير النفط يبدو أنها مهملة اليوم. ولكن ولو اقتصرنا على النفط، فالعراق ينتج الآن 4.3 مليون برميل في اليوم. وقدر ما دخل الى موارد الدولة من بيع النفط بأكثر من ألف مليار دولار (تريليون دولار) بين عامي 2003 و2016.

- ميزانية العراق (لهذا العام 2018) وُضعت على أساس أن سعر البرميل هو 46 دولار، بينما سعره الفعلي منذ بداية العام هو على الاقل 73 دولار (ويتصاعد). الفارق بين السعرين هو 27 دولار في كل برميل نفط، وهذه تدخل الخزينة من دون أن تدخل في الموازنة.. وحصيلتها هي حوالي 95 مليون دولار في اليوم أو 17 مليار و"فراطة" أو "فكة" كما يقول العراقيون، تبلغ عشرات من ملايين الدولار(!). وهذا فائض الأشهر الستة الاولى من السنة: فائضاً وليس كل المدخول!!

- هُرِّبت كميات مهولة من النفط ومشتقاته، يقدر مسؤولون في هيئة النزاهة أن قيمتها بلغت 90 مليار دولار في السنوات الخمس الأولى من احتلال العراق (2003-2008).

- قُدِّرت قيمة المبالغ المهدورة بفضل أشكال متنوعة من الفساد بـ7.5 مليار دولار لسنة 2004 - 2005 وحدها، وفق تلك الهيئة الرسمية نفسها. وأن ما هو مهدور تجاوز 320 مليار دولار منذ 2003 وحتى اليوم. وهناك مئات ملايين الدولارات تنفق سنوياً على مشاريع وهمية تماماً.

- وأما شراء المعدات الفاسدة، المدنية منها ولكن خصوصا العسكرية، فهي تتحول الى قصص من الخيال العلمي. استوردت السلطات العراقية عام 2007 منظومة أجهزة أمنية متكاملة من بينها أجهزة خاصة لكشف المتفجرات، تجاوزت كلفتها 200 مليون دولار أميركي. وفي العام التالي اشترت السلطات العراقية أجهزة جديدة بقيمة 32 مليون دولار أميركي. وبعد سنة، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تقريراً عن أجهزة مزيفة لكشف المتفجرات من طراز "أي دي إي 651" أنتجتها شركة "أي تي أس سي" واشترى منها العراق بما قيمته 85 مليون دولار. القصة مشهورة، يتندر بها العراقيون بفكاهة سوداء: الثمن الحقيقي للآلة الواحدة (وهي تستخدم في أحسن الاحوال لكشف المسروقات على أبواب المحلات التجارية) هو 25 دولار، بينما دفعت الحكومة العراقية 16 ألف دولار لكل جهاز (باعتباره خارقاً!)، وفوق ذلك 40 ألف دولار لصيانته والتدريب عليه وكعمولات رسمية! و"اشترت" منه في هذه الصفقة الأخيرة ما لا يقل عن 800 قطعة وزعتها على النقاط الامنية والحواجز.. بينما ظلت السيارات المليئة بالمتفجرات تحصد العراقيين بالمئات.

- حين "سقطت" الموصل في 2014 ودخلها "داعش" ببضع عشرات من مقاتليه، كُشف عن وجود 50 ألف اسم وهمي لجنود تُصرف لهم رواتب في 4 فرق عسكرية كانت ترابط هناك. هؤلاء هم "الفضائيون" بحسب الناس في العراق، أو كما يقال في أماكن أخرى، من سكان "المريخ".

- الكهرباء! ما صرف عليها بين 2003 وحتى اليوم تجاوز 41 مليار دولار. اليكم هذه القصة، واحدة من بين كثير غيرها: في عهد نوري المالكي تمّ التعاقد مع شركة "باور انجينز" البريطانية لنصب محطة توليد في محافظة الناصرية جنوب العراق، وبلغت قيمة العقد 21 مليار دولار، لكن الشحنة التي استلمتها الوزارة كانت عبارة عن صناديق معبأة بلعب أطفال بدلاً عن المولدات وسائر المعدات.

- العراق سدّد حتى الآن لإيران حوالي 16 مليار دولار ثمن الكهرباء التي يشتريها منها. كانت كافية لانشاء محطة توليد وطنية تغطي البلد بدل "استيراد الطاقة" كما يقال بتهذيب. العراق يستورد كذلك الكهرباء من تركيا ومن الأردن ومن الكويت بل واستأجر 4 بوارج تركية لتوليد الكهرباء أشهرها "دوكان بي" (طاقتها الانتاجية القصوى 180 ميغاواط!!) ترسو قبالة شواطئ البصرة وخور الزبير (ولا أحد يدري مَن مِن لبنان أو العراق قد أرشد الثاني إلى هذا الحل الإبداعي). كلفة الاستيراد مهولة ومردوده ضعيف. بدليل أنه، وعلى كل ذلك، فما زال العراق يحتاج الى 10 آلاف ميغاواط إضافية (أي 50 في المئة من حاجاته)، وما زال انقطاع الكهرباء يصل الى 15 ساعة في اليوم، وبالاخص في الصيف الكائظ: 50 درجة في الظل!

- أصبحت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في محافظات جنوب العراق عقيمة. كانت تسمى "أرض السواد" لشدة خصوبتها، وهناك رواية لعبد الرحمن منيف تحمل هذا العنوان. يقول المعجم في شرحه التسمية: "سمي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار، لأنه حين تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر كانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار فيسمونه سواداً". تدهورت إمدادات المياه وارتفعت الملوحة، ما دفع السكان، وهم مزارعون بالاصل، الى تركها والنزوح الى محيطات المدن الكبرى للتكدس في عشوائيات بائسة. وتجف كذلك مياه الاهوار وتُدمّر الحياة فيها، هي الفريدة في ثرائها فصنفتها اليونسكو كجزء من تراث الانسانية. بنت تركيا وايران سدوداً على نهري دجلة والفرات وعلى الفروع التي تغذيهما، في مخالفة صريحة للقانون الدولي لهذه الجهة، ومن دون أن تحرك الحكومات العراقية المتعاقبة ساكناً ولا أن تشتكي ولا أن تتفاوض.

(*) جاءت نكبة "داعش" كمن وسلوى من السماء! صارت كل العيوب والنواقص تُلصق بها، وصار كل النهب والفساد يتغطى بها، وصار مطلوباً السكوت عن كل شيء إما لأن هناك خطر داعش يتربص بالبلد، أو لأن كل الجهود يُفترض ان تكرس لمواجهة الأمر.. حتى ليتساءل المرء إن لم تكن القصة كلها "مطبوخة" من أصلها (بعيدا عن الفرضيات التآمرية) وأنه جرى استدراج داعش الى البلد أو اقناعه بأن يأتي!

(*) "أرقام العراق" تحتاج الى موسوعة. تطرقنا هنا الى الكهرباء والمياه بحكم أنهما السبب المباشر في تفجّر غضب الناس الذي لا يبدو أنه يريد أن يخبو، ولكن هناك على المنوال نفسه أحوال قطاعات كالتعليم والصحة والنقل والسكن، وجيش "المريخيين" في الوظائف المدنية، وكلفة امتيازات المسئولين المقرّة رسمياً (يعني بخلاف الإختلاس!)..

(*) العراق منهبة عامة إذاً، يغرف منها الخاصة ويموت الاخرون، كل الآخرين، وهم 90 في المئة من شعبه ــ من كل المناطق والطوائف والملل والنحل ــ من الجوع والمرض والقنوط. قال العنوان "بلا تعليق"، ولكننا لم نتمكن من كتم التعليقات تماماً.. فعذراً!

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...