خصخصة الكهرباء في العراق: الطريق سالكة للنهب

أزمة الكهرباء في العراق طاحنة وتثير الاحتجاج الشعبي العنيف على النهب الممارس، فترى السلطة ان الحل هو خصخصتها وتبدأ بتلزيم شركات مجهولة الهوية جباية فواتير خيالية: فساد متجدد بهذه الوسيلة
2017-02-22

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
محمود شبر - العراق

يكاد لا يعرف كُثر أن اجتياح أعداد غفيرة من المواطنين المنطقة الخضراء في أيار / مايو العام الماضي، والذي اعتُبر الأول منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، لم يكن ليحصل لولا حرّ تلك الأيام في بغداد، حيث بلغت درجة الحرارة في الظلّ 50 درجة مئوية، في وقت كانت أغلب المناطق في بغداد تعاني من انقطاع متواصل للكهرباء.
وحكاية تحوّل الطاقّة الكهربائية إلى فعل سياسي في حياة العراقيين ليست بجديدة، إذ سبق وأن شيّع متظاهرون، بطريقة رمزية، ولأكثر من مرّة خلال العقد الماضي، جسد الكهرباء في تابوت، جالوا به في مدنهم المنكوبة التي يلتهمها الصيف القائظ والبرد القارص. وفي آب / أغسطس 2015، دفعت أزمة الكهرباء العراقيين إلى الخروج للتظاهر في 11 محافظة، واستمرت الاحتجاجات حتّى كادت تُسقِط العمليّة السياسية برّمتها مع اجتياح الناس للمنطقة الخضراء لمرتين، وهي محميّة السياسيين العراقيين الآمنة والمنعّمة بشتّى الخدمات.

الخصخصة للتخلص من الفساد!

دفعت الاحتجاجات وزارة الكهرباء العراقيّة إلى سلوك طريق الخصخصة، وعلّلت ذلك بأنه يساعد على "التخلّص من الفساد"، وأن الخصخصة تضمن "التوزيع العادل بين المناطق واستقرار المنظومة الكهربائية". وهي على هذا الأساس قسّمت العراق إلى 180 رقعة، تعمل على منح كل واحدة أو مجموعات من هذه الرقع إلى شركات خاصّة لتنظّم هذا القطاع. إلا أن السؤال عن مدى نجاعة هذه الإجراءات مُثار في وقت تُعدُّ فيه وزارة الكهرباء واحدة من أكثر الوزارات التي شهدت فساداً في العراق، وقدَّ فرّ وزيران استوزراها (بصفقة سياسية) إلى خارج البلاد بسبب العقود الوهميّة التي أبرماها. وتقدّر لجان النزاهة في البرلمان "الهدر" في الوزارة بنحو 30 مليار دولار من موازناتها خلال 13 عاماً من عمر النظام السياسي العراقي الذي حل بعد 9 نيسان / أبريل عام 2003، ومفردة "هدر" تلطيف تستخدمه الأحزاب السياسية في العراق، والصحيح بطبيعة الحال أنه "نهب"، كون الأموال أنفقت على صفقات مع "شركات وهميّة"، وظلّت المشاريع سراباً في الأراضي العراقيّة الجرداء، أما الأموال فوجدت طريقها بسهولة إلى خارج البلاد.

واقع الرفض أخذ أيضاً ينطبق على منطقة زيونة الفخمة التي نشر العديد من سكّانها فواتير الكهرباء على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد ردّ أحد سكّان مدينة الصدر الذي هاله مبلغ نحو مليوني دينار كفاتورة شهرية، "لو أتتني فاتورة كهذه لفجّرت الوزارة"!

حكاية خصخصة قطاع الكهرباء بدأت مع منطقة "زيونة" شرقي بغداد. إنها منطقة فخمة يسكنها الموسرون من سكّان العاصمة، وهي سبق وأن وزّع الكثير من أراضيها خلال العقود الماضية على الضبّاط والرتب العسكرية الكبيرة، فضلاً عن أساتذة جامعات، وأطباء وما شابه من مهن مدرّة لدخل مرتفع. وزارة الكهرباء اعتبرت هذه المنطقة تجربة، منحتها لشركة (تكتمت على ذكر اسمها في جميع البيانات) وما على هذه الشركة سوى القيام بـ"الجباية" الشهريّة من المنازل، ومراقبة ساعات التجهيز بالكهرباء التي حدّدتها على مدار اليوم.

وبعد أشهر أعلنت الوزارة، بفرحة غامرة، نجاح التجربة، وسارعت إلى الإعلان أن الخطّة سيتّم تطبيقها ليس في بغداد وحسب، وإنما في عموم أرجاء العراق. وحدث ذلك بالتزامن مع شكوى سكّان منطقة زيونة من ارتفاع أسعار الكهرباء (بلغت بعض الفواتير أكثر 2000 دولار شهرياً)! وقد منحت مناطق أخرى، أيضاً "فخمة"، في جانب الكرخ من بغداد إلى شركات ثلاثة، منها اثنتان عراقيتان وواحدة أردنيّة، لتنعم هذه المناطق هي الأخرى بطاقة كهربائية لمدّة 24 ساعة في اليوم.

وفي هذه الأثناء، بدأت المناطق الفقيرة تعاني من انخفاض عدد ساعات تجهيزها بالكهرباء. والحجّة دائماً جاهزة: "الإرهاب". وتردّ الوزارة على "تذمّر" المواطنين بأن عملاً إرهابياً أدى إلى الأضرار بالمنظومة وتعمل الآن على إصلاحها الخ..

نحو 2.3 مليار دولار موازنة وزارة الكهرباء لعام 2017، يذهب للتشغيل منها 1.7 مليار دولار، وجرى في عام 2013 فقط، تثبيت نحو 13 ألف موظف جديد فيها

ولكن ما كان أساساً عمل هذه الشركات الخاصة التي حسّنت الكهرباء في المناطق الفخمة؟ ما الحل السحري الذي مكّنها من هذه الفعلة الجبّارة والتي عجزت عنها جميع كوادر الوزارة؟ على ذلك تردّ الوزارة أن عمل الشركات "لا يشمل إقامة محطات توليدية، حيث ستلتزم الوزارة بتجهيز الكهرباء، ويقتصر (عمل الشركة) على الجباية والخدمة فقط"، وعلى ذلك، فالعمل الفعلي للمستثمر أو الشركة "سينصب مقاييس ذكية للسيطرة على عملية التوزيع"، فضلاً عن تسديدها لنسبة 80 في المئة من أجور موظفي قطاعات الصيانة في المنطقة المتعاقد عليها، والوزارة بدورها ستؤمن المواد الاحتياطية للصيانة ابتداء من المحوّل وصعوداً! وما الذي ستتقاضاه الشركة؟ "نسبة" تشير إليها الوزارة في جميع بياناتها وأحاديثها لوسائل الإعلام، نازعة عن هذه الـ"نسبة" ال التعريف، والرقم الدقيق بطبيعة الحال للأموال التي ستجنيها الشركة مقابل عمل بإمكان الوزارة بكادرها المتضخّم القيام به.

طبقية الكهرباء

إزاء بحث الوزارة عن المناطق "الفخمة" التي يملك سكّانها أموالاً لتمنحها الكهرباء على مدار اليوم، لم يكن مستغرباً أن تطفر الوزارة من بغداد المقسمة إلى 14 بلدية ــ وهي لم تغطِّ مساحة بلدية واحدة ــ إلى عواصم الجنوب العراقي، مثل مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار. غير أنّها سرعان ما واجهت بحملة "خصخصة وطن" الرافضة، والتي تحدّثت عن عدم قدرة الناس على دفع المبالغ الكبيرة للفواتير التي تطلبها الشركات. وواقع الرفض أخذ أيضاً ينطبق على منطقة زيونة التي نشر العديد من سكّانها فواتير الكهرباء على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد ردّ أحد سكّان مدينة الصدر الذي هاله مبلغ نحو مليوني دينار كفاتورة، "لو أتتني فاتورة كهذه لفجّرت الوزارة". لكن أبناء مدينة الصدر وما شابهها من مدن فقيرة لن تأتيهم فاتورة مشابهة لأسباب عديدة ربما أخذتها الوزارة في الحسبان، أوّلها أن كل المناطق التي جرت خصخصتها ينحدر أفرادها من الميسورين الذين باستطاعتهم دفع الفواتير المرتفعة من دون ارتكاب أيّة مشكلات مع الشركة أو الوزارة، بالإضافة إلى أن البنى التحتية لتلك المناطق التي جرى تمديد خطوط كهربائها فيها تحت الأرض، تختلف عن المناطق التي تتشابك فيها أسلاك الكهرباء وتغطّي فيها حتّى وجه السماء. بيد أن الأهم هو عدم قدرة الوزارة مدّ جميع مناطق العراق بالكهرباء، لأنّها تنتج بحدود 11 ألف ميغاواط بمساعدة البوارج التركية وخطوط إمداد الكهرباء الإيرانية، التي تكلّف سنويّاً حوالى مليار دولار، وإذا ما أرادت مدّ جميع مدن العراق بالكهرباء فإنها ستحتاج إلى أكثر من 30 ألف ميغاواط، بحسب الوزير قاسم الفهداوي.

أما ما يحيّر اعتماد وزارة بلغت موازنتها لعام 2017، بالرغم من التقشف، نحو 2.3 مليار دولار، يذهب تشغيلياً منها بحدود 1.7 مليار دولار، وجرى في عام 2013 فقط، تثبيت نحو 13 ألف موظف فيها، ما يحيّر اعتمادها على شركات بلا أعمال مماثلة ولا تمتلك أيِّ سير ذاتية، وليس وجودها منتجاً بالقدر الذي هو مضرّ، فهناك إجابة واحدة: فتّش عن الفساد.

في المحصلة، فإن الخصخصة، التي تسميّها الأحزاب السياسية الحاكمة في العراق بـ"الحلّ الأخير" للخلاص من "آفة الفساد" لا تبدو في حال خصخصة الكهرباء إلا حلاً أكثر بشاعة من المعتاد في مشاريع الخصخصة التي تُعدُّ بشأنها الأفلام السينمائية والوثائقية في العالم. وبطبيعة الحال، فإن النظام العراقي اليوم يُمعن في ابتكار البشاعة التي تحيل حياة العراقيين إلى عدم.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...