تستخدم السلطات في المغرب عدةً مجربة لجهة عدم صلاحيتها. ومع ذلك فهي تفعل! وهذه بالمناسبة حال مشتركة بين السلطات في المنطقة، وكأنها تستنسخ بعضها. هناك أولاً الحجج إياها التي تبدأ بتقديم فرضية "المندسين"، لتنتقل سريعاً الى تهمة استهداف "السلامة الداخلية للدولة"، التي يمكن أن تعني التخريب الاقتصادي أو السياسي بتأثير أجنبي، كما التخطيط للثورة أو لقلب نظام الحكم أو لتقسيم البلد أو لتحقيق انفصال جزء منه الخ.. وذلك بحسب المعطيات في كل مرة.
تهمٌ أطلقتها مثلاً السلطات العراقية بمواجهة انتفاضة تكاد تعم البلاد، بدأت في البصرة والمحافظات الجنوبية ولا زالت مستمرة، بعدما أعيت الحيلة الناس تجاه إهمالٍ قاتل لشؤونهم يترافق مع فساد مريع للمسؤولين بدءا من أدنى المراتب الى أعلاها. وهي التهم نفسها تطلقها السلطات المغربية بمواجهة ما بدأ كاحتجاجات على البطالة في مدينة الحسيمة الشمالية (ونسبتها هنا، رسمياً، ضعف مستواها الوطني) بعد مقتل شاب لجأ الى بيع السمك، بطريقة وحشية في تشرين الاول/ اكتوبر 2016، وما زالت تتسع وتضم اليها الناس الغاضبون من تردي أحوالهم بشكل لا يطاق. هنا الخدمات كلها محجوبة، وحتى الترضية بتعيين والٍ من ابناء المنطقة مرفوض. هنا قيل إن صفحة أكثر سلماً وتفهماً وعقلانية تفتح مع "العهد الجديد" (لم يعد جديداً إذ مضى عليه ما يقرب من عشرين عاماً) الذي وعد بمشاريع تنفذ في المنطقة ولمّ، وهو عاد منذ عام ووعد بمحاسبة واقصاء المسؤولين عن عدم تنفيذ أكبرها، مشروع "الحسيمة منارة المتوسط"، الذي ما زال سراباً.
وتستخدم حجة غريبة، يفترض بها أن تضاعف من إدانة السلطة وليس العكس. يقال للمتمردين في مكان ما أن حالهم ليست أسوأ من حال سواهم! يعني مثلاً: هل الفقر وانعدام الخدمات مقتصر على منطقة "الريف" في المغرب؟ أبداً والله. انظروا الى حال العشوائيات العملاقة التي تحيط بمدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للبلاد: حي سيدي مومن، وسواه كالحي المحمدي، أو مناطق أخرى من البلاد من طنجة في أقصى الشمال حتى أغادير في اقصى الجنوب، ومن الشريط الاطلسي حتى الداخل..
ثم يُستخدم القمع، بكل درجاته لـ"يُعقّل" المنتفضين، يخيفهم فيستسلمون بعد يأس. ثم يجري اللجوء الى الاعتراف بالمشكل، وبأن المطالب محقة، وبانه يجب أن تتم تلبيتها (رئيس وزراء العراق قال: "سنفعل من موقع القوة"، أي بعد سحق الناس، وكمِنّة من السيّد وليس كحق)، ويجري مع هذا الوعد الغريب اعفاء بعض المسؤولين المقصرين.. من دون اخضاعهم للمحاسبة. علماً أن المطالب واضحة ومضى على رفعها دهراً، ما يفضح الكذب العاري لهذا الاسلوب الذي يعتبر ناعماً في الاحتواء فتجري - على الرغم من انكشافه - محاولة توظيفه.. عسى ولعل.
سوى أنها كلها حجج متنقلة، قيلت تارة لأهل الرمادي حين انتفضوا وأقاموا اعتصامات شهيرة، وتقال اليوم لأهل البصرة والحسيمة..
هناك مناطق تجتمع فيها، لظروف وسياقات لا يتحكم بها البشر أنفسهم، أسباب تجعلها مهيئة للتمرد. سكان "الريف" في المغرب هم أحفاد عبد الكريم الخطَّابي الذي قاد الثورة ضد الاستعمار الاسباني/ الفرنسي للبلاد في عشرينات القرن الماضي، وشكل "لجنة تحرير المغرب العربي". الخَطَّابي كان ريفياً وأمازيغياً بالطبع، لكنه كان زعيماً وطنياً بل وأممياً. ولقياس ذلك إليكم:
وقال:
وأيضاً:
.. وهو لجأ الى القاهرة بعد سجن ومنفى طويلين، ودافع من "صوت العرب" عن الثورة الجزائرية، وما زال مدفوناً في مصر حيث توفي. وقد ضرب ذلك الاستعمار الذي كرهه الخطّابي الى هذا الحد منطقة الريف بالأسلحة الكيمائية التي ما زالت آثارها ملموسة حتى الآن بعد ما يقرب من قرن على الواقعة، حيث تسجل أعلى نسبة اصابة بالسرطانات في البلاد.
بعد الاستعمار، جاءت السلطة المخزنية لتقمع أي احتجاجات، فتولى الجنرال المرعب محمد أوفقير (وهو أمازيغي بالطبع) المهمة خلال تحرك الريفيين (1957-1959) الذين تلقوا القصف بالطيران وتجريد حملة عسكرية مريعة ضدهم ووصمهم بـ"الأوباش" إثر رفعهم لمطالبهم الى الملك. أوفقير قام بما يجيد، أي بارتكاب مجازر بشعة باشراف من كان ولي العهد وسيصبح الملك الحسن الثاني بعد قليل. وهو على ذلك بطل قمع وتصفية اليساريين داخل البلاد واختطاف وتصفية الزعيم التقدمي المهدي بن بركة (1965). ولكن "سنوات الرصاص" استمرت بعد اعدام الجنرال في 1972 لمحاولته الانقلاب على الملك. وهو أنشأ سجوناً سرية لتعذيب وتصفية المعارضين، كان بعض أشهرها في.. الحسيمة والناظور بمنطقة الريف.
ويكمل المسلسل. حين برز الشاب ناصر الزفزافي ليقود التحرك، جرى نعته بكل الصفات والتشنيع عليه، وتأليب القوى السياسية (المنخرطة في السلطة أو الطامحة لذلك) ضده باعتباره شيطاناً رجيماً. وغالباً ما يُدفع هؤلاء القادة العفويون الى ارتكاب اخطاء –بسيطة - بسبب الضغط والاستفزاز والتحدي الذي تمارسه السلطات عليهم، فتوظف في مزيد من شيطنتهم، وهكذا. الزفزافي ورفاقه اعتقلوا وحوكموا ووجهت إليهم تهم سياسية من النوع الذي كان يمكن أن يؤدي بهم قانونياً الى حبل المشنقة. ولأن التهم بلا سند فعلي وأقرب الى الشعر الرديء، فقد حكموا ليس بالاعدام وإنما باحكام ثقيلة للغاية، ليكونوا "عبرة لمن اعتبر"، ولقطع الطريق على التحركات المطلبية والسياسية التي يمكن ان تتبلور في أكثر من مكان.
يقال تبريراً لمجمل هذا السلوك من قبل السلطة أن منطقة الريف - بسبب تاريخها التمردي الطويل - تخيفها. لن نرأف لحال الحكام فنطبق عليهم التحليل النفسي! ثم، فمن يجدر به الخوف واستبطان المزيد من الشعور بالاضطهاد المقصود، وبـ"الحقرة"، هم الريفيون، وذاك هو تاريخهم.
الحقيقة أن السلطة في المغرب ليست لديها إجابات تنموية واقتصادية بينما يتزايد الاحتقان الاجتماعي، وتتعاظم التفاوتات على مستوى البلاد بأكملها. لذلك يبقى سلاح الضبط الأمني هو الخيار الوحيد، ولاسيما أن تجربة "الانتقال السياسي" قد منيت بفشل كبير. وبسبب إضعاف الأحزاب وبقية المؤسسات الوسيطة، وتطلّب خضوعها التام، تقف السلطة الآن في مواجهة الشارع مباشرة..