هناك مثل فرنسي يقول: "المقابر مليئة بالعظماء"! ليس للتذكير بأن البشر كلهم فانون، بل للتخفيف من إحساس "العظماء" - وهم على الأغلب هؤلاء المتجبرون في مجال السلطة - بأهميتهم، ومن خشية العامة من خسارتهم..
وأما المفاجأة اليوم فهي أنه لم يعد صدام حسين وحافظ الاسد وحدهما عظماء و"القادة الضرورة" في منطقتنا، كما كانوا يسمونهما - وهما يسكنان في المقابر تذكيراً بالمثل الفرنسي - بل يعتبر المشير الليبي خليفة حفتر، وربما أيضا (ولضرورات التوازن) رئيس الوزراء فايز السراج، نفسيهما كذلك "ضرورة". ويتعامل "الجميع" معهما بما يعزز شعورهما ذاك. و"الجميع" هنا درجات وفئات. فإنْ نحّينا جانباً اتباعهما ومن يستقوي بهما من قوى محلية، سواء عسكرية أو مدنية، فهناك الدبلوماسية الدولية التي تعلن رسمياً أنها تحاول "ترميم" الوضع الليبي المتناثر. وهناك في كواليس ذلك المصالح الدولية والاقليمية الكبرى التي ترى في ليبيا أرضاً مفتوحة لكل الصراعات والألاعيب. وهذه كثيرة تبدأ بحساسيات دور الجوار، وبالاخص منها مصر وحاكمها المشير السيسي، ولكن كذلك تونس التي ترى تدفق السلاح والمجموعات المسلحة عبر حدودها متصاحبة مع "أهون الشرور"، أي البضائع المدنية على أنواعها، وكذلك مسألة المهاجرين عبر شواطئ ليبيا الى اوروبا (التي امكن شبه القضاء عليها بعد تدابير كبرى)، ولا تنتهي عند مسألة الصحراء التي تفصل ليبيا عن التشاد والنيجر، متقاسِمة مع الجزائر - جارتها الأخرى الكبرى - هموم ما آلت اليه أوضاع هذين البلدين، وما صار علامة تلك الصحراء المسجلة، كمعبر أساسي لتجارتي السلاح والمخدرات على المستوى العالمي، وكملجأ لكل أنواع العصابات متقاطعة الاختصاصات، بما فيها تلك التي تعلن ولاءها للقاعدة وداعش.
تناقلت الصحف منذ بضعة أسابيع خبراً يقول ان حفتر مريض جداً ويعالج في فرنسا التي نُقل اليها سراً في البداية (.. هذه العلاقة الغريبة بين فرنسا وليبيا ستكون موضوعاً لأفلام سينمائية بعد سنوات!!). ثم سادت شائعات بأنه توفي، ما اضطره للرجوع الى بنغازي، قلعته الحصينة، مستقبَلاً بأعلى مراسم الحفاوة الرئاسية.
وانهالت التحليلات، العالمية قبل المحلية، حول الدور الذي، وحده، يمكنه أن يلعبه بالقضاء على جيب "درنة" في الشرق الليبي حيث لجأت داعش، وفي التفاهم مع رئيس الوزراء في طرابلس وهو المعترف بسلطته دولياً، وفي إيجاد تسوية بينهما بخصوص البرلمان المقيم في طبرق والذي يعتبره المشير السلطة الشرعية للاشراف على الانتخابات الرئاسية في أيلول/ سبتمبر المقبل، بينما يرى الثاني أنه هو تلك السلطة.
وعلى أية حال، ولقياس الأهمية المزعومة للأمر، فقد قال جيفري فيلتمان (ما غيرو!) بعدما صار "وكيل الامين العام للامم المتحدة للشؤون السياسية"، ان تلك الانتخابات هي "الطريق لنهاية سلمية وشاملة للمرحلة الانتقالية". ولعلها مهمته الرسمية أن يقول ذلك، أو لعله شخصياً مؤمن به، والله أعلم.
ولكن البارحة، جاءت طبقة إضافية من الأخبار (مسربة هذه المرة من وكالة بحثية فرنسية متخصصة بمواضيع الاستخبارات على مستوى العالم)، تقول أن حفتر والسراج كلاهما لديهما قنوات اتصال بإسرائيل، وأن السلطات المصرية تدعم هذا الاتصال وتشجعه، وهي التي تؤيد حفتر وسبق لها احتضانه، مثلما تفعل عدة دول عربية على رأسها السعودية والإمارات.
والتبرير أن لمصر واسرائيل مصلحة مشتركة في الحد من تهريب الأسلحة من ليبيا إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، ومنها إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، لاسيما وأن حفتر معرف بعدائه الشديد للإخوان المسلمين، وكذلك بان لديه ثأر سابق مع كتائب القسام، الجناح العسكري لحماس..
هكذا تخدم إسرائيل "القادة الضرورة" في المنطقة، وعلى رأسهم المشيران! وهي تحارب آخرين يرون في انفسهم الصفة نفسها، ولكنهم يقفون في الخندق المقابل. لا يوجد حالة رثة يمكنها ان تفوق هذه!