تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
تزامن توقيع اتفاقية كامب ديفيد في أواخر سبعينات القرن المنصرم مع تبنّي سياسات السوق الحرّة، ورفع الدولة يدها عن المشاريع الكبرى وعن شبكات الأمان الاجتماعي التي توفرها للمواطنين، ورفع شعار "مصر أوّلاً". وانعكس ذلك ضعفاً في القبضة الأمنية على الحدود، وتراجعاً لدور الدولة في ضبط الأنشطة الاقتصادية، الأمر الذي سَمّته إحدى الصحف المصرية سياسة "سداح مداح وكل شيء مُباح"، ممّا رسم في نهاية الأمر واقعاً اقتصادياً وسياسياً على الحدود المتاخمة للأراضي الفلسطينية المحتلة شرقاً، ومع ليبيا غرباً، والسودان جنوباً، كان مغايراً لمناطق الدلتا، وأحياناً مُتحدياً لهيمنة الدولة المركزية.
سيناء "جنة المخدرات"
تاريخياً، ارتبط النشاط التهريبي في سيناء بمقاومة الكيان المحتل، حيث هرّب بدو سيناء الأسلحة في الفترة الممتدة بين 1968 و1970 للمنظمات الفلسطينية في الأردن، عبر الجِمال في سيناء وصحراء النقب. وبعد انسحاب المنظمات الفلسطينية من الأردن غَيّر التهريب وجهته إلى غزة والضفة الغربية.
وقد تحولت سيناء بعد انسحاب اسرائيل منها إلى "جنة المخدرات". ذكر تقرير لصحيفة "هآرتس" الاسرائيلية بتاريخ 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 بروز خمس عصابات تتاجر في المخدرات من مصر والسعودية والأردن، ثلاث منها كانت تشغّلها المخابرات الأسرائيلية، واثنتان المخابرات المصرية، حيث كانت الوكالتان تبحثان عن معلومات يمكن استخلاصها من المهربين.
رأى بدو سيناء بعد زيادة الاستثمارات في السياحة بالجنوب أنّه تمّ تهميشهم، وأنّ الحكومة المركزية تتعامل مع أرضهم باعتبارها دجاجة تبيض ذهبًا، حيث يتمتّع رجالُ أعمالٍ مُقرَّبون من الدولة بالنصيب الأكبر من عائدات المشاريع السياحية، فحوّل البدو المرتفعات في أراضي وسط سيناء في التسعينات وبداية الألفية الجديدة، إلى مناطق لزراعة الخشخاش، وتحول البدو إلى مزارعين أثرياء، وهرّبوا المخدرات. وبحسب التقديرات المتداولة وقتها، أنتج كل فدان 5 كلغ أفيون بقيمة 40 ألف دولار، يتم نقله إلى القاهرة، ليعاد تكريره وتحويله إلى هيروين ثم يُهرَّب إلى أوروبا.
وربح البدو في تلك الفترة مئات الملايين واستوردوا الكحول والسلع الالكترونية. وأدّى وجود شباب أثرياء وفاسدين إلى تمزّق الشبكات القبلية والعائلية، إضافة إلى أن الدولة المصرية لم تكن حريصة على التعامل معهم على أساس وجود نخب قبلية ذات مصداقية في مجتمعاتهم المحلية، وهي كانت متعاونة مع الحكومة، ما يسهّل التحكّم فيهم، بل راحت تتعامل مع افراد إنتقتهم هي من بينهم، ومنحتهم امتيازات تُخوّلهم إعطاء تسهيلات وخدمات للمواطنين، مما ساهم في تصدّع القبائل وتمزّق نسيجها. لذا نرى القبيلة الواحدة في سيناء تحوي عناصر منضمة لداعش وأخرى موالية للجيش والمخابرات، مثل قبيلتي السواركة والترابين.
سيناء... شبه جزيرة الغموض
14-05-2014
جاءت ثورة يناير 2011 وخارطة سيناء منقسمة بين القبائل البالغ عددها 26 قبيلة، 13 منها في الجنوب، و13 في الشمال تعيش على الحدود مع الارض المحتلة، مثل الترابين والسواركة والحيوات، وهؤلاء الشماليون هم النشطون أصلا في عمليات التهريب، من السلاح إلى المخدرات والسجائر ومواد البناء، وأخيراً البشر إلى إسرائيل، وأبرزهم وأكبرهم السواركة.
خارطة التهريب
شهد التهريب تغيراً في خارطة الطرق بعد انسحاب إسرائيل من سيناء 1982 حيث مرّت عمليات التهريب عبر البحر أو الأنفاق تحت الأرض في الشريط الحدودي بين سيناء وقطاع غزة. وبعد تشديد إسرائيل حصارها على غزة، ارتفعت أسعار السلاح مقارنة بتهريب المخدرات والذهب.
غضّت السلطات المصرية الطرف عن عمليات التهريب إلى غزة، وارتفع سعر بندقية الكلاشينكوف إلى 15 ألف دولار، وكانت الأسلحة تأتي من السوق السوداء في مصر، الذي كان بدوره يجلب السلاح من الصعيد، أو من سرقة مخازن الجيش المصري، أو من الحدود الليبية.
وبعد دخول الألفية الجديدة، وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، بدأت مرحلة حفر آلاف الأنفاق بين سيناء والقطاع، وشهدت تلك الفترة تهريب الأسلحة الثقيلة مثل مدافع الهاون وقاذفات الـ"آر بي جي" وراجمات الصواريخ والمتفجرات، وتغيرت خريطة تهريب البضائع والاسلحة مرة أخرى بعد تولي محمد مرسي، الرئيس الإخواني المنتخب.
ظهر حينها طريقان رئيسيان، الأول من شرق السودان، وتحديداً من منطقة بورسودان، حيث كانت تأتي الأسلحة إما من الصومال أو أريتريا أو عبر شحنات تفرغها سفن إيرانية على شواطئ البحر الأحمر. وتصدّرت المشهد قبيلة الرشايدة العربية النجدية المنتشرة في شرق السودان.
وعبر قوافل سيارات الدفع الرباعي، كان أفراد قبيلة الرشايدة يحملون الأسلحة وينقلونها إلى البشاريين والعبابدة، وهي قبائل تسكن سواحل البحر الأحمر في منطقة الحدود المصرية - السودانية، ثم تصل إلى قناة السويس، وتُحمّل شحنات السلاح في قوارب صغيرة إلى داخل سيناء لتصل إلى غزة عبر الأنفاق.
تهريب البشر
تعزّز نشاط تهريب البشر بين القبائل الشمالية في سيناء حيث بدأ طالبو اللجوء السودانيون والاريتريون يعبرون سيناء في طريقهم لاسرائيل. وكانت الصحراء غير خاضعة للرقابة. ويقول الاسرائيليون أن السلطات المصرية غضّت الطرف عن الحدود الاسرائيلية التي يسهل اختراقها، فأنشأ البدو شبكات تهريب لطالبي اللجوء، وتحكّم في هذا التجارة "السواركة" أكبر قبيلة بدوية في الشمال.
وارتفع سعر التهريب من 3 آلاف دولار إلى 40 ألف دولار للشخص الواحد، واغُتصبت نساء، وقُتل بعض الناس بغرض الاتجار بأعضائهم. وجرى تعذيب طالبي اللجوء في غرف تحت الأرض، واستعبادهم لبناء فيلات لخاطفيهم ومغتصبيهم، وطلبوا من أقاربهم في إسرائيل وأريتريا والسودان دفع فدية مقابل إطلاق سراحهم بالقرب من إسرائيل.
وتشير تقديرات استقتها صحيفة "نيويورك تايمز" من منظمات إغاثة إسرائيلية إلى أن 7 آلاف لاجئ تعرضوا لسوء المعاملة في السنوات الأربع (بين 2009 و2012) مات منهم 4 آلاف شخص، وعثر السكان المحليون غالباً على أجساد ميتة للاجئين أفارقة أُلقوا في الصحراء، أو وجدوا أطرافهم مغروسة في الرمال.
وذكر أحد المهربين لصحيفة "دوتشه فيله" في آذار/ مارس 2013 عن وجود مبنى منخفض بدون كهرباء بين مدينة العريش ورفح الحدودية لا ضوء فيه سوى بعض الشموع، وقال "نحن نحتفظ بهم هناك حتى يأتينا المال من عائلاتهم" وأنهم يفعلون ذلك منذ 2009.
وتحدثت الصحيفة أن أفراداً من قبيلة الرشايدة يخطفون أحياناً اللاجئين من مخيماتهم في السودان ويسلمونهم إلى قبائل سيناء.. وهكذا بمجرد أن ينتهوا من رهينة يأتي آخر، ويتركونهم في منطقة صحراوية لا بشر فيها على الحدود مع إسرائيل حيث يصبح واحدهم مُعرضاً للموت برصاص الجيش الاسرائيلي إذا اجتاز السياج، أو السجن إذا تَمكّن من اجتيازه، أو الاحتجاز في أوضاع مزرية بالسجون المصرية.
وذكر تقرير "هيومان رايتس ووتش" 2014 أنه منذ منتصف 2010 ثمة مئات الآلاف معظمهم من أريتريا تمّ اختطافهم من شرق السودان وبيعوا لمهربي البشر في سيناء، وجمعوا آلاف الدولارات منهم، وزاد سعر الفدية بين عامي 2000 و2012 من 3 آلاف دولار إلى ما يتجاوز 40 ألف دولار، ومنذ حزيران/ يونيو 2012 توقف طريق التهريب في سيناء، ولكن الخطف استمر.
كان نظام الاختطاف والتعذيب مُعبّداً بلا مشاكل أو مقاومة، وتطوّر إلى تواصل بين بدو سيناء وقبيلة الرشايدة على الحدود المصرية السودانية، حيث اختطفت تلك القبيلة طالبي اللجوء الذين فروا إلى مصر ولم ينووا استكمال رحلتهم إلى اسرائيل، ونُقلوا إلى مخيمات في دلتا النيل، ثم رُحلوا إلى سيناء.
وكسبت قبائل وشبكات التهريب والاختطاف والابتزاز أرقاما خيالية في عام 2010، مئات الملايين من الدولارات.. حتى جاء "الربيع العربي".
كان يكفي تبريراً أن يرتدي الدافع الاقتصادي لتجارة الأسلحة والمخدرات والأشخاص ومعها الاغتصاب والنهب.. عباءة "الجهاد" الديني. كما تُسجّل هنا أهمية الروابط القبلية في تشكيل شبكات التهريب وفي نجاح عملياته واتساعها وفي امتلاكها لحمايات اجتماعية.
بعد تضعضع السلطات المصرية وتفجير خط أنابيب الغاز، أقامت إسرائيل سياجاً على الحدود بسبب خوفها من طالبي اللجوء. ثم وبعد تمكّن خلية مسلحة من اختراق الحدود الاسرائيلية في صيف عام 2011 وهجومها على حافلة إسرائيلية بالقرب من إيلات، بدأت إسرائيل تنظر الى سيناء كتهديد حقيقي.
وفي العموم تعاملت إسرائيل مع سيناء باعتبارها مقسمة إلى قسمين: الشمال حيث أرض الإرهاب والخطف والاغتصاب، والجنوب أرض الشواطئ والسياحة وأشجار النخيل والشعب المرجانية.
ونشأت في عام 2012 منظمة "أنصار بيت المقدس"، بعض أعضاءها من السواركة وبعضهم من الأجانب، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 أعلنوا ولاءهم لداعش.
وبسبب إكمال إسرائيل لسياجها بهدف وقف تدفق طالبي اللجوء عام 2013، انخفضت تجارة البشر إلى بضعة عشرات، ولكن السواركة لم يتوقفوا عن ذلك، وأعادوا توجيه طالبي اللجوء إلى ليبيا. ويذكر مراقبون أن مخيمات الاتجار بالبشر واصلت عملها في الدلتا واستخدمت الاموال المحصلة هنا لتمويل الجماعات المتطرفة في سيناء والعمليات الإرهابية.
ويبرز اسم قبيلة السواركة لسيطرتها على ساحل شمال سيناء وقربها من رفح وقطاع غزة، في تهريب الأسلحة والذخيرة لحماس، وطوّرت القبيلة تجارة الأنفاق المربحة.
وكان يكفي أن يرتدي الدافع الاقتصادي في تجارة الأسلحة والمخدرات والأشخاص والاغتصاب والنهب.. عباءة الجهاد الديني.
ويظل التساؤل المقلق هو هل يمكن للقبائل الشمالية أن تتدخل في الجنوب، وتشعل العمليات الإرهابية والانتقامية لتخريب السياحة وقتل أذرع الحكومة المركزية المتمثلة بالجيش والشرطة.
يعجز الجيش عن الإشراف على الطرق الصحراوية أو السواحل الطويلة، وتتخوف القبائل الجنوبية في حالة انضمام قبيلة الترابين إلى السواركة، أو قبيلتين أخريين فقط، بألا تتمكن قبائل الجنوب والوسط من الاعتماد على الجيش.
دور الحكومة المصرية بوقف تهريب البشر
في تقرير نشرته "الخارجية الأميركية" على موقعها الرسمي لعام 2017، تقيِّم فيه الجهود المصرية لمواجهة تهريب البشر عبر سيناء، ذكرت أن الحكومة لم تلبِّ معاييراً مهمة في عمليات سعيها للقضاء على الاتجار بالبشر، وإن كانت بذلت جهوداً في هذا السبيل.
فعلى الرغم من أن الحكومة المصرية انشأت ثلاث محاكم متخصصة لمقاضاة جرائم الاتجار بالبشر، وقاضت مسؤولاً حكومياً بتهمة التواطؤ في تلك الجرائم. وعلى الرغم من اعتمادها خطة وطنية جديدة وإجراءها العديد من حملات التوعية، وبرامج تدريب تعالج الأشكال المختلفة للاتجار بالبشر. إلا أنها من جهة أخرى، لم تستوف المعايير الدنيا في المجالات الرئيسية للاتجار بالبشر بحسب التقرير الأميركي، فلم تعلن عن الخدمات التي تقدمها - إن وُجدت - لغالبية الضحايا، ولم توفّر خدمة الإيواء لهم، ولم تنفذ الإجراءات التي أعلنتها في برامجها، وواصلت محاسبة ومعاقبة ضحايا مجهولي الهوية بسبب أفعال ارتكبوها كانتهاكهم قوانين الهجرة.
حافظت الحكومة على جهودها في تنفيذ قانون مكافحة الاتجار بالبشر الذي حَظّر في عام 2010 جميع أشكاله. وينص القانون المصري على عقوبات تتراوح بين 3 سنوات و15 سنة سجن وغرامات.
ولم تتخذ الحكومة المصرية موقفاً حازماً من التهريب عبر الأنفاق سوى في عام 2014 حين دمرّت أكثر من ثلاثة آلاف منزل على جانبي الحدود بين غزة وسيناء لإنشاء منطقة عازلة لتقطع الوصول إلى الأنفاق، وهو الامر الذي تسبب بكارثة إنسانية.
في عام 2015 نشرت "نيويورك تايمز" أن المهربين يخشون أن تكون مصر استقرت على استراتيجية تنذر بتهديد الأنشطة التهريبية، وهي إغراق الأنفاق كي تنهار. فقد غمرت مصر جزءا من منطقة الحدود يبلغ طوله 9 أميال مرتين، مما تسبب في إلحاق الضرر بعشرة أنفاق أو أكثر.
وذكرت الصحيفة أنه من أصل 250 نفقا فما زال هناك 20 نفقاً يعمل، ونقلت عن مهربين قولهم إن هذه هي نهايتهم: أبو جزار، أحد المهربين (42 عاما، وهو اسم مستعار)، قال للصحيفة أن قصف الطائرات أهون، إذ يمكن بعده إصلاح الأنفاق.
لعبت الأنفاق دورا مركزياً في اقتصاد قطاع غزة البالغ عدد سكانه أكثر من مليوني نسمة، وقد دخلت العديد من السلع إليه عبر الأنفاق، ومنها السيارات والاجهزة المنزلية ومواد البناء. وتزود الأنفاق السكان هناك بـ260 ألف غالون ديزل كل يوم، وآلاف الأطنان من البضائع.
وقد مارس السيسي مزيداً من الضغوط على غزة لإغلاق معبر رفح الحدودي. والانفاق القليلة التي بقيت صالحة للعمل قادرة على نقل البضائع الصغيرة مثل الهواتف المحمولة والسجائر.
ويقف القائمون على التهريب في سيناء بين سندان الجيش الذي أقام مناطق عازلة على الحدود مع غزة وأغرق الأنفاق، وبين داعش التي أعلنت وقوفها ضد عمليات تهريب بعض البضائع، كالسجائر، فدخلت بذلك بعض القبائل طرفاً في الحرب على داعش (في تشرين الاول/ أكتوبر 2017 أعلنت قبيلة الترابين الحرب على "ولاية سيناء"، وفسرت القناة العاشرة الاسرائيلية سبب ذلك بوقوف داعش ضد عمليات التهريب).
وهذا أيضاً جعل السلطات المصرية والجيش أكثر ميلاً لغض الطرف عن أنشطة التهريب، خاصة أن المشاريع المتوقعة في سيناء، خاصة في جنوبه، بعيدة عن تمكين البدو الأثرياء الذين تربحوا من تجارة المخدرات والتهريب، من التملك والاستثمار "الشرعي".
تهريب المخدرات
يأتي المهربون المصريون، ومعظمهم من البدو، الى السياج الحدودي مع إسرائيل البالغ طوله 200 ميل، لإلقاء أكياس مواد مهربة على نظرائهم من البدو في الأراضي المحتلة، والذين يجمعون البضائع في سيارات الدفع الرباعية وفي شاحنات، لإعادة توزيعها.
ويقول الاعلام الاسرائيلي أن هؤلاء المهربين لا علاقة لهم بداعش والإرهابيين، ولكنهم مسلحون ويفتحون النار بشكل عشوائي إذا ما واجهتهم قوات إسرائيلية. وتختص "فرقة كاركال" التابعة للجيش الاسرائيلي بالتصدي لتلك المحاولات.
وحتى 2013، اعتُبِرت سيناء بالنسبة لاسرائيل مجالاً غربياً متوحشاً، ومنطقة واسعة لتهريب المخدرات والأسلحة، والسجائر، وعاملات الجنس. وبنت إسرائيل جداراً ارتفاعه 5 أمتار اكتمل في كانون الثاني/ يناير 2013.
أدى الجدار إلى ارتفاع ثمن الحشيش في إسرائيل، وأوقف تدفق المهاجرين الأفارقة بشكل شبه كامل، ولكن لا يزال بعض بدو سيناء يهربون منتجات مثل الهيروين إلى إسرائيل.
رأى بدو سيناء، بعد زيادة الاستثمارات في السياحة بالجنوب، أنّه تمّ تهميشهم حيث يتمتّع رجال أعمالٍ مُقرَّبون من السلطة بالنصيب الأكبر من عائدات المشاريع السياحية المنشأة بعد انسحاب اسرائيل منها في 1982.. فحوّلوا المرتفعات في أراضي وسط سيناء إلى مناطق لزراعة الخشخاش وصاروا مزارعين أثرياء، وهرّبوا المخدرات.
وجنود الاحتلال، وإن كانوا يوقفون محاولات التهريب، ولكنها ليست هدفا رئيسياً للجيش الاسرائيلي، فمكافحة المخدرات من مهام الشرطة الاسرائيلية. وقد صرح قادة إسرائيليون بأنهم لا يميلون إلى التضحية بأرواح جنودهم من أجل صدّ المخدرات.
ولكنهم يتعاملون مع عمليات التهريب بحس أمني حتى لا تصبح أماكن لتهريب أكياس مليئة بالمتفجرات، أو تسلل الإرهابيين إلى حدودهم.
ليبيا.. التهريب اقتصاد وثقافة
شهدت مناطق مصر الغربية وشرق ليبيا نشاطات كبيرة في تهريب السلاح إلى صعيد مصر مروراً بمناطق الواحات في الصحراء الغربية المصرية، وبرز اسم قبائل "أولاد علي" التي يسكن بعضهم مدينة مرسى مطروح حتى الاسكندرية بالقرب من الحدود الليبية، والجزء الآخر من القبيلة داخل ليبيا. واتجهت تلك القبائل إلى تهريب السلاح بعد سقوط القذافي.
يعتبر التهريب، خاصة لدى قبيلة أولاد علي البدوية، كممارسة اقتصادية مترابطة تتجسد في تواصل اجتماعي وسياسي وثقافي واسع، بما يتجاوز حدود الدولة، ولا يكترث بسيادتها وإن تصادم مع سلامة أراضيها. وهو نشاط له عمق تاريخي أبعد من "دول ما بعد الاستعمار"، بحسب دراسة نشرها عام 2017 البروفيسور توماس هوسكين من "معهد شاتام هاوس" البريطاني وهي تخص شمال أفريقيا.
يعيش قبائل أولاد علي في مصر على طول ساحل البحر المتوسط (500 كلم من منطقة الحمام إلى السلوم)، ويمتد وجودهم حتى "واحة سيوة"، و80 في المئة من سكان مرسى مطروح (150 ألف نسمة) هم من البدو، ويعيش في محافظة مرسى مطروح قبيلة أولاد علي ويمثلون 85 في المئة من السكان.
وعندما دخلت مرسى مطروح نطاق المشاريع سياحية، تغيّر شكل المشهد في المنطقة الغربية اقتصادياً، وأشعل ذلك نزاعات حادة ومستمرة على الأراضي بين المستثمرين والبدو وبين البدو أنفسهم. ولكن بين عامي 2005 و2011 بدأت تولد - وإن ببطء - فرص عمل جديدة للبدو الحضريين من الشباب، في الفنادق والمطاعم، وبات للسياح المصريين أهمية خاصة كعملاء للسلع المهربة، فيما سُمي بـ"سوق ليبيا" بمرسى مطروح.
وتعتبر مدينة السلموم الحدودية مع ليبيا بلد "أولاد علي"، يعبرون من خلالها الحدود إلى ليبيا، ونواة تلك السوق في مدينة طبرق الليبية التي يبلغ عدد سكانها 100 ألف شخص، وهي تقع شرق برقة الليبية. وحوالي 15 ألف من ابناء قبيلة "أولاد علي" يسكنون في ليبيا. وهو ما يعيد هنا التأكيد على أهمية الروابط القبلية في تشكيل شبكات التهريب وفي نجاح عملياته واتساعها، وفي امتلاكها لحمايات اجتماعية.
ويختلف النشاط البدوي على الحدود المصرية الليبية عن نظيره في سيناء، على الرغم من انتقاد "أولاد علي" المستمر للحكومة المصرية من أنهم لا يزالون يعيشون في ظل ظروف شبيهة بالظروف الاستعمارية، حيث التهميش الاقتصادي والثقافي وحيث الاستثمارات على أراضيهم ليست لهم، وهم مهمشون في الخدمات، ويعاملون معاملة دنيا. إلا أنهم لا يعتبرون أنفسهم أقلية محرومة، كما لم يشاركوا في النزاعات أو الحروب الاقليمية مثلما فعل بدو سيناء الذين حاربوا الاستعمار ووقفوا الى جانب المقاومة الفلسطينية، وقاموا بتهريب الأسلحة إليها منذ نشأة الكيان المحتل. ولم يكن "أولاد علي" هدفاً لعمل عسكري قاسٍ، أو لتدابير أمنية في إطار "الحرب على الإرهاب"، على الرغم من أن بعضهم شاركوا في الاتجار بالبشر والسلاح والمخدرات. وحصلوا على بعض الفوائد عبر مبادرات التنمية في عهد عبد الناصر، حيث وصلت في تشرين الاول/ أكتوبر 1959 قافلة للتعمير واستصلاح الأراضي، وأقيمت مدارس ومراكز صحية وشبكات طرق.. ولكن المشاريع الكبرى والطموحة لم تنفذ بسبب هزيمة 1967. ولا يزال فشل الدولة في تنفيذ سياسات اقتصادية شاملة تخصهم كما افتقارهم للتمثيل السياسي، نقاطاً بارزة في نقاشاتهم مع الحكومات المصرية.
وقد دعم القذافي بعض عائلات "اولاد علي" مالياً لكسب التأثير على اقربائهم من القبائل من الجانب المصري للحدود، أو لتمكين التهريب عبر الحدود والتجارة.
ومن أهم الحوافز الاقتصادية للتهريب عبر الحدود المصرية - الليبية موانئ التجارة الحرة في جميع أنحاء ليبيا، إذ أن الفرق في السعر كبير بين منتجات غير مدفوعة الضرائب أو منخفضة الضريبة، من البنزين إلى منتجات قادمة من المغرب وتونس مثل العطور والأعشاب الطبية والمشغولات اليدوية والمصنوعات الجلدية والملابس، والأجهزة الكهربائية ومستحضرات التجميل وصولاً الى الحواسيب الصينية، حيث تفرض مصر ضرائب مرتفعة على الواردات.
ومكنت صلة القرابة بين "أولاد علي" من الاستفادة من الثروة النفطية الليبية حيث رغب الكثير من المصريين منهم في الوظائف الليبية. وترتبط قبائل إقليم برقة الشرقي في ليبيا بآخرين في الصحراء الغربية في مصر وتوجد بينها علاقات ووشائج مصاهرة ونسب.
وأعطى ذلك فرصة لاختباء أحد أفراد العائلة في دولة أخرى إذا ما أثار مشاكل في الدولة الأولى، مما منحهم فرصة لتجريب التواصل الاجتماعي والثقافي العابر للأوطان، وهي ميزة ليست موجودة لبدو سيناء مثلا لوقوعهم بين فكي مصر واسرائيل.
لم تكن الدولة حريصة على التعامل مع البدو على أساس وجود نخب قبلية ذات مصداقية في مجتمعاتهم المحلية، وهي كانت نخباً متعاونة مع الحكومة ما يسهّل التحكّم، بل راحت تتعامل مع أفراد من بينهم انتقتهم هي، ومنحتهم امتيازات تُخوّلهم إعطاء تسهيلات وخدمات للمواطنين، مما ساهم في تصدّع القبائل وتمزّق نسيجها.
تعتبر الحدود المصرية الليبية بوابات رئيسية للأسلحة و"الجهاديين"، ويتم تهريب الاسلحة والاشخاص إلى سيناء ومنها إلى غزة، وتأتي الأسلحة من ضواحي بنغازي إلى ميناء مرسى مطروح ثم إلى سيناء.
وتذكر تقارير وجود 5 طرق رئيسة لتهريب الاسلحة، اثنان منها عبر مرسى مطروح، واثنان من واحة سيوة، وطريق آخر عبر قوارب الصيد من مرسى مطروح إلى شمال سيناء. وتعتبر مدينة السلوم محل العمليات الرئيسي لضبط الأسلحة، وثمة نشاط في شمال المدينة وجنوبها، وفي الطريق الذي يربط مرسى مطروح بالسلوم.
الجيش المصري يحتفظ بكمائن لمنع عمليات التهريب وأشهرها كمين واحة الفرافرة في محافظة الوادي الجديد. وقد ذكر الأمن المصري هذا العام (2018) أنه أوقف 70 في المئة من عمليات التهريب مقابل 25 في المئة العام الماضي. ولا يوجد تعاون عملي على الحدود ما بين الدولتين الليبية والمصرية. وبسبب انعدام الثقة السياسية تعطّل تنفيذ الاتفاقات الأمنية. كما تعاني قوات الحدود الرسمية الليبية نقصاً في التمويل والبشر والتسليح.
وتبنّى معظم أبناء قبيلة "أولاد علي" الفكر السلفي خاصة في مرسى مطروح والسلوم، وهي نوع من السلفية السلمية المستكينة، واستبدلوا القانون العرفي البدوي بالشريعة الإسلامية، وساعد السلفيون في تعزيز تقارب أبناء مرسى مطروح مع الجيش المصري ضد الإخوان.
وتذكر التقارير الرسمية أن عملية إعادة الاصطفاف مع القبائل أعطت ثماراً إيجابية، حيث ساعدت نخب "أولاد علي" ومجتمعات محلية في مكافحة انتشار الأسلحة والتجارة غير القانونية عبر الحدود، وتوصلوا إلى اتفاق مع الحكومة عام 2013 يقضي بتسليم أكثر من 1500 قطعة سلاح مهربة مقابل إسقاط الحكومة دعاوى قضائية ضد عناصر من قبائلهم.
وتدخلت تلك القبائل بنجاح في مفاوضات للإفراج عن سائقي الشاحنات المصريين المختطفين في ليبيا أواخر 2013.
وتنشر وسائل الاعلام المصرية أخبارا عن مسؤولين تم إلقاء القبض عليهم لتقاعسهم في صد عمليات التهريب، وأحيانا لمشاركتهم أو تواطئهم، في محاولة للحد من انتشار "ظاهرة" التغاضي أو المشاركة في تلك الأنشطة.
ومن خلال المعطيات، يمكن أن نتوقع انخفاض مستوى الاتجار بالبشر عبر الحدود المصرية الليبية بموجب اتفاقيات تعاون بين مصر وليبيا وإيطاليا. وكذلك تعمل الدولة جاهدة على التصدي للتهديد القادم من المتشددين الدينيين، سواء بتهريب عناصرهم، أو الأسلحة، خاصة الثقيلة منها. ويحتمل أن تستمر الدولة في غض الطرف عن البضائع والمخدرات المهربة، والتي يحقق عبرها أبناء تلك القبائل أرباحاً، وتجعلهم أقل مطالبة بفرص التنمية، أو مزاحمة استثمارات الجيش في المناطق السياحية، وهي السياسة التي لطالما اتبعت في سيناء.
محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.