للاجتماع الديني في سيناء خصوصية تاريخية تميزه عن نظائره في وادي النيل، بل يكاد يكون في معظمه أكثر التصاقاً وتأثراً بمجريات الأحداث في فلسطين مما يجري في العاصمة المصرية ومدن قناة السويس وريف الدلتا. لعل تلك الخصوصية هي التي أنجحت مساعي تنظيم القاعدة، أخيراً في 2010، لإنشاء فرع له في مسقط رأس زعيمه المصري، أيمن الظواهري، بعدما فشل مبعوثه، محمد خليل الحكايمة، في هذه المهمة عام 2006. حاول الحكايمة إنشاء فرع للقاعدة في «أرض الكنانة»، أي وادي النيل، وكان الهوى المجتمعي وبطش السلطة أبعد ما يكونان عن الاستجابة لهذا الطموح.
منذ 2009، دأبت القاعدة على اختيار بيئة مناسبة لها: فدائية الهوى، تحب الجهاد وتتصالح مع المصطلح، تبغض إسرائيل عن تجربة وخبرة معيشة عن قرب، ذات مظْلَمة استثنائية مع السلطات المصرية وميل للتمرد عليها، تعتاد ثقافتها السلاح وتفتخر بالمهارة في استخدامه، ولديها استعداد ديني سلفي. أما الأهداف المرحلية، فكان اختياراً ذكياً أن تنْصبّ كل العمليات حتى نهاية 2011 على خط الغاز الطبيعي المصدر إلى إسرائيل بأبخس الأثمان، دون إراقة نقطة دماء واحدة. فأضحت شخصية «الملثم» المجهولة حتى منتصف 2012 محل إعجاب جماهير مواقع التواصل الاجتماعي من شباب التوجهات السياسية كافة، حتى أعلن تنظيم «أنصار بيت المقدس» عن نفسه وعن مسؤوليته.
تاريخ الاجتماع الديني في سيناء لا يزيد عن عمر النكبة/النكبات الفلسطينية، وحاضره معقد، ومستقبله مشوّش. وعلى الرغم من تنوع الأطياف الإسلامية التي اتخذت من شبه الجزيرة مستقراً لها ومسرحاً لنشاطها، إلا أن المشترك بينها جميعاً هو «الجهاد»، سواءً بمعناه المباشر والبسيط أم بالمعنى الأيديولوجي المثير للجدل.
من كتائب الإخوان إلى الصوفية الجهادية
يعتبر كتاب نعوم شقير عن سيناء أوفى مرجع في وصفها اجتماعياً في النصف الأول من القرن العشرين. وعلى الرغم من النقد الموجه له ككتاب استطلاعي استشراقي، ربما كان لخدمة الاستعمار أكثر من كونه خدمة للبحث العلمي والتراث الإنساني، إلا أن قيمته العلمية تظل كبيرة لكونه المرجع الأساسي عن هذه الفترة. يطلق شقير على أحوال التدين في المجتمع السيناوي في تلك الفترة أوصافاً تختلف بالكلية عن الصورة النمطية التي قد تتبادر للذهن المعاصر حين الحديث عن شبه جزيرة حاضنة لجماعات متشددة ومتطرفة دينياً. لم يعرف أغلب أهل سيناء التدين بمعناه السائد حالياً، بل انتشرت بينهم العديد من الممارسات الوثنية، ولم يكن أغلبهم منتظماً في الصلوات (حتى صلاة الجمعة)، وكانت الممارسة الوحيدة التي تربطهم بالإسلام هي ذبح الأضحية في عيد شهر ذي الحجة. كانت معسكرات كتائب الإخوان المسلمين المشاركة في حرب 1948، والتي تمركزت في كل من العريش وسد الروافعة، أول تجمع ديني في سيناء. وكانت هذه هي نقطة بداية وجود فكر الإخوان المسلمين وتنظيمهم في شبه الجزيرة. لم يدم الأمر طويلاً حتى قام انقلاب تنظيم الضباط الأحرار في تموز/ يوليو 1952، ثم توترت العلاقة بين مجلس قيادة الثورة والإخوان المسلمين، فطورد إخوان العريش وانتهى المقام بأفرادهم إلى الذوبان في المجتمع، أما القادة والرموز فهاجر بعضهم إلى القاهرة، ولحق الآخرون من عائلة الشريف بأقاربهم في الأردن حيث حصلوا على الجنسية وصار أحدهم وزيراً للأوقاف لاحقاً.
بالتزامن ودون ترتيب مسبق، انتقل الشيخ الصوفي أبو أحمد الغزاوي من غزة إلى سيناء، فحلّ في جوار صديقه وتلميذه عيد أبو جرير، شيخ عشيرة الجرارات من قبيلة السواركة. شهد شتاء 1953 1954 نشأة أول مقر للطريقة العلوية الدارقوية الشاذلية، واجتهد أبو جرير بعد أن تلقى الطريقة في نشر زواياها منطلقاً من جورة الشيخ زويد إلى العريش حتى بلغ قرية الروضة بين العريش وبئر العبد. اندلعت حرب السويس 1956 إثر قرار تأميم القناة، وشارك جيش الاحتلال الصهيوني في العدوان الثلاثي على مصر من جهة الأراضي الفلسطينية المحتلة. لم يدم العدوان طويلاً، لكنه أثمر علاقة قوية ووطيدة بين الجيش المصري ومخابراته الحربية وصوفية سيناء من المصريين والفلسطينيين على حدٍ سواء.
وقعت سيناء كلها تحت الاحتلال في حزيران / يونيو 1967، ولم تتحرر المنطقة الحدودية إلا في نيسان / أبريل عام 1982. وعلى مدار عقد ونصف من الزمان، حشد أبو جرير طاقات طريقته ومريديه للجهاد المتعدد الوسائل ضد حكومة الاحتلال وجيشه، متعاوناً سراً مع المخابرات الحربية المصرية. قاوم أبو جرير سياسات التهجير، وناضل ضد سياسة شراء عقارات السكان المحليين وأراضي الفقراء الذين لم يكونوا يعرفون قيمتها الاستراتيجية. ومن قبيلته «السواركة»، تطوع تلميذه حسن خلف مع القوات المسلحة وانطلق مع القوات الخاصة المصرية من بور فؤاد في أقصى الشمال الغربي من سيناء في العديد من العمليات الفدائية ضد قوات الاحتلال.
أُسِر المجاهد الصوفي حسن خلف وحوكم في سجون الاحتلال بمجموع أحكام فاقت القرن وثلث القرن من السجن، ثم عاد إلى مصر في صفقة تبادل أسرى. كرّمت القوات المسلحة المئات من رجال سيناء ونسائها على الأدوار البطولية التي قاموا بها في جهاد الاحتلال، وكانت نسبة لا بأس بها من هؤلاء المجاهدين من المتصوفة. أنشئت جمعية لمجاهدي سيناء، أي محاربيها القدامى غير النظاميين في الجيش، وبشكل غير رسمي أطلق لقب «شيخ مجاهدي سيناء» على البطل الصوفي حسن خلف، شيخ عشيرة الزيادات من قبيلة السواركة، وأحد تلاميذ الراحل عيد أبو جرير ومريديه.
من الجماعة الإسلامية إلى «القاعدة» و«داعش»
في المسجد العباسي بالعريش، أسس صلاح شحادة «الجماعة الإسلامية» في سيناء عام 1979. اختار شحادة الرحيل إلى غزة مع الانسحاب الإسرائيلي من العريش، وربما كانت دوافعه في ذلك عائلية واجتماعية أكثر من كونها سياسية أو تنظيمية. لم يكن عود الجماعة الوليدة قد اشتد قبل رحيل مؤسسها، الذي صار في ما بعد قائداً قسّامياً شهيراً في الجناح العسكري لحركة حماس، فانفرط عقد مجموعة الشباب الذين كانوا قد تتلمذوا عليه، وانضم أبرزهم إلى الإخوان المسلمين، فصار عبد الرحمن الشوربجي، في ما بعد، أشهر رموز الإخوان في العريش ونائب المدينة في برلمان ما بعد ثورة يناير 2011.
شهدت سيناء تأسيساً ثانياً لفرع جماعة الإخوان فيها عقب تحرير سيناء. لكن الساحة الاجتماعية الدينية لم تكن خالية للإخوان وحدهم. عاد أبناء سيناء المهجّرين بسبب الاحتلال، والتحق الشباب بالجامعات المصرية في وادي النيل، فعادوا إلى جزيرتهم بالأفكار الجديدة، والنزاعات الفكرية بين التوجهات الإسلامية المختلفة، كـ«التبليغ والدعوة»، و«الدعوة السلفية السكندرية» وما انشق عنها ممن عرف بـ«دعوة أهل السنة والجماعة». انحسر وجود الإخوان المسلمين في بئر العبد، الأقرب إلى وادي النيل، والعريش، العاصمة الحضرية، ولم يستطع التمدد في البيئة البدوية في المنطقة الحدودية ووسط سيناء وجنوبها سوى الفكر السلفي الشعبوي البسيط.
ظلت المساحة الأوسع من سيناء في عهد مبارك في حالة بساطة دينية اجتماعية غير مسيّسة، لكنها مفعمة بروح الفداء والنضال وحب الجهاد والاستشهاد في أي حرب محتملة (مقدّسة) ضد إسرائيل. وتركّز التعقيد الأيديولوجي والأمني في مساحة محدودة من شمال سيناء، تمتد على مسافة 40 كيلومتراً من العريش العاصمة حتى حدود رفح وجنوبها. اجتاحت مصر موجة من العمليات الإرهابية العنيفة في الثمانينيات والتسعينيات، كانت سيناء في معزل تام عنها، حيث لم تكن الأفكار التكفيرية قد وصلتها بعد.
في منتصف التسعينيات، نُقل ضابطان في مباحث أمن الدولة من الصعيد إلى العريش، فاستنسخا طرائق البطش المتبعة في وادي النيل مع المشتبه بهم من متديني شمال سيناء، رغم ما في ذلك من تعسف وعدم تطابق في الظروف والسياق. لم يكتفيا بذلك، بل أمعنا في إذلال المعتقلين وذويهم، فأوصيا بإرسالهم إلى السجون البعيدة وتدويرهم عليها، فكانت النتيجة جلسات مكثفة مع كبار قادة الفكر الجهادي والتكفيري حول سجون مصر كلها.
ومن بين العشرات ممن تم تلفيق القضايا لهم وسجنهم عدة سنوات، خرج طبيب الأسنان خالد مساعد من السجن وعاد إلى سيناء ليؤسس «جماعة التوحيد والجهاد»، التي قامت بتفجيرات طابا 2004 ونويبع 2006.
قتل خالد مساعد في مواجهات مع الشرطة المصرية، وفرّ كثير من أعضاء جماعته المفككة إلى رفح الفلسطينية.
لاحقاً، تصاعد الصدام بين حكومة حماس والتكفيريين من أتباع عبد اللطيف موسى، وانتهى المطاف بدك مسجد ابن تيمية على رؤوس من فيه في صيف 2009، فعاد التكفيريون المصريون في صحبة المخضرمين قتالياً ممن فرّوا من تكفيريي جنوب قطاع غزة، وكانت نواة جماعة «مجلس شورى المجاهدين أكناف بيت المقدس». حتى منتصف 2012، انصبّت عمليات «أنصار بيت المقدس» على المصالح الإسرائيلية في سيناء (تفجير خط الغاز) دون إراقة دماء، ثم انتقلت عملياتها إلى إيلات (أم الرشراش) والنقب الفلسطيني المحتل، جنباً إلى جنبِ عمليات أقرانهم «أكناف بيت المقدس».
اعتزلت أطياف السلفية الجهادية العملية السياسية تماماً، ولم تفوّت فرصة دون أن توبّخ الإسلاميين السياسيين على انخراطهم في طريق الديموقراطية الإجرائية وترك «طريق الجهاد» كسبيل أوحد لإقامة الدولة الإسلامية. وقع الانقلاب العسكري في 3 تموز/ يوليو الماضي، وانتقلت مواجهات الجماعات المسلحة إلى الداخل المصري لأسباب عديدة مركبة. انزوى إخوان العريش من المشهد بعدما طوردت قياداتهم، ولم تنفصم العرى القديمة التي تجمع الجيش بالصوفية، وصار الجهاد نزعة أيديولوجية يحتكر رفع رايتها في سيناء جماعة أنصار بيت المقدس، تلك التي حسمت موقفها من الصراع بين «القاعدة» و«داعش» فمالت ناحية الأخيرة مستسهلة تكفير المجندين إجبارياً، وغير مكترثة بوجود المدنيين في محيط عملياتها التي تستهدف القوات النظامية في المقام الأول، سواء في شمال سيناء أو جنوبها، أم في الإسماعيلية والدلتا، أم في قلب العاصمة نفسها.