تعمل الإدارة الأميركية منذ بضع سنوات على وضع إستراتيجية جديدة، هدفها الأساسي تخفيف الاعتماد على الخارج وإعادة نفوذها الاقتصادي كما كان قبل ولاية بوش الابن. بدأت هذه الإستراتيجية تتوضح بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة، وهي تتمفصل حول الدفاع والدين العام والطاقة.
تعاني الولايات المتحدة الأميركية منذ أكثر من 30 سنة من عجز في ميزانيتها التجارية (بين 200 و600 مليار دولار سنويا، حسب السنوات) سمح لدول عدة مصدِّرة لها، أهمها الخليج واليابان والمانيا والصين (ابتدأ من سنة 2000 بالنسبة لهذه الأخيرة) بأنْ تُراكم فائضا كبيرا من الدولارات. أعيد استثمار هذه الأموال في الولايات المتحدة في سندات الخزينة بشكل أساسي، إذ تَرافق العجز التجاري مع العجز في ميزانية الدولة نتيجة الانخفاض المتواصل لإدخار الأميركيين بين 1982 و2008، والارتفاع الهائل للميزانية الدفاعية، خاصة مع بوش الإبن (+ 400 مليار دولار سنويا). فبالرغم من أن ميزانية الدفاع الأميركية أصبحت توازن ميزانيات أوروبا والصين وروسيا مجتمعة، فلقد تمكنت الإدارات الأميركية المتتالية من تمويل ذلك بطريقة غير مباشرة، من خلال الرساميل الاجنبية المستثمَرة في تلك السندات.
استطاعت الإدارة الأميركية لسنين طويلة أن تمتص كل الادخار العالمي ـ حوالي 6000 مليار دولار! ـ وكأن الدول ذات الفائض المالي موّلت الحروب الأميركية لسنين طويلة. وكان من الممكن ان يستمر هذا الوضع طويلا، كما حصل بعد الحروب السابقة (فيتنام، العراق)، إذ ينتخب الأميركيون بعد كل حرب تقريبا رئيساً من الحزب الديمقراطي يعمد إلى تخفيف ميزانية الدفاع والدين العام، وهو ما حصل مع كارتر وكلينتون وأوباما. ولكن هذه المرة، ونتيجة الأزمة الاقتصادية، وبالرغم من الانسحاب من العراق، لم يتمكن أوباما من تخفيف عجز ميزانية الدولة أو الدين العام، بل بالعكس ازداد ذلك العجز بشكل كبير، إذ تعدى 100 في المئة من الدخل القومي، بعد أن كان أقل من 50 في المئة في أواخر عهد كلينتون، بالمقارنة مع ميزانية سنة 2000. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي عانت من الارتفاع المفاجئ في عجز ميزانيتها خلال الأزمة، نفهم أن الادخار العالمي لم يعد كافيا لسد العجز في ميزانيات الحكومات الغربية. وهذا ما تعبر عنه أزمة الديون الحالية في أوروبا. «فالحلقة الفاضلة» كُسرت بعد سنة 2008، إذ لم تعد الولايات المتحدة تستطيع الاعتماد على الخارج لتمويل ميزانيتها وبالتالي حروبها.
والأصعب من ذلك ان الولايات المتحدة لا تستطيع بعد الآن ان ترد ديونها الا إذا بقي معدل الفوائد على الديون أقل من نمو الدخل القومي (حوالي 2 في المئة حاليا)، وإذا ألغت العجز في الميزانية العامة. فإذا كانت المسألة الاولى ممكنة لبضع سنوات بفضل سياسة البنك المركزي الأميركي (شراء سندات خزينة...)، فالمسألة الثانية تتطلب حتما تخفيض الميزانية الدفاعية والأمنية بأكثر من 400 مليار دولار سنويا، حتى لا تتعدى 3 في المئة من الميزانية العامة. وهذا لا يمكن أن يتم إلا بسحب القوات الأميركية من أفغانستان وأوروبا والشرق الأوسط. وقد بدأ تخفيف القواعد العسكرية من أوروبا، وجرى تأكيد الانسحاب من أفغانستان. إلا أن معضلة انسحاب القوات من الشرق الأوسط، ما زالت ماثلة، حيث تعتمد الولايات المتحدة بحوالي 15 في المئة على النفط الخليجي.
بعد مسألتي تخفيض الدين العام وميزانية الدفاع، نصل إلى النقطة الثالثة من الإستراتيجية الأميركية: تخفيف اعتماد أميركا على النفط الخليجي، وهو ما سيكون بمثابة حجر الزاوية للإدارة الجديدة. تقول بعض التقارير ان الولايات المتحدة الأميركية ستستغني تماماً عن نفط الخليج قبل نهاية العهد الرئاسي المقبل، أي سنة 2016.
ولكن، كيف سيتمكن الأميركيون من الاستغناء عن النفط الخليجي؟ خاصة انه لا توجد طاقة بديلة للنفط يمكنها تعويض الفارق. هذه المعضلة وجدت لها حلاً في السنوات الأخيرة في الغاز الطبيعي.
الغاز الطبيعي متوفر بكميات كبيرة في الولايات المتحدة، إذ أن التقنيات الحديثة أسهمت باكتشاف أكبر مخزون غاز في الكرة الأرضية، وهو يقع في الولايات المتحدة. إذا أضفنا إلى ذلك ان سعر وحدة الطاقة المنتَجة من الغاز أقل بكثير من الطاقات الأخرى (نتيجة انخفاض سعر الغاز أكثر من 70 في المئة في السنوات الأخيرة)، وأن نقله واستخدامه بعد تسييله أصبح سهلا وغير خطر، نستطيع ان نتفهم توجه الإدارة الأميركية المقبلة بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، في تشرين الثاني/نوفمبر القادم. لا بل إذا علمنا ان كلفة الغاز الطبيعي الأميركي أقل بكثير من كلفته في أوروبا والصين، ندرك أن الولايات المتحدة ستحسن من تفاوتها النسبي، وبالتالي في ميزانيتها التجارية على حساب أوروبا على الأقل.
المؤشرات التي تدعم هذا الاتجاه عديدة. أهمها بعض التصريحات الرسمية (كخطاب الرئيس الأميركي أمام الكونغرس بتاريخ 26 كانون الثاني/يناير 2012)، وتحليلات الخبراء (وأهمهم T. Boone Pickens)، ثم وعلى الأخص، ومنذ سنة 2009، توجه الشركات النفطية الأميركية إلى شراء شركات الغاز (كما فعلت كبرياتها، أكسون، وشيفرون، وكونوكوفيلبس)، وتصاعد وتيرة الاكتشافات في أستراليا وكندا والبحر المتوسط...
خلاصة، نستطيع القول ان الانسحاب العسكري الأميركي من منطقتنا، وإعادة تموضعه في شرق آسيا وأوستراليا، واعتبار آسيا/الباسيفيكي هي نقطة الاهتمام الاولى للإدارة الأميركية في إستراتيجيتها الجديدة، (كما أعلن عن ذلك أوباما في اجتماع آسيان، وعاد الى تأكيده في استراليا نفسها)، وسياسة الطاقة الجديدة التي تركز في اعتمادها على الغاز... ستصبح السكة الذي يسير عليها القطار الأميركي خلال الولاية الرئاسية المقبلة.
يبقى انه من الصعب جدا تعيين كل المتغيرات التي ستحصل في منطقتنا نتيجة ذلك، إلا انه من الممكن منذ الآن استشراف مسائل قد تفسر بعض ما يجري الآن:
ـ صعود دور القوى الاقليمية (إسرائيل، تركيا، إيران) نتيجة الانكفاء الجزئي للولايات المتحدة من المنطقة.
ـ ارتفاع أهمية دولة قطر نتيجة اعتماد الغاز كطاقة رئيسة، وكذلك وربما أيضا، ارتفاع أهمية الشاطئ الشرقي للمتوسط.
- وعلى الصعيد العالمي، تصاعد نفوذ روسيا التي تملك احتياطيا غازيا كبيراً، بالإضافة إلى النفط والمواد الأولية الأخرى، على حساب الصين وأوروبا.