خمس جلسات عُقدت ضمن ورشة "إصلاح المناهج والعملية التربوية كأداة لمحاربة التطرف والإرهاب" التي نظمها "مركز القدس للدراسات السياسية" في عمان بداية كانون الأول/ديسمبر الجاري، خُصصت الأولى للأردن وفلسطين والثانية للخليج العربي والثالثة للعراق ولبنان والرابعة لتونس والمغرب والخامسة لمصر والسودان. وقد تبين من خلال توالي المداخلات دقة التصنيف وجدواه ودلالاته.
الأردن
يُلقَّن التلميذ الأردني نص الشافعي "كل العلوم باطلة ما عدا القرآن" ويُزرع فيه "أن الاستخارة منهج علمي". ويدرس "سئمتُ تكاليف الحياة" وينشد "زكِّ زكِّ لكي تَسْلم وإلا دخلت جهنم". لا يخاطب المقرر المدرسي كل الأردنيين بل يخاطب الأغلبية ويبعد الأقليات. "الأردنيون مسلمون ويعيش المسيحيون معهم". لا تظهر الكنيسة في صور الكتاب المدرسي. في المقرر التعليمي مئة شخصية عاشت منذ ألف عام وهناك شخصية واحدة معاصرة.
إن هدف درس التربية الإسلامية الأردني هو تمكين الطالب المراهق من أن ينهى عن المنكر بيده. وفي درس الرياضيات تمرين: أحسبْ بكم تبعد المدرسة عن المسجد؟ في جل الكتب هذه الجمل: المرأة أخت الرجل وزوجة الرجل. وهي مضاف وليست مستقلة ولا يحق لها الخروج من البيت إلا في حالة الحريق.. شرط ألا تتزين.
وعن نظرة المقرر التعليمي للتلميذ، ذكر أنه يوجد في كتاب تعليمي تكرار جملة "على الطالب أن يلتزم" مئة وواحداً وثلاثين مرة. وليس هناك ولا مرة واحدة "على الطالب أن يفكر، أن يناقش". فذكّره متدخّل آخر بقانون أحزاب تبدأ كل بنوده هكذا "لا يجوز للحزب" إلا بندٌ يبدأ ب "يجوز حل الحزب".
هذا هو لب المداخلة الاستقرائية للدكتور ذوقان عبيدات، وصف فيها "الداعشية في الكتب التعليمية الأردنية" مع تحديد الكتاب والصفحة مسبقاً لكل من يُنكر.
بعد ذوقان تدخل الدكتور فايز الربيع عن وزارة التعليم الأردنية وشرع يرد على المداخلة السابقة وينكر الأمثلة ودافع بطريقة استنباطية تعميمية عن المقرر التعليمي ونفى وجود إرهابي أردني وأكد أن كليات الشريعة الأردنية قنابل موقوتة، وختم الربيع بجناس جيد بالسين: أنا لست مع التقديس، والمشكلة ليست في النصوص بل في النفوس والرؤوس المُخالفة للفهم السليم.
بعد ذلك تدخل عبد الجليل العواودة فأنكر الأمثلة والوقائع ونوه بمقرر يكوّن المواطن الصالح المصلح، واعتبر ملاحظات ذوقان سطحية مجتزأة والصور المتناثرة غير دالة ولا تؤكد عدم صلاحية المقرر. وساند كلام ممثل الوزير ونفى أن يكون التعليم الأردني سفينة الإرهاب.
حينها طالب مسير الجلسة المتحدث بتعريف نفسه، فقال بأنه حضر الورشة كممثل لـ"جبهة العمل الإسلامي".
هكذا اتفق ممثل السلطة وممثل الإسلاميين على تبرئة التعليم الأردني من شبهة الدعشنة. فتساءل يساري أردني بدهشة: هل تحصن مناهجنا الطلبة من التطرف؟ الحقيقة أنه حاليا يُحكم الأحياء بالأموات. الماضي والتاريخ يتحكم باللحظة. هناك 2000 مقاتل أردني في داعش وهناك 15000 أردني مساند للدولة الإسلامية. تساءل معلق ساخر: أدرَس هؤلاء في اليابان؟ أليس صحيحا أن صحيح البخاري هو أول كتب خزانات المدارس الأردنية؟
تساءل أردني: هل تمثل داعش الإسلام؟ أغلب الحاضرين أجابوا لا، والأقلية قالت نعم. لماذا الخلاف؟
يتم الفصل بين الاستقراء والاستنباط، يتم الفصل بين المبادئ الإسلامية والنماذج التي حاولت تطبيقها، بين الإسلامي والإسلاموي الذي يحوِّل الدين من مقدس إلى مدنس. والنتيجة هي إسلامان: ممارسة سيئة وإسلام نموذجي غير تاريخي يتبع سلفاً صالحاً معلّقاً منفصلاً عن الواقع.
تساءل معلق مندهشاً: عندما تتحدثون عن قتل مسلمي بورما لا تفصلون بين البوذية والقتلة. وعندما تتحدثون عن الإسلام تفصلون بين النص ومطبقيه؟
يتبنى النظام السياسي والإسلاميون السردية نفسها. وهذا ما فسره الفلسطيني أيمن غبايرية في حديثه عن السياسة والتربية. تقدم المدرسة سردية النظام ونخبه ويطلب النظام من المدرسة تثبيت هوية جامعة غير قابلة للتفاوض. سردية هدفها التدجين والتعود على الخنوع. وبينما يطالب المجتمع المدني بالتنوع ترد السلطة بعنف بحجة أن التنوع يهدد وحدة الشعب والبلد.
هنا تصير الهويات متنازعة لأن الحركات الإصلاحية تطالب بالتغيير وذلك بنقض الهوية التي يثبتها النظام السياسي.
هكذا قدم الأردنيون صورة عن الجدل في باقي الدول العربية. وقد عرفت الورشات نقاشات بين من يلاحظ الوقائع ومن ينكرها ولديه وجهة نظر جاهزة مصقولة صالحة لكل زمان ومكان.
تجارب عربية متشابهة
وفي باب صلة المدرسة والنظام السياسي تحدث علي خليفة من لبنان عن مساهمة الطوائف في التعليم وأكد "يسعى النظام السياسي اللبناني إلى تأمين بقاءه بواسطة المدرسة". ما سمة هذا النظام؟
طوائف تتقاسم المحاصصة في النظام الديمقراطي التوافقي. تراعى حقوق الجماعات لا الأفراد. التعليم الديني شأن تتولاه الطائفة. ترك النظام مهمة تحديد الهوية للطوائف في مدارسها الخاصة والعامة تبعاً لغلبة طائفة معينة. والآن، فإن تسعة وسبعين في المئة من طلاب لبنان في مدارس خاصة بالطوائف وهذا يتعارض مع بناء مصلحة وهوية وطنية لبنانية. المدارس الطائفية اللبنانية غير قادرة على التآلف وهي قادرة على الصدام.
الغريب أنه في العراق تجتمع وجهتا نظر المستقرئين والمستنبطين لدى شخص واحد فصار عرض الموقف عسيرا. قال متدخل: في العراق تخضع المدرسة للوقف السني أو الوقف الشيعي. أصيبت الدولة بلوثة الطائفية. وروى عراك تلميذين سأل أحدهما الآخر: هل أنت سني أو شيعي؟ وسأل تلميذاً عن أمنيته فأجابه: أريد أن أقتل من قتل أبي لأن اسمه عمر.
ينتقد المتدخل طائفية مجردة دون أن يرى أنها طائفية دينية. في حكي الوقائع قال إن الشيعي الذي لا ينخرط في حزب لن يحصل على وظيفة. النتيجة: الطائفية الدينية ستدوم. ومع ذلك اعتبر الطائفية في العراق سلوكا سياسيا ظرفيا وليس ثقافة راسخة. من جهته ندد عراقي آخر بتعليم اللطم في البصرة وتعليم الجهاد في الأنبار وأسف لعدم توحيد التعليم العراقي واستنتج أن الإسلام ليس في قفص الاتهام والحمد لله.
سجل المستقرءون الوقائع التي لا تُدحض:
أكد سامح فوزي أن ثلثي مقرر العربية في مصر ينطلق من كتب التراث، فنص الشجاعة يتحدث عن علي ودرس الصداقة يتكلم عن أبي بكر.. درس الخط بتطبيق قرآني ويجبر التلميذ المسيحي في درس اللغة العربية على ترديد "قال الرسول صلى الله عليه وسلم"، ومع الزمن تأسلم المزاج العام في مصر وصار حضور المعلمة دون حجاب للمدرسة معركة يومية واستبدل النشيد الوطني بنشيد جهادي في عدد من المدارس..
أوضح ابراهيم الدرازي من البحرين أن المقرر التعليمي ينحاز لتوجه ديني محدد وأن الحكومة البحرينية واثقة أن مناهجها التعليمية صالحة ولا تحتاج مراجعة، فدفع الناس بأبنائهم للمدارس الخصوصية، فاستنتجت الحكومة أن الناس صاروا واعين وقد قرروا دفع أبنائهم للتعليم الخصوصي وبالتالي لا ضرورة لإصلاح المناهج.
من الكويت روى علي العَوَضي أمثلة للتشدد كجلد وقص شعر طالبة لم ترتد الحجاب وتفجير قرب منزل عميد كلية الطب لأنه اعترض على دخول الطالبات المنقبات للمختبر دون كمامات.
استشهد العوضي بدراسة تؤكد رفض طلبة الشريعة في الكويت للقانون وأن ولاءهم للقبيلة أكثر من الدولة واستغرب لكون الإنفاق يتزايد والتعليم يتراجع بسبب طرق تدريس تقليدية لا تنمي قدرات الطلاب. واستنتج: لم تعد المدارس بيئة جاذبة.
إيمان فلاتة من السعودية ذكرت أن أحداث أيلول/سبتمبر 2001 فرضت مراجعات على منهاج تعليمي سعودي وُضع في خمسينيات القرن الماضي بتحالف من قوى متشددة محلية وقوى متشددة واردة من دول عربية للعمل في التعليم السعودي. والنتيجة هي منهج تعليمي تكفيري، وقد كثرت مدارس دينية غير رسمية ينتشر فيها عنف المعلمين ضد المتعلمين.. وقد فتح المجال للمعلمين المتشددين بينما يتم إقصاء أي معلم يحمل تصوراً مختلفا وتم تكفير كل من يهتم بالفلسفة. وانتشر السلوك العنيف الخارج من البيت والمدرسة والمسجد. ونتيجة لفشل المنهاج هناك نسبة عالية للهدر المدرسي، إذ توفر تلاميذ لديهم وقت كبير لمتابعة السوشل ميديا وبالاخص الخطاب التحريضي.
بعد 2001 خرجت الورشات السعودية بعدة توصيات تطالب بإدماج مفهوم المواطنة والحوار مع الآخر. وقد بدأ تنقيح المناهج. وكمثال للمنهاج المجدد نجد سؤال: هل يجوز السلام على الكفار؟ الجواب: لا.
مهما تغير وزير التعليم السعودي فالمنهاج مستمر. لذلك ختمت المتحدثة السعودية بتعبير شاعري: أطالب بأنسنة التعليم وأقلمة أظافر التشدد.
الهوية: هناك أسبقية القبيلة والطائفة عن الدولة
في انتظار ذلك هذا تركيب مداخلات عن الهوية: من أنت؟ ومن هو الآخر؟ قل لي من آخرك أقول لك من أنت؟ من أنت؟ الجواب المثالي: مواطن. والدولة هي حماية المواطنة.
هذا هو درس المواطنة الذي بقي درسا هامشيا، لذلك تسود أجوبة أخرى. مثلا روى متدخل عن قناة تلفزيونية أنزلت مراسلاً لشوارع بيروت يسأل المارة من أنت؟ فأجابوه ماروني وسني ودرزي من طرابلس وجبيل وصيدا... وفي الأخير تساءل المراسل: ولا لبناني بالبلد؟ روى متدخل أن في كل صفحة من الكتاب المدرسي ببلده تتكرر ثنائية الإيمان والكفر. الآخر هو الكافر والمشرك. في السعودية الآخر هو المختلف في الدين واللون والجنس..
طرح استطلاع على الكويتيين: من أنت؟ وكان الجواب هو اسم القبيلة وليس الدولة. وقد بينت دراسة أن 72 في المئة من طلبة كلية الشريعة يعتقدون أن الولاء للقبيلة يعزز الوحدة الوطنية.
في العراق الآخر هو السني أو الشيعي واليزيدي "عبد الشيطان"، وقد بني المنهاج التعليمي العراقي بفضل وزير تعليم خاضع لحزبه وطائفته.
تذكير: في المجتمع الديمقراطي، الآخر هو صاحب الموقف. وفي المجتمعات غير الديمقراطية يحدد الآخر بناء على الدين والعرق. في المقررات التعليمية العربية حالياً، فغالبا الآخر هو الكافر والمسيحي والمرأة.
يتضح من المداخلات أن كل متدخل في الجلسة يعكس تعليم بلده. لكن الخلاصة كانت واضحة لدى من يستقرئ الواقع وهي أنه حين يهبط التطرف على عقول فارغة يسيطر عليها. الفكر المتطرف يبعد التلميذ من الحياة ويقربه من الجنة وعلى ذلك فلا أمل في إغلاق قناة "طيور الجنة".
ختاماً، خرجت الورشة بتوصيات منها الحاجة لمدرسة تبني هوية ديمقراطية إنسانية تدمج ولا تقصي. مدرسة تكوّن طالباً يعتز بانتمائه للدولة ويحترم القانون. لكن لا بد من العمل على محاور أخرى كإغناء الميديا بمضامين جديدة لمواجهة فقهاء الظلام.. وكل ذلك لا معنى له دون تحوّل ديمقراطي هو شرط حاسم لمحاربة التطرف.