"إنها تشق طريقاً إلى السماء".. قصة على خلفية الاختفاء القسري

"في الأسبوع الأول كنتُ أحسبُ الوقت بالساعات، ثم مر أسبوع أو أسبوعان، سنة وثانية وثالثة. بعدها زهدتُ في الوقت، توقف الزمن عند 2013 حتى إنني أصبحت لا أدرك ما هو عمري تحديداً وعمرك يا خالد، أعمارنا سُرقت ولم نعد نكترث لها ولا لشيء، سُرقت أحلامنا البسيطة، فأحلامنا كانت بسيطة وبريئة، لم تكن جرماً يستحق كل هذا".
2023-06-01

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
| en
"حنان وخالد أيام البهجة". الصورة مأخوذة من الانترنت

أكتب عن "حنان عز الدين"، مصرية تؤمن بعودة زوجها المختفي قسرياً قبل عشر سنين. هل يمكن اختصار الأمر إلى هذا الحد؟ نعم، لأنه على الرغم من جزالة التفاصيل فإن هذا المستوى من اليقين الفردي في مواجهة البؤس المقيم، يجعل إيمانها ـ عن صدقٍ ـ أمراً عظيماً، ويبقى عظيماً ولو لم يرَ الناس فيه إلا إنكاراً للحقيقة وحنيناً.

فما أتت به "حنان" في قصتها، يشير من غير قصدٍ إلى الفصول الأشد ألماً في حياة مئات/آلاف الأسر من ذوي المختفين قسرياً ومن ثم يَعبُر إلى فصلها المتفرد، الذي يتكرر وإنْ بالتأكيد ليس كثيراً. فـ"خالد عز الدين" ليس فقط زوجها ولكنه الإنسان الذي يحمل له قلبها مشاعر حب استثنائي. نعم، هذا أمرٌ آخر يستحق التسجيل لأنه لم يعد بديهياً مسلماً به في مجتمع تتنافس فيه مستويات القسوة والضنين.

أحكي عن "حنان" لأني أحب أن أحكي عن المرأة والنضال والوطن، كنوعٍ من مقاومة الآلام، والتقدير لقيمة السعي من غير رهان، ورفعِ لحدود سقف من يمسك في يده هراوة راغباً في هدمه فوق رؤوس كل من يختلف معه. يفعل دون كلل.

فصل الاختفاء

26 تموز/ يوليو 2013. قبل ما يقارب العشر سنوات، كانت البداية.

"في الأسبوع الأول، كنت أحسب الوقت بالساعات، ثم مر أسبوع أو أسبوعان، سنة وثانية وثالثة. بعدها زهدت في الوقت، توقف الزمن عند2013 حتى إنني أصبحت لا أدرك ما هو عمري تحديداً وعمرك يا خالد، أعمارنا سُرقت ولم نعد نكترث لها ولا لشيء، سُرقت أحلامنا البسيطة، فأحلامنا كانت بسيطة وبريئة، لم تكن جرماً يستحق كل هذا".

تكتب "حنان" في إحدى ليالي الذكرى، أقرؤها وأحاول تجميع خيوط القصة، فلا أجد ما يمكن إدراجه كمبرر في نهاية الأمر. فإذا كان هناك جرم فأين هو الشخص الذي يَمْثل للمحاسبة وتنفيذ العقوبة؟ وإن مات عرضاً أو قصداً فأين جثته؟ وإن كان قد هرب فكيف تأتي الشواهد الواحد تلو الآخر يشير إلى احتمالات الاحتجاز؟ كيف يمكن لهذه السيدة هضم كل ذلك، خاصةً وأن طلقة البداية كانت بالفعل ودون مجاز طلقة رصاص خرجت لتستقر في جسد بطلها على الهواء مباشرة، أمام أعينها بينما تجلس على أريكة غرفة المعيشة.

إلى القاهرة سافر "خالد"، ابن مدينة بني سويف في صعيد مصر، الذي تهتم زوجته بالتأكيد أنه لم ينتمِ يوماً تنظيمياً إلى جماعة "الإخوان المسلمين" بل اختلف معهم كثيراً، ولكنه رفض إسالة الدماء أمام مقر الحرس الجمهوري، فقرر السفر للانضمام إلى اعتصام ميدان "رابعة العدوية" المطالِب بعودة الرئيس "محمد مرسي" الذي عزله الجيش بعد مظاهرات شعبية واسعة طالبت بانتخابات رئاسية مبكرة.

ودّعته "حنان" غير مطمئنة لهذا السفر الذي يأتي متزامناً مع أيام الصيام ومع ذكرى زواجهما التاسعة الذي لم يسفر حتى تلك اللحظة إلا عن الحب، دون أن يحقق حلم الإنجاب. جلست تتابع قناة "الجزيرة مباشر" وهي تنقل أحداث خروج مظاهرة من "ميدان رابعة العدوية" باتجاه منصة الشهداء في طريق النصر. وهكذا سمعت صوت الرصاص ثم رأت بعينها زوجها محمولاً فوق دراجة بخارية وهو ينزف وهناك من يتدخلون في محاولة للإسعاف.

تحكي كيف كان وقع المشهد في لحظته الأولى، كيف مرت أولى دقائق الصدمة. "هو بخير، الرصاصة ما دخلتش، فاق وخرج من المستشفى الميداني بعد ما اتخيط الجرح، بس الدكتور قال لازم يروح أقرب مستشفى ويعمل أشعة، احنا رايحيين على هناك"، هكذا أجابها من رد على هاتفه الخلوي بدلاً عنه.

لم يتبين هذا الـ"هناك" الذي ذهب إليه ومآلاته حتى اللحظة. أما ما هو متاح من تفاصيل القصة، فأجمعه عبر منشورات متفرقة على مدار سنين، منشورة على صفحة "حنان" على فيسبوك، وهي مصدرنا الوحيد حيث امتنعت هي قبل سنوات عن التواصل مع الإعلام.

توالت محاولات الفهم بعد أن أغلق الهاتف. سافر أشقاؤه إلى القاهرة بحثاً في المستشفيات وأقسام الشرطة ومشرحة الموتى: لا معلومة عنه. رجح البعض أن يكون قد ألقي القبض عليه داخل المستشفى الحكومي. وحين توجهوا إلى هناك لم يستطيعوا الحصول على أية معلومة رسمية.

ما أتت به "حنان" في قصتها يشير من غير قصدٍ إلى الفصول الأشد ألماً في حياة مئات أو آلاف الأسر من ذوي المختفين قسرياً، ثم يَعْبُر إلى فصلها المتفرد. فـ"خالد" ليس فقط زوجها ولكنه الإنسان الذي يحمل له قلبها مشاعر حب استثنائي. نعم، هذا أمرٌ آخر يستحق التسجيل لأنه لم يعد بديهياً في مجتمع تتنافس فيه مستويات القسوة والضنين.

تحكي كيف كان وقع المشهد في لحظته الأولى، كيف مرت أولى دقائق الصدمة. "هو بخير، الرصاصة ما دخلتش، فاق وخرج من المستشفى الميداني بعد ما اتخيط الجرح، بس الدكتور قال لازم يروح أقرب مستشفى ويعمل أشعة، احنا رايحيين على هناك"، هكذا أجابها من رد على هاتفه الخلوي بدلاً عنه. 

"لفيت البلد والمحلات كلها قافلة يوم العيد، عشان ألاقي الحاجات اللى بيحبها واجيب لبس السجن الأبيض بشكل حلو وكنت باتنطط من الفرحة لأني أخيراً هاشوفه، كنت بابتسم للناس المنتظرة قدام السجن، لغاية ما خرج أخوه وقال مش هنا، أكيد رجع السجن".

كانت هذه زيارة "حنان" الأولى الى القاهرة بعد أسبوعين من اختفاء زوجها وانقطاع أخباره. كانت العائلة قد حصلت بشكل غير رسمي على معلومة من مصدر أمني تفيد بوجود زوجها داخل مستشفى سجن طرة، وأنها يمكن أن تزوره في العيد. على مدار ساعات، وقفت "حنان" وشقيق زوجها في عدة طوابير أمام السجون المتعددة داخل منطقة طرة، لم يجدوا له أثراً، نصحهم رجل أمن بالتوجه إلى المشرحة. قالت "ليه كده؟ اخواته راحوا قبل كده! خالد عايش"، ذهبت إلى المشرحة في حالة رعبٍ كامل وخرجت في اطمئنان: لم تجده بين الجثث المجهولة.

يحمل حديثها منطقاً قوياً حول نقطة الموت تحديداً، فحتى تلك اللحظة كان اعتصام رابعة العدوية قائماً وقد حصر بسهولة عدد من لقوا حتفهم بأحداث الحرس الجمهوري والمنصة، واستلم الأهالي جثامين ذويهم، ومن ثَم كان يحق لحنان أن تستبعد موت زوجها نتيجة الإصابة. ولكن إلى أين ذهب؟

انشغل الشارع المصري بعد ذلك بأيامٍ قليلة بتداعيات أحداث فض اعتصام رابعة نفسه، وقد نتج عنه وفق الحصر الرسمي للدولة المصرية مقتل 1200 مواطنٍ من بينهم 32 جثة مجهولة الهوية، كما ألقي القبض على الآلاف من القاهرة والمحافظات في أحداث متفرقة، من بينها حرق الكنائس في عدد من محافظات الصعيد اعتراضاً على فض الاعتصام. كما شهدت القاهرة بعد أيام قليلة حادثة قتل جماعي أخرى مروّعة نتج عنها عدد آخر من الجثث المشوهة. فقد احترق 37 سجيناً داخل سيارة الترحيلات بعد أن ألقى ضابط التأمين عليهم قنابل غاز مسيل للدموع.

هكذا اندلعت الدوامة محمومةً، فقد امتلأت أماكن الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية، واستطالت قوائم الغائبين والمختفين، وغصت المستشفيات وثلاجات حفظ الموتى بنزلائها. وسط هذا شعرت أسرة ذلك الرجل الأربعيني بالضياع، كيف يمكن البحث عن إبرة في كومة قش غارق بالدم؟ جثته ليست بين الجثث ولا اسمه بين القوائم، فأين هو؟

فصل السعي

إنها لحظة طوفان. وداخل الطوفان دائماً ما تُسهم المساعي الفردية في صناعة التاريخ الجماعي، حيث يتحسس كل طرف طريقه في الظلام فتتشابك الأيادي سعياً لتخطي هذا الضباب.

وهكذا أسهمت "حنان" من غير تخطيط في الكشف عن ظاهرة "الاختفاء القسري" التي تفاقمت في مصر بدءاً من 2013 ولم تنته حتى الآن. ليس فقط الكشف عنها ولكن إيجاد قاعدة بيانات قوية لها، وغزل أواصر ثقة بين هؤلاء المتقطعة أوصالهم حزناً على اختفاء ذويهم. سافرت حنان وحدها يوماً إلى مدينة الإسماعيلية في محاولة للوصول إلى ذلك المكان الذي كان اسمه آنذاك مجهولاً، وهو سجن "العازولي" الحربي. لم تعد وحدها من المرة الأولى، ولا في أي مرة: قابلت كثيرين على الطريق.

تخلّقت دائرة إنسانية وحقوقية واضحة المعالم والتباين، فالمفقودون من كل سن وفكر ومأرب، والمحامون ينزلون يومياً إلى النيابات والمحاكم ويحكون بعض ما سمعوا من أهوال غريبة مر بها القادمون من تجارب الاحتجاز في أماكن غير رسمية.

منذ اللحظة الأولى، لاقت ظاهرة الإختفاء القسري إنكاراً واستنكاراً رسمياً كاملاً. ومن ناحيةٍ أخرى استغرقت الحركة الحقوقية عامين على الأقل حتى استطاعت التشبيك مع جهود الأهالي وقصصهم. وعليه بدأ الأهالي أولاً، وفي القلب منهم "حنان"، في تنظيم أنفسهم في وقفات احتجاجية على سلم نقابة الصحافيين، وإنشاء صفحات إلكترونية تحت اسم "رابطة أسر المختفين".

هكذا اندلعت الدوامة محمومةً، فقد امتلأت أماكن الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية، واستطالت قوائم الغائبين والمختفين، وغصت المستشفيات وثلاجات حفظ الموتى بنزلائها. وسط هذا شعرت أسرة ذلك الرجل الأربعيني بالضياع، كيف يمكن البحث عن إبرة في كومة قش غارق بالدم؟ جثته ليست بين الجثث ولا اسمه بين القوائم، فأين هو؟

أسهمت "حنان" من غير تخطيط في الكشف عن ظاهرة "الاختفاء القسري" التي تفاقمت في مصر بدءاً من 2013 ولم تنته حتى الآن. ليس فقط الكشف عنها ولكن إيجاد قاعدة بيانات قوية لها، وغزل أواصر ثقة بين هؤلاء المتقطعة أوصالهم حزناً على اختفاء ذويهم. 

استطاع تجمع لمنظمات حقوقية تدشين حملته الشهيرة "أوقفوا الاختفاء القسري" في 30 آب/ أغسطس 2015 تزامناً مع اليوم العالمي لمقاومة تلك الجريمة. وفي مواجهة ذلك صدر التقرير الرسمي الأول والوحيد للدولة حول تلك القضية، فقال القائمون على "المجلس القومي لحقوق الإنسان" في تموز/يوليو 2016 إنه تمّ توثيق 121 حالة اختفاء، من بينهم 99 متهماً في السجون وأقسام الشرطة، إضافة إلى 15 حالة إخلاء سبيل، و3 حالات "هُرِّبت" على ذمة قضايا، وحالة أخرى يبدو أن أسرتها تمكنت من تهريبها من السجن، فضلاً عن 3 حالات عرف المجلس مصيرهم من خلال ذويهم، بينما لم يتلقوا رداً من "الداخلية" عليهم وما زال مصير 70 حالة أخرى مجهولاً.

جاء ذلك التقرير الرسمي كردٍ على التقرير الأول ل"المفوضية المصرية لحقوق الإنسان" (آب/ أغسطس 2015 و 2016 ) الذي تم نشره عالمياً، وأفاد التوصل إلى 912 حالة تعرضت للاختفاء القسري، معظمها وقع بعد آب/ أغسطس 2015. ولا يزال رهن الاختفاء القسري منها 52 حالة مؤكدة، فيما نجا 584 شخصاً آخرون منهم 41 شخصاً تم الإفراج عنهم و4 أشخاص لا زالوا محتجزين، و276 اختفوا و لكن لم يتسنَ تحديث المعلومات الخاصة بهم لبيان إن كانوا لا يزالون رهن الاختفاء أم ضمن الناجين من الجريمة. وأشار التقرير إلى أن هناك 123 حالة اختفاء قسري استقبلت الحملة بياناتها، لكن وقائعها ترجع إلى عام 2013 وحتى آخر تموز/ يوليو 2015.

في مقابل ذلك كله، كانت "حنان" في دربها تسعى، تدوِّن فى سطور مقتضبة رحلتها المحمّلة بعشرات القصص التي تستحق أن تُروى باستفاضة يوماً ما. قد تحكي عن نجاحها فى الوصول إلى الطبيبة التي أسعفت زوجها فور وصوله المستشفى الميداني، وما روته لها عن حالته وقدرته على الوقوف رغم الإصابة وقبوله بنصيحتها بالتوجه إلى مستشفى حكومي لاستكمال العلاج. قد تحكي عن تجربتها مع دفاتر المستشفى الحكومي نفسه، وقد تحكي عن ذلك العسكري الغليظ الذي أصبح مسؤولًا عن تنظيم دخول الأهالي إلى النيابة العسكرية وسماع أسماء المعروضين عليها.

غير دلالة الأرقام، حضر رعب الشهادات. فبدءاً من العام 2015، حكى بعض الناجين. تجرأ القليل جداً منهم ووثقوا شهاداتهم أمام القضاة عما لاقوه في معسكرات وأقبية التعذيب. قال الشاب "إسلام خليل" شهادته ومضى إلى السجن الاعتيادي الذي يتحول إلى رحمة للمختفي وذويه. أسهمت شهادته بقوة في رسم صورة تلك الأمكنة وطبيعة ما يدور فيها.

في إحدى الأيام، رأته يتغالظ على رجل كبير في السن، ففكرت: هل أتدخل وأرد عنه أم أصمت حتى لا أفقد فرصتي في الدخول إلى النيابة؟ لم يمنحها الصوت العالي فرصة كافية للتفكير، بادرت بالدفاع، فقرر العسكري منعها من المرور، لكن ما هي إلا ساعات حتى ترتبت التفاصيل بشكل عجيب: دلفت إلى هناك وتلقت خبراً غريباً، يبقى بحاجة إلى التحقق: "هناك سجن حربي آخر نَقلوا إليه عدداً من السجناء سراً وقد يكون زوجك من بينهم". لم تستطع أن تعرف يومها المزيد، لكنها عرفت أن الأقدار لا يمكن أبداً التحكم بها، وأن الاحتياط لا يعني دوماً الحكمة، وأن الاندفاع أحياناً هو الحل. علمت أنها تمر بتجربة من أجل اكتشاف الحياة ونفسها، وليس فقط للوصول إلى حبيبها الذي ابتلعته الأيام في جبٍ غامض عميق.

لماذا لم تسحبني الحياة معه إلى ذاك الجب نفسه؟ كان هذا لسان حال "حنان" وهي تمضي على الطريق وتكتشف فيه أيضاً ملامح أخرى عجائبية للحياة السياسية في مصر. تكتب "حنان" على استحياء عما لاقته من وجوه داعمة وأخرى مدّعية، هي تحب أن تمد يد المساعدة وتدرك الضرورة القصوى للتشبيك، لكنها في الوقت ذاته ترفض التأطير وسحب قضيتها الخاصة إلى ساحات سياسية لن تغني عن وجعها شيئاً بل قد تزيده.

توقع مراقبون أن تخف القبضة الأمنية تدريجياً مع تراجع مخاطر الإرهاب في سيناء، وتراجع موجات التظاهر والاحتجاج من جانب "جماعة الإخوان المسلمين" أو غيرهم، بعد فرض قوانين تحظّر التجمهر لأكثر من 5 أشخاص، ومن ثم أن تتوارى ظاهرة الاختفاء القسري ويخرج إلى النور المئات منهم. لكن ما حدث أشار إلى استمرار الظاهرة حتى لو تضاءل العدد في تناسب منطقي مع عدد من يتم القبض عليهم سنوياً على خلفية قضايا سياسية. لكنها لم تتوقف أبداً.

فوفق تقارير السنوات الأربع التالية على التقرير الأول، أشار الحصاد إلى 378 حالة جديدة (2016/ 2017)، 230 حالة (2017/ 2018)، 336 حالة (2018/ 2019)، ليصل إجمالي ما تم رصده عبر السنوات وحتى الآن إلى 1850 حالة.

آخرون وقصص جديدة

مرت سنوات أخرى ولم يتغير ساكنٌ. وهكذا نتابع ما أسفرت عنه الأيام الأخيرة من حالة جديدة، وهو المعتقل السابق "معاذ الشرقاوي" الذي تشهد القرائن على صحة رواية أهله عن القبض عليه بداية شهر أيار / مايو 2023 تزامناً مع إطلاق السلطة لـ"حوار وطني" مع قوى المعارضة.

غير دلالة الأرقام، حضر رعب الشهادات، فبدءاً من العام 2015، حكى بعض الناجين. تجرأ القليل جداً منهم ووثقوا شهاداتهم أمام القضاة عما لاقوه في معسكرات وأقبية التعذيب. قال الشاب "إسلام خليل" شهادته ومضى إلى السجن الاعتيادي الذي يتحول إلى رحمة للمختفي وذويه. أسهمت شهادته بقوة في رسم صورة تلك الأمكنة وطبيعة ما يدور فيها، على الرغم من كونه دخل إليها معصوب العينين وخرج وهو على الوضعية نفسها بعدما يقارب العام . لم تسهم الشهادات في الكشف عما لحق بالناجين وحدهم، ولكنها أيضاً ألقت ضوءاً ولو خافتاً على ما عُرف حينها بعمليات "التصفية الجسدية"، فترددت اتهامات عن أن عدداً ممن لاقوا حتفهم هم من المختفين قسرياً، ولم يُقتلوا في عمليات إرهابية كما قالت البيانات الرسمية.

يتداخل كل هذا الضباب المتكاثِف عبر السنوات، بينما حنان لا زالت تمارس طقوسها بانتظام. وهكذا التقيتها للمرة الأولى والأخيرة حتى الآن. كان هذا قبل ست سنوات، وتحديداً في العام 2016، خلال مرافقتي أسرة زميل إلى أمام باب السجن. لم أتبادل معها أطراف الحديث لكن لفت انتباهي أداؤها وما سمعته من الحاضرين عنها. كانت تمنح ـ كعادتها ـ صورة خالد للأهالي حتى يراها ذووهم في الداخل، علّ أحدهم يرشدها إلى بداية خيطٍ بسيط. لفتت تلك المشاعر العابرة للخوف، المتضافرة مع الأمل، انتباه الجميع ومن بينهم بكل تأكيد رجال الأمن، فكان القرار بعد وقتٍ قصير من رؤيتي لها، وخلال رحلة بحث أخرى لها، بالزج بها في السجن .

لم يعد خالد، ولكن ذهبتْ هي!

فصل التجلي

"طول الوقت كنت باقول عايزة أزور خالد، واضح إنهم فهموني غلط. طيب خلاص عايزة خالد يزورني .. وأنا فى عنبر الإيراد حلمتُ بك، وقلت يااه لو بعد مرور الشهر الأول لي في السجن تكون أول زيارة لي هي انت يا خالد".

دخلتْ "حنان" إلى السجن. ابتلعتها هي الأخرى التجربة لمدة عامين.

في أولى التدوينات بعد خروجها، كتبت عن مشاعر تملكتها طوال تلك الفترة وهي أنها كانت وستبقى شريكته، فإذا لم تستطع أن تخرجه من سجنه، حسب قناعتها حول مكان وجوده، فرأت أن الله يريد لها أن تشاركه جزءاً ولو صغيراً من هذا القدر، وأن تخوض بنفسها ما مر هو به .

على مدار كل تدويناتها، تستحضر تلك الإنسانة الحزينة الآملة فكرة القدَر، تتأمل ترتيباته وما فيه من فجائع وتجليات.

أقرأ فأقول: ذاك أمرٌ منصفٌ، فمن يملكون تلك الروح التي يمكنها وحدها أن تورق مشاعر استثنائية، من المنطقي أن تصادفهم الحياة أيضاً بأقدار استثنائية. وفي بلادٍ كبلادنا، للأسف دائماً ما يقترن الاستثناء بالوجع.

أقرأ فأقول: ذاك أمرٌ داعمٌ، أسهم بقوة في أن تستكمل حنان قصتها التي كان من البديهي أن تتنحى في الخلفية وتأخذ طريقها للأفول تحت وطأة وحشة وكآبة ظروف الاحتجاز. وقد عاشت حنان بالفعل ظروفاً صعبة، كان من أهم ملامحها أن إقامتها جاءت دوماً وسط السجينات الجنائيات لا السياسيات، فعاشرت المتهمات بالقتل والاتجار بالمخدرات والبشر وممارسة أعمال الدعارة. شاركت أخرى في المبيت على خشبة لا يزيد عرضها عن 70 سم تستقر كدور ثالث يعلو سريرين حديديّن، جاءت فرشتها رغماً عنها لمدة أسبوع في مواجهة حمام من غير باب ولا أدنى درجات النظافة، تزحف منه الحشرات، فتعلمت حينها من جديد ألا تخاف من سطوة الحياة، واشتبكت مع المتجبرات داخل زنزانتها حتى انتزعت لنفسها موقعاً جديداً. وفي ساحة التريض أدركت أن الشمس دوماً ما ستعاود السطوع وبأشكالٍ شتى، فتصادقت وهذه الفتاة التي كانت تبيع المخدرات في قلب الزنازين ولا يفارق الخنجر الصغير ملابسها، وتتباهى فى كل مكان أنها أيضاً سياسية لأنها كانت تنزل مظاهرات تأييد السيسي وتحمل البيادة فوق رأسها. سمعت منها حنان وخرجت لتكتب عن قصتها البائسة وكيف يمكن لظروف الحياة أن تحوّل الضحية إلى وحش يبقى كئيباً مهزوماً مهما تفاخر وانتشى.

هناك مدت يدها في ليلة قاسية البرودة وأكلت من "حلة محشي" لا تعرف حتى الآن كيف استطاعت تلك السيدة أن تصنعها من بقايا ما يستلمونه جميعاً من تعيينات غذائية محدودة وقاحلة .هناك مررت يدها فوق شعر تلك الفتاة التي تصغرها بعشرين عاماً، وقد ألقي القبض عليها على خلفية مشاركتها قبل أعوام في مظاهرات جامعية، كتبت أنها كانت هدية ربانية جميلةً إليها، ففور دخولها السجن تذكرت سفرها هي وزوجها لأداء العمرة وتمنيها أن تصبح أسرتهما ثلاثة أفراد. بعد اختفائه قالت ليتني لم أتمنَ إلا بقاءه إلى جانبي. وفور دلوفها الى السجن فكرت في أنه حتى الحلم الذي ترددت كثيراً في تنفيذه، وهو "كفالة طفل" قد تبدد، لأنها منذ الآن وصاعداً في نظر الدولة "رد سجون". كانت تفكر فأهدتها الحياة تلك الفتاة التي كان من الممكن جداً أن تصبح ابنتها، بكت وهي تتركها خلفها داخل الأسوار واستقبلتها بفرحة عارمة عند خروجها.

تعايشت "حنان" وتفجرت داخلها طاقات جديدة دفعتها حين خروجها للتفكير في الإسهام في عمل يستهدف إعادة تأهيل المحكومات بجنايات. عاشت أيامها داخل السجن من غير أن يلهيها كل ذلك عن أن تحكي للجميع قصتها، أن تنجح في تهريب صور خالد إلى داخل مخدعها الاضطراري. اكتفت بالكلام عنه والحلم به حتى أهدتها الحياة من جديد إحدى لحظات التجلي السينمائي.

تبقى كل تلك الأرقام تقديرية ما لم يجر إحصاء فردي وموثق، يشمل اسم المختفي وتاريخ اختطافه وظروف ذلك، إذ ارتكبت في بعض تلك البلدان – وما زالت ترتكب – جرائم خطف فردي واغتيال وتصفيات جماعية، تختلط بشاعتها وفظاعتها بعمليات الاختفاء القسري تلك.

كان هذا في يوم صيفي حار. ترجلت من سيارة الترحيلات إلى باحة المحكمة لحضور إحدى جلسات العرض القانوني الاعتيادي، وداخل "الحبسخانة"، وهي صالة الاحتجاز بالمحكمة التي يفصل باب معدني داخلها بين المساحة المخصصة للرجال والنساء، سمعت طرقات على ذلك الباب، وصوتاً ينادي باسمها. جفلت في أول لحظة: هل هو خالد؟ لكنه لم يكن صوته، اقتربت فأخبرها الشاب في الناحية المقابلة أن زميلاً له قد علم من أهله أنها تنزل معه في يوم العرض نفسه، وكان قد سمع كثيراً عنها، وهو يطمئنها أنه قد التقى زوجها قبل عامٍ لمدة ثلاثة أعوام داخل أحد أماكن الاحتجاز غير الرسمية، ورآه بخير.

لم يوافق أن يعطيها مزيداً من التفاصيل، انهارت فرحاً وجزعاً، وحين عادت إلى زنزانتها صلّت وشكرت ربها، فها هي في منتصف العام 2017 تتلقى شبه خبر يفيد أن زوجها الذي اختفى منذ منتصف 2013 لا زالت هناك أمارات على احتمال كونه حياً في مكانٍ ما.

هل قالت حنان لنفسها في ذلك اليوم إنها قد مرت بكل صعاب تجربة الحبس من أجل الوصول إلى تلك اللحظة؟ غالباً نعم، لكن كيف يمكنها أن تستكمل بعدها؟ كيف لها أن تواجه الحرية مرة أخرى من غير حقيقة واضحة عنه؟

لعلها قالت لنفسها ما قالته "فاطمة" بطلة الكاتب محمد المنسي قنديل في رواية "يوم غائم في البر الغربي" قبل أن تستأنف طريقها. قالت: "مجرد نصف فرصة في غرفة نصف معتمة".

فصل التمهل

"ليه خالد مش هنا؟ ليه يبقى حكاية أحكيها لسنين اكتر من اللى عشناها سوا وهو حي يُرزق.. ليه؟"

يحق لها أن تسأل كل ذلك، تقوله كل يومٍ، وتزيد ..

فإذا كان هناك من يرى غرائبية في أدائها، وكل مَن مثلها، ممن لا زال ينتظر ويأمل ولا يكل من غير أن يصل، فالأكثر غرابة هو أن تجبر الحياة بعض البشر على قبول اختفاء أحبابهم دون عودة ودون معلومة ودون تفسير، وكأنهم لم يوجدوا من قبل، كما أنّ ليس لهم قبر. كيف يمكن للعالم هضم كل هذا الجنون!

أحرزت المساعي الإنسانية لمقاومة الاختفاء القسري حصاداً عظيماً وعميقاً. مساعٍ بدأت منذ أوائل السبعينيات الفائتة في أوروبا الشرقية لمعرفة مصائر من اختفوا تحت الحكم النازي، ومنها الى أمريكا الجنوبية بعد الانقلاب العسكري في شيلي 1973 والأرجنتين 1976، ثم الى لبنان بما يخص من اختفوا خلال الحرب الأهلية في الثمانينيات الفائتة، والجزائر خلال "العقد الأسود"، حيث قُدِّرت أعداد المختفين قسرياً خلال "الحرب القذرة"، أي عقد التسعينيات من القرن الفائت، بما يفوق 9 آلاف شخص، بينما تقدّر جهات حقوقية محلية أن أعدادهم تتراوح ما بين 12 و20 ألفاً (1). وأن هؤلاء اختفوا ما بين 1994 و1996على يد الجيش أو على يد الميليشيات الإسلامية التي اشتبك معها. كما هناك حالة البوسنة والهرسك في التسعينيات الفائتة، والعراق مع الاحتلال الامريكي في 2003 الذي ما يزال الاختفاء القسري ممارسة شائعة فيه، وقدّرت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان أعداد المختفين قسرياً في بلاد الرافدين بما يفوق ال 16 ألف إنسان.

في السجن مررت يدها فوق شعر تلك الفتاة التي تصغرها بعشرين عاماً، وقد ألقي القبض عليها على خلفية مشاركتها قبل أعوام في مظاهرات جامعية، كتبت أنها كانت هدية ربانية جميلةً إليها، ففور دخولها السجن تذكرت سفرها هي وزوجها لأداء العمرة وتمنيها أن تصبح أسرتهما ثلاثة أفراد. بعد اختفائه قالت ليتني لم أتمنَ إلا بقاءه إلى جانبي.

تعايشت "حنان" وتفجرت داخلها طاقات جديدة دفعتها حين خروجها للتفكير في الإسهام في عمل يستهدف إعادة تأهيل المحكومات بجنايات. عاشت أيامها داخل السجن من غير أن يلهيها كل ذلك عن أن تحكي للجميع قصتها، أن تنجح في تهريب صور خالد إلى داخل مخدعها الاضطراري. اكتفت بالكلام عنه والحلم به حتى أهدتها الحياة من جديد إحدى لحظات التجلي السينمائي. 

ووفق التقارير الحقوقية المحلية والدولية، تتراوح التقديرات حول أعداد المختفين قسرياً في سوريا منذ عام 2011 بحوالي 82 ألف شخص. وقد اختفت الغالبية العظمى منهم في شبكة مراكز الاحتجاز الحكومية، لكن أكثر من 2000 شخص اختفوا بعد أن احتجزتهم جماعات المعارضة المسلحة. وفي اليمن، أشارت مجموعات حقوقية إلى أنه يوجد في العاصمة وحدها 1401 حالة اختفاء قسري ارتكبتها ميليشيات الحوثيين خلال سبع سنوات. وهناك ممارسات لجهات أخرى متنوعة تقع تحت هذا البند في أنحاء أخرى من اليمن، وعلى الاخص في محافظة عدن.

وكانت الأمم المتحدة قد أنشأت في شباط/ فبراير 1980 "اللجنة الدولية لحالات الاختفاء القسري" (2)، وفي آب/ أغسطس 2014 أبلغت مجموعة العمل عن حصر 43250 حالة اختفاء لم يتم حلها في 88 دولة مختلفة.

وتبقى كل تلك الأرقام تقديرية ما لم يجر إحصاء فردي وموثق، يشمل اسم المختفي وتاريخ اختطافه وظروف ذلك، إذ ارتكبت في بعض تلك البلدان – وما زالت ترتكب – جرائم خطف فردي واغتيال وتصفيات جماعية، تختلط بشاعتها وفظاعتها بعمليات الاختفاء القسري تلك.

حاولتُ أنا عبر هذا الكم المهول من الأرقام أن أتوسم حالات بعينها عادت بعد عشر سنوات ويمكن الاستدلال بها عند كتابة هذه القصة. لكن هل تحتاج "حنان" إلى معرفة كل ذلك؟ فبديهياً، وما دام المختفون بمئات الألوف فهناك بالتأكيد مئات الحالات التي قد تعود بعد اختفاء طال لسنوات. وكيف يمكن لتلك المرأة المناضلة أن تستجيب لرجاءات من حولها وتستبعد كون زوجها على قيد الحياة، وهي تتابع في عام 2021 تفاصيل ظهور أسرة مصرية كاملة، زوج وزوجة وطفل، اختفوا في 2019 وظهروا بعد سنتين؟ (3) فأين كانوا، ما هو شكل هذا الحبس الذي يسمح بعيش أسرة داخله؟ هل كانوا معاً في مساحة الاحتجاز نفسها؟ وما مساحتها؟ وموضعها؟ فوق الأرض أم تحتها؟ لماذا يخفون كل ذلك؟ ما الهدف؟ ما نوع المعلومات التي يسعى إليها من قام باحتجازهم؟ وكيف حصل عليها؟ وهل كان يحتاج إلى كل ذلك الوقت ليفعل؟ وما هي تكلفة احتجاز أسرة كل تلك السنوات؟ من المسؤول عن ذلك؟ وما حجم المستقطع من ضرائب المصريين لتمويل إنشاء كل أماكن الاحتجاز المعلنة وغير المعلنة؟

***

لا يمكن الجزم بالمصير الذي تنتظره تلك المناضلة الحالمة. فقد عاشت مع زوجها عشر سنوات، وحُرمت منه عشر سنوات، فمن يملك لها اليقين عما يلي من سنوات... وعما يشهده هذا البلد؟

______________________

1-  https://t.ly/aaI7  
2- https://www.ohchr.org/ar/treaty-bodies/ced  
3- https://t.ly/ufts

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...