المتسلطون لا يَهزّهم شيء!

كشفت كارثة كورونا في كل مكان، الفئات والمهن الضرورية حقاً للمجتمعات. كما أعادت التذكير بأن تأمين الصحة العامة لا يتوفر بدون تعليم عام متين، وشروط حياة لائقة بآدمية البشر. الأمر يخص زاوية النظر للمجتمعات، ما بين الاشتغال على رفاهها، أو تجاهلها والانصراف إلى تنمية "بزنس" قلة القلة.
2020-04-03

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
حسن منزِّل - المغرب

قد يكون من السذاجة افتراض وجود ولو مقدار قليل من القيم الخيّرة لدى كل إنسان، كائناً من كان. قد لا تكون سذاجة، بل تغليباً للإيمان بالإنسان، سواء أكان مصدر هذا الاعتقاد دينياً أم فلسفياً.. وهل من لحظة لرؤية ذلك أنسب من اليوم، مع ما يلم بالبشر كلهم بسبب جائحة كورونا؟

ولهذا أصلاً أبدى الجميع استعداداً للتغاضي عن تقلبات الرئيس الأمريكي البهلوانية، بين عناد متعجرف على أولوية الإنتاج والبزنس "مهما كان الثمن"، ثم على أولوية صحة الناس وسلامتهم حينما أصابت الجائحة مئات ألوف الأمريكيين وبدأت تحصد أرواح الآلاف منهم.

والتغاضي كذلك عن لهجة الرجل الساخرة والمشكّكة والاتهامية وحتى التهديدية، حيال الصين تارة، وإيران تارة أخرى، وحيال كل ما يقع بصره عليه: تغاضوا باعتبار أن المهم هو أن يُشجّع على استعادة توازنه لاتخاذ القرارات المناسبة لحماية البشر.. حتى لو كان المتغاضون عن السوء يعرفون أن تقلباته تلك، مصدرها أنه لا يفكر إلا بالانتخابات المقبلة – متى أصلاً يا رجل؟ الله أعلم! - وبالطريقة المثلى لإدارة فرص نجاحه فيها، أو محو أخطائه الفادحة التي تهدد بشكل جدي هذه الفرص.

ترامب هو النموذج الفج لمآل التوحش النيوليبرالي للرأسمالية.. ليفاجَئ الناس بأن السادة الآخرين ليسوا حقاً أفضل منه، حتى ولو كانوا أقل ابتذالاً وأقدر على تغليف كلامهم، وما يظهر من سلوكهم، برداءات من الثقافة والتهذيب والأناقة والترفع...

الأمثلة عن الآخرين كثيرة، وتغطي العالم، بغض النظر عن الاختلافات السياسية بين الأنظمة. فالعطب هو في السلطة والاستحواذ عليها، وما تتيحه من امتيازات معنوية ومادية. لكن الأمر ليس فردياً أو نفسياً. فخلف كل رئيس أو مسؤول تقبع مجموعات متشابكة من المصالح المالية والصناعية الهائلة.

كنا سهونا بمناسبة كورونا عن اللوبيات التي حالت (مثلاً) دون اتخاذ المفوضية الأوروبية (مثلاً مرة أخرى) قراراً بمنع تسويق المبيدات المعروفة باسم "راوند أب" المصنوعة من مادة "غليفوزات" glyphosate الخطيرة، وهي تُستعمل في الزراعة على نطاق واسع عالمياً. لم يفعلوا بحجة نقص الأدلة، والحاجة لمهل الخ.. أو هي حالت دون حظر المنتجات المعدلة جينياً (OGM) بحجة أنها باب للوفرة في الإنتاج ومحاربة الجوع في العالم (!)، بينما الوفرة الوحيدة وُجدت في جيوب الشركات وعلى رأسها "مونسانتو" التي ترعى المنتجَين معاً، ومعهما آلاف مجموعات الدعاية والضغط في العالم، وتقدم رشًى أو تدعم مسؤولين أو تحاربهم. وهكذا في السلاح، وفي الدواء إلخ.

.. في الدواء! حيث يتناطح وسط كارثة كورونا نفسها، بلا خجل ويكاد يكون بلا مواراة، متنفذون سياسيون وعلماء ومختبرات، متنافسين داخل كل بلد، وعلى نطاق عالمي. مع بهارات من التفاخر الوطني حيث يمكن، لزوم التشاوف والإقناع. يتناطحون قبل أن يتحقق إنتاج لقاح أو علاج، فيما عدّاد الموتى يرتفع بتعاظم، وتصل أخبار وصور جديرة بالقرون الوسطى لطاعنين في السن يموتون لوحدهم في دور رعاية متروكة، وجثث تتراكم بلا مكان لحفظها قبل التخلص منها، وزعماء يحذِّرون بكل هدوء ووقار من إمكان توقع ضحايا بالملايين، والخوف هو أحد أدوات السيطرة على الجموع والتحكم بها. وهذا يُرى في البلدان "المتحضرة".وأما في بلداننا الفقيرة، فالكارثة ونتائجها تكتفي بالأرقام الباردة (والمزورة)، أو حتى تدور بلا أرقام، ولا تترافق مع صور، ولا مع تغطيات صحافية وتلفزيونية مزلزِلة. فمن يكترث؟

ووسط كل هذا، يجري التغنّي بال"أبطال". الممرضات والممرضين والطبيبات والأطباء والمسعفين من الجنسين، في المستشفيات العامة، يستميتون لإنقاذ الأرواح، متجاوزين الخطر والإرهاق.

وهم يئنّون من قلة الإمكانات التي بين أيديهم.. وهو الشيء الوحيد الذي عرفوه وخمّنوا نتائجه قبل الجائحة - ومن دون تخيل جائحة - فأضربوا وثاروا وكتبوا العرائض وقابلوا المسؤولين، وانتحر بعضهم يأساً.. بلا طائل.

أبطال فعلاً، يتجاوزون بمناسبة الكارثة، وعلاوة على كل شيء، بؤس معاشاتهم وشروط عملهم التي كانوا قد صرخوا بها من قبل.

فهل سيكافَأ الأبطال، ليس بعلاوات – فهذا بمقدار ما هو إجراء سهل، فهو شكلي وهو معيب - وإنما بإعادة تنظيم الصحة العامة، وإعطائها ما تستحق من موازنات، وإمكانات، ورعاية. وهناك أبطال سواهم، وقد كشفت كارثة كورونا في كل مكان عن الفئات والمهن الضرورية حقاً للمجتمعات.. كما أعادت التذكير – لو ثمة داعٍ لذلك – بأن تأمين الصحة العامة لا يتوفر بدون تعليم عام متين، وشروط حياة لائقة بآدمية البشر، وأن الأمر يخص زاوية النظر للمجتمعات، ما بين الاشتغال من أجل رفاهها، أو تجاهلها والانصراف إلى تنمية "بزنس" قلة القلة.

ما يُكشف عنه من خطط المستقبل التي تعدها السلطات، يوحي بأن أصحاب هذه الأخيرة لم يفهموا! وقد نشرت صحيفة "ميديابارت" الإلكترونية الفرنسية بتاريخ الأول من نيسان/ أبريل، تقريراً سُرّب إليها عن مقترحات الجهة المكلفة بخطط المستقبل. مرعب! تتجه التوصيات لمزيد من الخصخصة تحت مسمى "التعاون بين القطاعين العام والخاص". ويعتمد التقرير المرفوع إلى الجهات العليا لغة تكنوقراطية لا تكترث بأوضاع العاملين في القطاع ولا بالناس عموماً.

فهل سيُضحّى بسرعة ب"الأبطال"، حين تهدأ الأمور؟ ولو حصل، فهل سيُعْمد إلى الاتكال مثلاً على الروبوتات (من حسن الحظ أنهم ما زالوا قلة!)، باعتبار أن البشر ثقيلو الظل ومشْتكون دائمون، وما زالوا يفكرون ويطالبون، ولم يتأقلموا بعد مع الانسحاق التام، العبودية.. وهم كذلك منذ فجر التاريخ، مع العبد سبارتاكوس المتمرد، وحتى السترات الصفراء في فرنسا وشبان وشابات العراق المنكوب، ولائحة طويلة غيرهم من المتمردين الجدد؟

ثم من سيسدد فاتورة الاستشفاء، وهو يُخطط لإلغاء مجانيته التي أقرت في وقت ما بوصفها حقاً أساسياً للإنسان؟ القادرون فحسب؟ فكم أعدادهم، وهل سيُباد الآخرون؟

وكجزء من الإبادة، يَحْضر واقع الأغلبية الكبيرة من البشر الذين طُلب منهم التزام الحجر بوجه كورونا. فهل يمكن للأحياء العشوائية وشبه العشوائية المكتظة، في القاهرة، مثلاً، ولكن وكذلك، وإنْ وفق مقياس أصغر بكثير، في أحياء طرابلس- لبنان مثلاً أن تلتزم بالحجر؟ من يُطعم الذين يعملون في مهن يومية أو في كل مهن الاقتصاد الموازي، بلا معاشات ثابتة ولا ضمان اجتماعي وصحي، وهم صاروا أغلبية الشغيلة في بلداننا. وكيف يُطبّق الحجر في غرف ضيقة ومكتظة، تعاني من مشكلات عدم توفر المياه علاوة على الغذاء الذي انقطع. ومن أين الدواء؟ سيبادون!

.. وسيكثر الآخِرَويون بكل أصنافهم ومعتقداتهم. وسيكثرالمشعوذون!

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...