مطلع الأسبوع، قال ترامب أنه ميال "تاريخياً" لاتباع غريزته، ولكنه لن يفعل هذه المرة! "غريزته الأصلية" كانت تدعوه للانسحاب من افغانستان، وهو قرّر تعزيز الوجود الأميركي هناك. ثم أنه لن يقول علناً إلى متى ولا بكم، فهذه "أسرار قد يستفيد منها العدو". انشغلت التعليقات الصحافية والسياسية بمزاج السيد وبالانقلاب في موقفه، وهو الذي كان خلال حملته الانتخابية يتبع منطق ما سمي انعزالاً، مع شعار "أميركا أولاً"، وانشغلت أكثر باعترافه هو نفسه بالتغيير في وجهته، على غير عادته، قائلاً إن العالم يختلف حين يُرى من زاوية نظر المكتب البيضاوي في واشنطن..
تقول الإشاعات إن الرئيس أجاز للقيادة العسكرية إرسال 4 آلاف جندي أميركي إضافي، سيلتحقون بثمانية آلاف وأربعمئة جندي ما زالوا هناك. وهذه أرقام بسيطة حين نتذكر أنه منذ سبع سنوات، كان عديد الجيش الأميركي في أفغانستان قد وصل إلى مئة ألف جندي.. لم يتمكنوا من استئصال طالبان ولا من يحزنون. وأن كلفة هذه الحرب على امتداد 16 عاماً (منذ احتلال اميركا لأفغانستان في 2001 إثر الهجوم على برجي مركز التجارة العالمية)، وصلت إلى تريليون دولار متجاوزة الرقم الرسمي (850 مليار دولار)، وأنها أعلى كلفة لحرب منذ تلك العالمية الثانية (4.1 تريليون دولار)، ولكنها كمحصلة ستلحق بها بل وتتجاوزها بحسب الباحثين. ذلك أن كلفة الحرب المباشرة شيء، وتلك الأخرى التي تتعلق برعاية تبعاتها من قبيل الجرحى (أكثر من 20 الفاً في أفغانستان وحدها) والمصابين من ذوي التشوهات الدائمة (حوالي 5 آلاف) وأسر كل هؤلاء الجنود قد تجعلها تصل إلى 5 تريليون دولار في السنوات القادمة. وفي هذا لا نلتفت صوب الحرب الأميركية على العراق التي انتقد ترامب الرئيس السابق أوباما حين أعلن انتهائها وإنهاء احتلاله لبلاد الرافدين.. كما لا نلتفت صوب جمل غامضة في خطاب ترامب الأخير هذا حين أشار الى العراق تكراراً من دون إفصاح..
ثم أن مفاعيل الحرب تستمر لوقت طويل بعد الخروج من المعارك. وعلى سبيل المثال، فقد انتحر يومياً وعلى امتداد 2016، ما معدله 20 جندياً أميركياً سابقاً ــ أي متقاعداً.
ولكن هل كان ترامب ينوي حقاً، في أي يوم، اتباع العزلة والانكفاء، وهو الذي كان طوال حملته الانتخابية ثم في الأشهر التي مضت منذ توليه الرئاسة يتهدد العالم أجمع، مطالباً من دون قفازات بخضوعه لمصالح الولايات المتحدة التي أعلن أنه جاء لجعلها "الأعظم مجدداً"؟ في هذه الحالة فما هو الانكفاء؟ لعله الحصول على المبتغى بلا كلفة كبرى، كما كان يقترح مستشاره الاستراتيجي السابق، وملهمه، ستيفان بانون، معتبراً أن الامر يُحلّ بمزيد من خصخصة الحرب وإرسال مرتزقة للقتال بدل الجنود الاميركان.
اليوم يقول ترامب إنه ليس "بَنّاء أمم" ولا ينوي الانخراط في ذلك من جديد (يعني لا يهمه "قتال الديكتاتوريات" ولا "نشر الديمقراطية" التي كانت مزاعم أسلافه لشن حروبهم الاستعمارية)، وإنه يريد "قتل الارهابيين" فحسب، تاركاً للناس في سائر المجتمعات "أن يختاروا أنماط حياتهم"، ولا دخل له هو في ذلك.. مشيراً إلى أنه بعد وقت (يقول إنه "لا يعرف متى سيأتي وإن كان سيأتي")، وبعد قتال وخسائر تلحق بطالبان فسيمكن (ربما) التفاوض معهم أو مع بعضهم.. فالرجل براغماتي ولا يقيم للمبادئ والايديولوجيات أي وزن.
هو لا يعرف الكثير إذاً عن كيف ومتى، ولكنه يؤكد على وقوع "تغيير في الاستراتيجية الاميركية في افغانستان وجنوب آسيا خلال مقبل الأيام". وعلى كل هذا، فهو منكفئ.. فكيف لو كان تدخلياً اقتحامياً كسلفه بوش مثلاً؟ ها قد أضيف إلى الرعونة والتباهي والعدوانية جهل عظيم!