تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
لا أدلّ على تعقّد ظاهرة النشاطات الاقتصادية غير الرسمية (أي تلك التي لا تأخذها الحسابات الوطنية السنوية بعين الاعتبار) من تباين تقديرات حجمها ومن تعدّد المصطلحات المستخدمة لوصفها في الصحافة والخطاب السياسي ("اقتصاد موازٍ"، "اقتصاد غير رسمي"، "اقتصاد الظل"، الخ...). وسنستخدم في حديثنا عنها هنا مصطلح "الاقتصاد غير الرسمي" نظرا إلى عموميته، فهو يعني في تعريف مكتب العمل الدولي "كلّ نشاط اقتصادي يقوم به عمالٌ أو تقوم به وحداتٌ اقتصادية لا تغطيها الأحكام الرسمية - أو تغطيها بشكل غير كاف". ويشمل هذا التعريف في الوقت ذاته نشاطات القطاع غير الرسمي (أي تلك التي تقوم بها مؤسسات اقتصادية غير مُحصاة، لا تتمتع بالصفة المعنوية) ونشاطات الأفراد داخل القطاع الرسمي نفسه (مثلا: عمّال شركة تمتلك الصفة المعنوية القانونية لكنها لا تصرّح بهم لدى صناديق الضمان الاجتماعي). ويبدو مصطلح "الاقتصاد غير الرسمي" أصدق تمثيلاً لاتّساع رقعة هذه النشاطات من مصطلح "الاقتصاد الموازي" الذي لا يأخذ في الحسبان وجود مناطق تقاطع بينها وبين النشاطات الاقتصادية الرسمية (مثلا: لجوء وحدات اقتصادية مسجّلة إلى اليد العاملة المنزلية).
وعلى اختلاف المصطلحات المستعملة لوصفه، للاقتصاد غير الرسمي في الجزائر تجلياتٌ كثيرة تدلّ على أهميته كمكوِّن من مكونات اقتصاد البلاد، وهي أهميةٌ ما فتئت تزداد بالتلازم مع دوران عجلة "الإصلاحات الليبرالية" بتطبيق برنامج التعديل الهيكلي بين 1994 و1998، وما عرفه من إغلاق للشركات العمومية (818 بين 1994 و1997 حسب إحصائيات مفتشية العمل)، ومن تسريحات جماعية طالت 405 آلاف شخص. ولعلّ أكثرَ تجلياته رمزيةً هو الفارق الشاسع بين سعر صرف الدينار الجزائري المحدّد رسميا، 114 دينارا للدولار الواحد، وسعرِ صرفه في "السوق السوداء"، 174 دينارا للدولار، أي بفارق 60 ديناراً بين السعرين.
معطيات نادرة وجزئية
ونذكِّر هنا، استنادا إلى دراسة للباحث الجامعي أحمد هنّي نشرت في 1994، بأن عالَم الاقتصاد غير الرسمي مهيكلٌ في شكل شبكات على رأس كل واحدة منها من يُمْكن اعتبارُه متعاملا اقتصاديا حقيقيا بالنظر إلى اتساع رقعة النشاطات التي يشرف على تسييرها، وأن هذه الشبكات قد تشكل بنية "مجتمع مضاد" حقيقي.
وتبدو السلطاتُ الجزائرية، وإن أطلقت مبادرات تستهدف إخراج بعض النشاطات الاقتصادية غير الرسمية من الظل، غيرَ مكترثة لتقييم اقتصاد هذا "المجتمع المضاد" منهجياً، والنتيجة أن المعطيات عنه نادرةٌ جدا وجزئية إن وُجدت، وتنحصر في المعطيات الخاصة بسوق العمل (يمكن استخلاصُها من الاستقصاءات التي يجريها دوريا "الديوان الوطني للإحصائيات") وتلك التي تنشرها من وقت لآخر تنظيماتٌ نقابية (اتحاد التجار، اتحاد أرباب العمل، الخ.) وهيئاتٌ عالمية (المكتب العمل العالمي) أو تتضمنها دراساتٌ أكاديمية كثيرٌ منها "دراسات حالات" تخصّ مناطقَ بعينها لا مجملَ البلاد. صحيحٌ أن الدراسة المنهجية للاقتصاد غير الرسمي صعبة في العالم كله بشهادة هيئات كمكتب العمل العالمي، لكنها ليس مستحيلةً تماما إذا وُفرت لها الوسائل اللازمة وأُجريت تمهيدا لإصلاح شامل للاقتصاد لا لمجرد ترميم آني له. وهي فضلا على ذلك، كما يقول خبراء هذا المكتب في دليل عنوانُه "قياس الاقتصاد غير الرسمي"، ضرورية "كقاعدة لصياغة وتقييم سياسات فعالة تدعم التحول نحو الرسمية، وكأداة لتمثيل مجموعات السكان المعنيين بغرض وصف التوجهات الملاحَظة (...) في ميدان الشغل، وكذلك لتحليل العلاقة بين النموّ الاقتصادي والتشغيل".
تقديرات متباينة
وتتباين تقديرات حجم الاقتصاد غير الرسمي الجزائري تبايناً كبيرا، فإذا نظرنا إليه من زاوية الكتلة النقدية المُتداوَلة داخلَه، وجدنا أنها تتراوح بين 3700 مليار دينار (40 مليار دولار) حسب الوزير الأول السابق عبد المالك سلال (آذار/ مارس 2015) و1700 مليار دينار (18.5 مليار دولار) حسب خَلَفه أحمد أويحيى (أيلول/ سبتمبر 2017). أما وزير المالية في الحكومة الحالية، عبد الرحمن راوية، فيشكّك أصلا في إمكانية قياسها، ولم يتردّد، مطلعَ كانون الثاني / يناير 2018، في مناقضة أحمد أويحيى، رئيسِ الحكومة التي هو أحدُ أعضائها، مؤكدا أن كل هذه التقديرات "محض تصريحات" لا غير.
وفي منتصف الطريق بين تقديرات سلال وأويحيى، قدّر محافظ البنك المركزي، محمد لوكال، مطلعَ شباط/ فبراير 2018، الكتلةَ النقدية المتداوَلة في إطار الاقتصاد غير الرسمي بما بين 2500 و3000 مليار دينار، مذكراً تذكيراً عارضاً - لكنّه بالغُ الفائدة - بوجود كتلة نقدية أخرى خارج النظام البنكي قوامُها ما بين 1500 و2000 مليار دولار هي مدخراتُ الفاعلين الاقتصاديين، بما فيهم الأسر.
إلا أن الداعين إلى توخي الحذر والنسبية عند الحديث عن الاقتصاد غير الرسمي لا ينتمون كلّهم إلى الصف الحكومي، فالخبير المالي فرحات آيت علي مثلاً - وهو معروف بانتقاداته اللاذعة للوزير الأول أحمد أويحيى - يشاطره الرأيَ في أن تقدير عبد المالك سلال للكتلة النقدية المتداولة خارج الأطر الرسمية مبالغٌ فيه بشكل كبير، فهي لا تتعدى في نظره 1600 مليار دينار، أي 30 في المئة من كتلة النقود المعدني والأوراق البنكية المقدّرة بثلث الكتلة النقدية العامة حسب أرقام آخر سنة 2017 (4700 مليار دينار من أصل 14574 مليار).
قدّر البنك المركزي مطلعَ 2018، الكتلةَ النقدية المتداوَلة في إطار الاقتصاد غير الرسمي بما بين 2500 و3000 مليار دينار، مذكراً بوجود كتلة نقدية أخرى خارج النظام البنكي قوامُها ما بين 1500 و2000 مليار دولار هي مدخرات الفاعلين الاقتصاديين، بما فيهم الأسر.
ويُلاحظ على هذه التقديرات المتباينة أمران. الأول أن أصحابَها لا يُفصحون عن الحسابات التي خلَصوا بها إليها، ما يجعلها تبدو إما حدسية صرفاً أو، على النقيض من ذلك، ثمرةَ حسابات غير اقتصادية البتة كالرغبة في الدفاع عن الإنجازات الحكومية أو السعي إلى التقليل من شأنها. الأمرُ الثاني هو التلازمُ بين الاعتقاد بأن الكتلة النقدية المتداولة في إطار الاقتصاد غير الرسمي كتلةٌ هائلة واليقينِ بأن إدماجها في النظام البنكي حلٌّ شبه سحري لمشكلات تمويل الاقتصاد، خاصة بعد تراجع مداخيل الموازنة بفعل تراجع موارد الجباية على المحروقات إبتداء من صيف 2014. وعكسَ ذلك، يتلازم التشكيكُ في ضخامة هذه الكتلة - سواء جاء من السلطة أو من المعارضة - مع تحبيذ إصلاحات شاملة تحكم على الاقتصاد غير الرسمي - بوصفه عارضا من أعراض أزمة الاقتصاد لا غير - بالزوال حتماً في مدى منظور.
بعض مظاهر الاقتصاد غير الرسمي
تشير أرقام الديوان الوطني للإحصائيات - وهي، على قِدمها، لا تزال وجيهة على ضوء قرائن أخرى - إلى أن 50.4 في المئة من السكان المشغولين بنشاط مهني في النصف الثاني من 2009 (أي 9.472.000 شخص) لم يكونوا مصرَّحًا بهم لدى صناديق الضمان الاجتماعي. وترتفع هذه النسبة إلى 69.1 في المئة في أوساط العمال غير الدائمين وإلى 81.1 في المئة في أوساط العمال المستقلين (الأحرار). وينوه الباحث الجزائري يوغورطا بلاش، بأن حالة سوق العمل غير الرسمية هذه جزءٌ من حالة أعمَّ يميزها الاتساع المنتظم، منذ مطلع سنوات الـ 2000، لشريحتي الأجراء غير الدائمين والعمال المستقلين، أي، بعبارة أخرى، العمال الذين يحتلون المواقع الاجتماعية الأكثر هشاشة. هذا الاتساع، يقول يوغورطا بلاش في دراسته، هو ما يفسر تراجعَ نسبة البطالة في الجزائر (29.7 في المئة في 2000، 12.3 في المئة في 2017).
إذا كان توسّع حصة الفلاحة من اليد العاملة غير المسجلة رسمياً غير مستغربٍ بالنظر إلى الطابع العائلي لكثير من المستثمرات الفلاحية، إلا أن انتشار استعمالها في الصناعات التحويلية - وهي وحدات تمتلك الصفة المعنوية القانونية – يدعو إلى التفكير في مدى تغلغل سوق العمل السوداء في قلب القطاع الاقتصادي الرسمي.
وحسب دراسة لعلي سواق وفيليب أيدار وناصر الدين حمودة صدرت في 2016 واعتمدت على معطيات فترة 2001-2010، توزعت اليد العاملة غير الرسمية الجزائرية سنة 2010 أساساً على قطاعات البناء (30 في المئة) والتجارة والفنادق والمطاعم (24 في المئة) والفلاحة (19.6 في المئة) والصناعات التحويلية (13.2 في المئة). وإذا كان قسطُ الفلاحة الوافر منها غيرَ مستغربٍ بالنظر إلى الطابع العائلي لكثير من المستثمرات الفلاحية، يدعو انتشار استعمالها في الصناعات التحويلية - وهي وحدات تمتلك الصفة المعنوية القانونية - إلى التفكير في مدى تغلغل سوق العمل السوداء في قلب القطاع الاقتصادي الرسمي. وتُظهر هذه الدراسة أن الفلاحة تصدرت في 2010 النشاطات الاقتصادية من ناحية نسبة العمال غير الرسميين إلى مجموع العاملين (84.4 في المئة)، متبوعة بالبناء (77.8 في المئة) والتجارة والفنادق والمطاعم (71.3 في المئة) والصناعات التحويلية (63.6 في المئة) والنقل والاتصالات (49.9 في المئة)، الخ.
وتكفي بعضُ الأرقام التي نشرها الخبير الاقتصادي عبد الرحمان مبتول في كانون الاول / ديسمبر 2015 نقلا عن الاتحاد الوطني للتجار والحرفيين الجزائريين لإدراك أهمية النشاطات غير الرسمية في قطاع التجارة. 80 في المئة من التجار المسجّلين رسميا بهذه الصفة لا يصرّحون بنشاطهم للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للعمال غير الأجراء، و80 في المئة من المعاملات التجارية تتم دون فواتير، فيما يتمُّ الدفع نقدا في ما بين 70 و80 في المئة منها. وحسب أرقام أخرى تداولتها الصحافةُ في أيلول / سبتمبر 2014، يبلغ عددُ الأسواق الأسبوعية غير المرخص لها 1500 سوقاً يعمل فيما حوالي 100 ألف شخص.
وليس انعدام الحماية الاجتماعية للعاملين بهذه الأسواق واستحالةُ مراقبة جودة ما يباع فيها كلَّ ما تطرحه من مشاكل على الدولة، فهي تطرح أيضا مشكلة ما تفقده فيها الخزينةُ العمومية من عوائد، وحسب عبد الرحمان مبتول، قدّر اتحاد التجار الجزائريين ما يُخسر فيها سنوياً جرّاء التهرب الجبائي للتجار العاملين فيها بحوالي 3 مليار دولار. صحيحٌ أن هذه الهيئة لم تُفصح عن الطريقة التي توصلت بها إلى هذا الرقم، لكنه لا يبدو مشكوكاً فيه، فهي تمتلك المعطيات اللازمةَ لمثل هذا الحساب (متوسط قيم التصريح الجبائي، عدد التجار على الصعيد الوطني، الخ..).
المبادرات الحكومية
وعلى تباينها، تظل الأرقام المتوفرة عن الاقتصاد غير الرسمي الجزائري كلُّها أرقاما هائلة، فأخفضُها، أي 1600 مليار دينار (17 مليار دولار) يعادل مرّةً ونصف مرّة عجزَ الميزان التجاري الجزائري في 2017 المقدر بـ 11.19 مليار دولار، فيما يناهزُ أعلاها، أي 3700 مليار دينار (40 مليار دولار)، قيمةَ الواردات الجزائرية في 2017 المقدّرةَ بحوالي 46 مليار دولار.
وتحاول السلطات الجزائرية جذبَ هذه الكتلة النقدية إلى النظام البنكي من خلال مبادرات يصعب الجزم بنجاحها أو فشلها النهائيين. ونذكر فيما يلي أربعةً من أحدثها زمنياً. وقد أغفلنا هنا قرار اعتماد البنوك الإسلامية ابتداءً من 1991 لسبب بسيط هو فشلها على مرّ 26 سنة في إقناع أصحاب "الأموال غير الرسمية" بإيداعها القطاع البنكي - وهي بذلك، في الحقيقة، أقنعت الجميع بأن سبب عدم الإقبال على الاستثمار البنكي ليس خشيةَ العقاب الرباني الذي ينتظر ممارسي الربا.
أولى هذه المبادرات الأربعة كانت إلزاميةَ استخدام الصكوك في المعاملات التي تفوق مبلغاً معيّناً، وقد أُقّرت في 2004 و2011، لكن الحكومة جمّدت تنفيذها في كلتا المرتين. وقد أعادت الكَّرة سنة 2014 على استحياء، ففرضت استخدامَ الصكوك في المعاملات التي يعادل مبلغها مليون دينار (10 آلاف دولار) أو يزيد، لكننا لا ندري شيئا بعدُ عن مدى تنفيذ هذه الإلزامية على الأرض.
أغفلنا ذكر قرار اعتماد البنوك الإسلامية ابتداءً من 1991 لسبب بسيط، هو فشلها على مرّ 26 سنة في إقناع أصحاب "الأموال غير الرسمية" بإيداعها القطاع البنكي. وهي بذلك، في الحقيقة، أقنعت الجميع بأن سبب عدم الإقبال على الاستثمار البنكي ليس خشيةَ العقاب الرباني الذي ينتظر ممارسي الربا!
المبادرة الثانية كانت سنة 2015، مع إطلاقَ حملة لإقناع أصحاب رساميل الاقتصاد غير الرسمي بإيداعها النظام البنكي مقابل دفع ضريبة جُزافية عليها، وذلك ما لم تُجنَ من نشاطات "غير شرعية"، علما بأن هذه النشاطات لم تُعرَف بشكل واضح (هل التهريب عبر الحدود غيرُ شرعي مثل الاتجار بالمخدرات ؟). لا علم لنا بثمار هذه الحملة، فوزير المالية اكتفى في شباط/ فبراير 2018، دون كبير إسهاب، بالقول إن "مبالغ طائلة" أُودعت البنوك منذ انطلاقها. ولا يتوفّر اليوم أيُّ رقم عنها سوى ما صرّح به في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 المديرُ العام لبنك التنمية المحلية الحكومي عندما قال إنها أسفرت بعد 3 شهور على بدئها، على إيداع 3 مليار دينار في النظام البنكي، وهو مبلغٌ زهيد جداً إذا قيس بكتلة نقدية غير رسمية كانت حكومة سلال تقدّرها آنذاك بـ 3700 مليار.
المبادرةُ الثالثة كانت بيعَ سندات عمومية كبيرةً في 2016 بهدف تمويل الإنفاق والاستثمار العموميين، وكان يُؤمل منها أن تُقنع جزءاً من أصحاب رساميل الاقتصاد غير الرسمي باستثمارها بهذه الصورة الآمنة مقابل نِسب فائدة تختلف من 5 في المئة إلى 5.75 في المئة وفق مدّة الاكتتاب (3 أو 5 سنوات). وقد تُوجت هذه العملية بشراء البنوك سندات بمبلغ إجمالي قدرُه 158.9 مليار دينار، أي أقلّ بقليل من نصف المبلغ المجموع حسب البنك المركزي. هل كان النصفُ الآخر - على الأقل جزئياً- ثمرةَ خروج "الأموال غير الرسمية" من دائرة الظل؟ ربما، لكننا نرجّح أن الحكومة، لو كانت هذه الأموال حقا أموالا طائلة، ما كانت لتتردد في المفاخرة بها في إطار إطرائها المنتظم على منجزاتها و"منجزات سيادة الرئيس".
تقنين سوق العمل ليس إحدى أولويات السلطات، بل العكس تماما هو الصحيح، فخطابها منذ تراجع موارد الخزينة في صيف 2014 يلحّ إلحاحاً كبيراً على ضرورة إدخال مزيد من المرونة والمنافسة في هذه السوق.
رابعُ مبادرة للسلطات لامتصاص أموال الاقتصاد غير الرسمي جاءت في نيسان/ ابريل 2018 في شكل تعليمة لمحافظ البنك المركزي إلى البنوك تستهدف، حسب قوله، إقامةَ جدار بين مهمة البنوك الأساسية، أي جمع الموارد المالية، ومهمة الاستعلام المالي التي يخصّ القانونُ هيئات أخرى بممارستها. وترمي هذه التعليمة بشكل واضح إلى الحدّ مما اسماه المحافظ مغالاة بعض البنوك في ممارسة مهام مكافحة تبييض الأموال.
هل الشفافية قابلة للتجزئة؟
وتطرح هذه المبادراتُ تساؤلاتٍ كثيرة عن صدق نية الحكومة في تعميم الشفافية الاقتصادية فيما يكتنف الغموض تسيير الاقتصاد بشكل عام، بدءا من عدم موثوقية كثير من الإحصائيات المنشورة وانتهاءً بوجود "سوق سوداء للقرار الاقتصادي". ولسنا نفشي هنا سرا إن قلنا إن منحَ تمويل بنكي حكومي مثلاً (وجلُّ البنوك حكومية) ليسَ في كثير من الأحيان قرارَ البنوك الحرّ السيد. فقد يكون تنفيذا لأمر مباشر من أحد "أصحاب القرار" غير المرئيين، وهم كثر، سواءٌ تعلق الأمر بكبار المستثمرين أو بشبان عاطلين استفادوا من أحد برامج تشغيل الشباب.
على صعيد آخر، تتمحور هذه المبادرات، كما رأينا، حول جذب الأموال المتداولة داخل الاقتصاد غير الرسمي نحو البنوك لتوفير سيولة إضافية تموِّل الاقتصاد في ظرف الموارد الجبائية فيه مرشحةٌ للنضوب. ماذا عن صيغ العمل غير القانونية كالتشغيل دون تصريح للضمان الاجتماعي أو بعقود محدودة الأمد تُجدَّد دورياً على الرغم أن القانون يُلزم بتحويلها إلى عقود دائمة بعد مدة معينة؟ أقلُّ ما يقال إن تقنين سوق العمل ليس إحدى أولويات السلطات، بل العكس تماما هو الصحيح، فخطابُها منذ تراجع موارد الخزينة في صيف 2014 يلحّ إلحاحاً كبيراً على ضرورة إدخال مزيد من المرونة والمنافسة في هذه السوق. ماذا عن مبادرات القضاء على التجارة غير القانونية ؟ قليلةٌ ومرتجلةٌ ومتأثرةٌ دوما بحساسية الوضع السياسي كما تبين ذلك في 2011، عندما جُمدت إلزاميةُ العمل بالصكوك في خضمّ أحداث ما سمي بـ "الربيع العربي"، خشية أن تتطور احتجاجات شباب بعض أحياء الجزائر العاصمة مطلعَ تلك السنة إلى انتفاضة تشبه الانتفاضة التونسية الدائرة رحاها آنذاك.
ويذكّرنا هذا التسامحُ مع بعض مظاهر الاقتصاد غير الرسمي بأمرين مهمّين. أوّلهما أنّ هذا "الاقتصاد السري" حلُّ من الحلول - الآنية والخطرة في الوقت نفسه - التي تلجأ إليها الأنظمة لتخفيف الأثر الاجتماعي للأزمات الناتجة عن سياساتها الليبرالية. فالاقتصاد غير الرسمي في الجزائر تطوّر في رحم الأزمة المالية التي تلت تراجعَ موارد البلاد الخارجية بفعل الصدمة البترولية المضادة 1985-1986. ثانيهما أن قمعَ بعض مظاهر الاقتصاد غير الرسمي - كمخالفة قانون العمل مثلاً - يعني مراقبةَ نشاط القطاع الخاص، ما لا تجازف به الحكومة الساعية، بمحض إرادتها وبتشجيع من المؤسسات المالية الدولية، إلى تسهيل استثماراته وتوسيع رقعة نشاطه بغرض تغليبه على القطاع العمومي.
محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.