الجزائر: اللغات وهستيريا الهويات

الجزائر لم تغوِها بعد دعوات المنظمة الدولية للفرنكوفونية إلى الانضمام إليها، إلا أن الفرنسية فيها تحتلّ مكانةً هي أشبه بمكانة لغة رسمية ثانية إلى جانب العربية. فبرغم أن وضعَها القانوني غير مقنّن البتة، إلا أنها لغةُ جزء لا يستهان به من الإدارة والسلك التعليمي والإعلام والقطاعين الاقتصادي والمالي. بل ويصاغ بها - ما ليس بالشيء الهين - جزءٌ من تشريعات البلاد قبل ترجمته إلى العربية (ليس مستبعداً
2015-10-29

ياسين تملالي

صحافي من الجزائر


شارك
| fr

الجزائر لم تغوِها بعد دعوات المنظمة الدولية للفرنكوفونية إلى الانضمام إليها، إلا أن الفرنسية فيها تحتلّ مكانةً هي أشبه بمكانة لغة رسمية ثانية إلى جانب العربية. فبرغم أن وضعَها القانوني غير مقنّن البتة، إلا أنها لغةُ جزء لا يستهان به من الإدارة والسلك التعليمي والإعلام والقطاعين الاقتصادي والمالي. بل ويصاغ بها - ما ليس بالشيء الهين - جزءٌ من تشريعات البلاد قبل ترجمته إلى العربية (ليس مستبعداً أن يكون القانون 91 ـ 05، بتاريخ 16 كانون الثاني/ يناير 1991، الذي أقرّ "تعميم استخدام اللغة العربية"، قد كُتب بـ "اللغة الأجنبية" قبل نقله إلى العربية!).
وبدورها، تعرف العربية الفصحى، بشكليها الكلاسيكي والحديث، انتشاراً لا يُقارن أبداً بما كانت عليه خلال عقد الستينيات، حين كانت حكراً على نخبة صغيرة من "المتعلمين". فهي اليوم لغةٌ التدريس الحصْريةُ في التعليم العام وفي قسم كبير من الدراسات الجامعية. وما شعبيةُ وسائل الإعلام الناطقة بالعربية سوى دليل على أنها ليست "لغة ميتة" كما درج البعض على القول هازئين بها، ولو كلّفهم ذلك تصنُّعَ الدفاع عن مطلب تعميم استعمال اللغة الدارجة.
وضروريٌ هنا أن نفتح قوسين بشأن الخطابات عن "تهميش" الدارجة، وأقلّ ما يقال عنها أنها مطبوعةٌ بطابع المبالغة والمغالاة. صحيحٌ أن لا أحد - اللهم إلا علماء الألسنيات - يَعدُّ الدارجة لغةً بأتمّ معنى الكلمة، غير أنّها، في أشكالها الشبيهة بما يسميه أهل الاختصاص "عربية المثقفين الشفهية"، رائجةُ الاستخدام في البرامج الإذاعية والتلفزيونية والإنترنت والمسرح والسينما والأغنية والرسومات الصحافية والأدب المكتوب والمناظرات السياسية وجلسات المحاكم والإدارة.. بل إنها باتت لغةً مكتوبة في الإعلانات، وهو مجالٌ لا يستبعد أن تكون فيه بصدد زحزحة الفصحى عن موقعها. لقد كان هدف سياسة التعريب خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات استبدال الفرنسية بالعربية الفصحى. والقول إنها رمت إلى القضاء على الدارجة هو إلقاءٌ للكلام على عواهنه لا غير: ألم يكن مهندس هذه السياسة، الرئيس هواري بومدين، يتحدث الدارجةَ من دون أية عقدة نقص؟

تعطل الترجمة يعمق الهوة

تفتح هذه الازدواجية اللغوية شبه الرسمية بين العربية والفرنسية المجال لصلات ثقافية مع المشرق، هي استمرارٌ لتقليد عمره آلاف السنين، ولأخرى غيرِ منقطعة مع فرنسا أيضاً، لكنها لم تسفر في الجزائر نفسها عن أيّ تواصل حقيقي بين الانتلجنسيا الناطقة بالعربية والانتلجنسيا الفرنكوفونية، فكلّ واحدة منهما مرابطةٌ في قلعتها لا تبرحها بزعم أنها مهددةٌ محاصرة.
ويتجلىّ الطابع الهامشي لتواصل هاتين "الأنتلجنسيتيْن" أول ما يتجلّى في كون معظم أعضائهما أحاديّي اللغة، لا يُحْسنون سوى العربية أو الفرنسية، أي بعبارة أخرى، في انحصار إتقان اللغتين في فئة قليلة هي أشبه بجسرٍ متهالك بين عالمين متوازيين لا يلتقيان. قلةٌ من المثقفين الفرنكوفونيين يحسنون العربية الفصحى الموصوفةَ في أحيان كثيرة عبثاً بـ "اللغة الصعبة". كذلك، قلةٌ من المبدعين بالعربية يحسنون الفرنسية، برغم أن انتشارها الواسع في البلاد يسهّل نسبيا إتقانها. نتيجة كلِّ هذا فإن صلاتِ المبدعين الجزائريين الفرنكوفونيين بنظرائهم الفرنسيين أوطدُ من صلاتهم بمواطنيهم من المبدعين بالعربية، والعكس صحيح، فالمبدعون بالعربية أقرب إلى الأوساط الثقافية في القاهرة وبيروت منهم إلى نظرائهم الفرنكوفونيين في بلدهم.
ويلاحظ أن العربيةً لغةٌ شبه محظورة في بعض الميادين الفنية، فغالبيةُ الفنانين الرسامين، مثلا، فرنكوفونيون، والفرنسيةُ هي لغةُ التدريس الوحيدة في كلية الفنون الجميلة. وفي المقابل، اتحّاد الكتاب هيئةٌ معرّبة بامتياز منذ أن "أعيد تأسيسه" في 1974 بما جعله فرعاً من فروع الحزب الواحد آنذاك، جبهة التحرير الوطني. وليس تقسيم المجال الثقافي على هذا الأساس اللغوي سوى ترجمة لتقسيم مختلف مجالات الحياة العامة بين المعربين والفرنكوفونيين. فـ "المعربون" يسيطرون على التعليم العام وجزء من الإدارة ووسائل الإعلام (لا سيما الجماهيرية منها)، و "الفرنكوفونيون" يهيمنون على التعليم الجامعي العلمي وقطاعي الاقتصاد والمالية، فضلاً عن بعض وسائل الإعلام بالغة التأثير (وبعضها حكومي).
وكان يمكن للمدرسة أن تشكل بوتقةَ جيل جديد لا يعبأ بالأحقاد اللغوية لسابقيه، لكن، للأسف، نظام الجزائر المستقلة المدرسي أقلّ نجاحاً فيما يخص التعليم المزدوج اللغة مما كان يُسمى إبان الحقبة الاستعمارية "المدرسةَ الفرنكو - الإسلامية". ولا يقلّ حال تعليم اللغات الأجنبية اليوم بؤساً عن حال تعليم العربية، ما يجعل طلابَ الفروع العلمية، ممن درسوا بالعربية في أطوار التعليم العام، مضطرّين عند بلوغهم الجامعة إلى "التفرنس" في أسوأ الظروف "البيداغوجية" الممكنة.
ولا يساعد غياب حركة ترجمة حقيقية على كسر الحواجز بين الأنتلجنسيا المعربة و الأنتلجنسيا الفرنكوفونية. فأمنيةُ المفكر الجزائري مصطفى الأشرف أن يرى"مجهوداً مزدوجاً للترجمة من الفرنسية إلى العربية ومن العربية إلى الفرنسية" ظلت محضَ أمنية. الترجمة الأدبية مثلاً لا تزال نشاطاً هامشياً. فبصرف النظر عن جيل "الرواد" (كاتب ياسين، محمد ديب...)، ممن نُقلت أولى أعمالهم إلى العربية بمبادرة من دور نشر مشرقية، لا يُقدَّم إلى الجزائريين ممن يقرأون بالعربية سوى قلة من الأدباء الذين يكتبون بالفرنسية. كذلك، لا تُترجم إلى الفرنسية سوى أعمال فئة صغيرة من الأدباء الذين يكتبون بالعربية - وهي حتى إن تُرجمت لا تضمن لهم جمهوراً فرنكوفونياً حقيقياً ولا حلّ أمامهم للوصول إليه سوى أن يحذوا حذو أمين الزاوي فيستبدلوا العربية بالفرنسية لغةً للكتابة.

جدار من الخوف

وتعدّ أُحاديةُ اللغة لدى النخبة المعربة والنخبة الفرنكفونية رمزاً بليغاً لجدار الخوف الفاصل بينهما وهو، للمفارقة، جدارٌ لم يكن إبّان الحقبة الاستعمارية بمثل علوِّه الشاهق اليوم. ففي تلك الحقبة، حتى جمعية العلماء المسلمين كان من بين مثقفيها من هم مثالٌ لازدواجية اللغة (محمد الأمين العمودي..)، ويكتبون بالفرنسية ويصدرون بها الصحف.
وتخشى الأنتلجنتسيا الفرنكوفونية التقليدية أشدّ الخشية أن يكون التعريب تعريباً دينياً يطمس، تحت ركام فتوحات جديدة، التراثً الثقافي الفرنكوفوني، وهو تراثٌ يُصوَّر صنواً للديموقراطية والحداثة في أكثر أشكالهما نقاء. ويخلط قسمٌ من هذه الإنتلجانسيا بين العربية الفصحى ولغةِ التهديد والوعيد السلفية، وهو أمر يثير حقاً الاستغراب. فلا أحد يجهل أن العربية، على امتداد تاريخها العريق، كانت لغة شعراء "ماجنين" كأبي نواس، مثلما كانت لغة الفقهاء المتزمتين. ولو كانت حقاً "لغة مقدسة" لما استطاعت نقل الإرث الفلسفي اليوناني إلى أوروبا الغربية.
ولاستحالة نفي وجودها نفياً تاماً، يُقلّل بعض المثقفين الفرنكوفونيين من أهميّة روابط الجزائر بالمشرق، فتراهم يتغنون بـ "هوية متوسطية" (نسبة إلى البحر الأبيض المتوسط) غائمة (تُرى، هل سكانُ الهضاب العليا والواحات وولايات أقصى الجنوب "متوسطيون"؟). كذلك تراهم يتذرّعون بالدفاع عن "التراث الشعبي" في رفضهم للثقافة العربية الكلاسيكية، مع أن من يقوم بالبحث في مجال هذا التراث هم بالأساس جامعيّون معربون.
وينم هذا التغني بانتماء الجزائر "المتوسطي" عن الخوف من ذوبان الجزائر في بحر كيان عربي واسع، إذ ينظر بعض الفرنكوفونيين إلى المشرق باعتباره خطراً محدقاً "بأصالتها" العربية ـ الأمازيغية. والحقيقة أن مردَّ ممانعة الدولة في تمكين اللغات الأمازيغية من التطور والانتشار ليست الضغوط المصرية ولا العراقية، بل هو تقصير "جزائري" صرف: في 1970، تحت حكم البعث الرهيب، اعتُرف بالكردية لغة رسمية لكردستان العراق، بينما انتظرت الأمازيغيةُ في الجزائر 2002 كي تُرفع إلى مصاف "لغة وطنية" وهو مصاف شكلي لا غير.
ويبدو احتمال ذوبان الجزائر في كيان عربي أكبر خيالياً لسببين. أولاً، لأن "الوحدة العربية" لم تكن يوماً هاجس الحكام العرب الحقيقي، وهي لم تعد حتى مطلب الشعوب التي أدركت أن وظيفةَ أيديولوجية "العروبة" هي إضفاء الشرعية على واقع عبوديتها. ثانياً، لأن الشعور القومي الجزائري شعور صلب متين يغذيه معين لا ينضب من ملاحم كفاح الجزائريين ضد الاستعمار. وخلافاً لأسطورة رائجة، لم تكن بلادنا يوماً ولايةً مصرية يسيّرها جمال عبد الناصر من القاهرة، ولا حتى حين كان يتزعمها "العروبي" أحمد بن بلا: صحيحٌ أنها تجندت عسكرياً بين 1967 و1973 إلى جانب مصر وسوريا في إطار من مناهضة الامبريالية، لكنها ظلت على الدوام متمسكةً باستقلالية قرارها في علاقاتها بدول المنطقة العربية.
من جهتها، تنظر الانتلجنسيا المعربة إلى اللغة العربية ككيان واحد متجانس لا يعرف إليه التعدد سبيلا، كيانٍ يمثّله في نظرها أروع تمثيل تراث الحقبة الأدبية الكلاسيكية. وهي بذلك تُهدي سلاحاً ثميناً إلى خصومها ممن يبتسر معتقدُهم شبه - الألسني العربيةَ الفصحى، فيراها "لغة شعر" جمالُها محتمل وعدم جدواها أكيدة. هذه الأنتلجنسيا مذعورةٌ من أن "تتفرنس" الجزائر مجدداً فيُقطع دابر العربية فيها، ولا يهدئ من روعها كون انتشار استعمال هذه اللغة بعد نصف قرن من الاستقلال وصل مستوى غير مسبوق في تاريخ المنطقة المغاربية يجعل اندثارها فكرة خيالية حقاً.
وتزعم الأنتلجنسيا المعربة التقليدية أن الفرنكوفونية حصان طروادة الذي سيُعيد الاستعمار إلى البلاد، وهي بذلك تنظر إليها ككتلة واحدة لا تنوع فيها. حتى كاتب ياسين، برغم أنه، من دون منازع، ناهَض الاستعمار قبل الاستقلال وبعده، ولم ينج من أحكامها القاسية لا لشيء سوى قوله إن "الفرنسية غنيمة حرب". ويبدو أن لا أمل لأي كاتب فرنكفوني في نيل رضاها، أللهم إلا إذا تحول إلى مالك حداد آخر وردّدَ من دون توقف أن الفرنسية "منفاه". فمالك حداد في رأيها هو الفرنكوفوني الوطني الوحيد، وهي تحيط "صمته" الأدبي - أي ما يُزعم أنه توقفه عن الكتابة بالفرنسية - بهالة من الأسطورة. ومن شأن دراسة متأنية لمسيرته أن تُرينا أوجه شبه كثيرة بينه وبين كاتب ياسين (أليس هو القائل إن الفرنسية كانت بالنسبة لجيله "أداة تحرر يُحسب لها ألف حساب"؟) وأن تبرز لنا أنه - عكس صاحب "نجمة" و "الأسلاف يزدادون ضراوة" الذي انتقل إلى الكتابة باللغة الدارجة تقرّباً من شعبه - لم يسعَ يوماً إلى الوصول إلى من كان يسميه قارئه "المثالي.. الفلاح المهموم بمشقات أخرى". صحيحٌ أنه لم ينشر، بعد الاستقلال، أية رواية بالفرنسية، لكن هذه اللغة ظلت لغة عمله الوحيدة في الصحافة.

اللغات كهويات

ولا تُخالف الجزائر قاعدة كون علاقات اللغات بعضها بالبعض الآخر علاقات صدامية تشهد عليها بعض مصطلحات الألسنيات الاجتماعية ذات النبرة الحربية ("حرب اللغات"، "الصراع اللغوي" وغيرها..). ذلك أن اللغات فيها، كما في بلدان مأزومة أخرى، حوامل هويات يُنظر إليها كأنْ لا توافق ممكن بينها: هوية إثنية (الأمازيغية)، هوية إثنية ـ دينية (العربية - الإسلامية)، هوية اجتماعية (الفرنسية).. وما أبعدنا هنا عن الهوية كما عرّفها كلود ليفي ستراوس، "بؤرة افتراضية لا مناص من الرجوع إليها لتفسير بعض الأمور من دون أن يكون لها أي وجود فعلي".
ويزيد هذه الهويات جموداً كونُها تشكلت اعتراضاً على عمليات ومشاريع تهميش استهدفت اللغات التي تعبِّر عنها وترمز إليها: تهميش الأمازيغية لمصلحة العربية، ومشروع تهميش الفرنسية، الذي باء بالفشل، من طرف العربية (نذكر استبدالها في التسعينيات بالإنكليزية كلغة أجنبية أولى في الصفوف الابتدائية)، وأخيراً، تهميش العربية من طرف الفرنسية تحت الحكم الاستعماري وحتى اليوم، كما يشير إلى ذلك أبلغ إشارة استمرار صياغة الجريدة الرسمية بـ "اللغة الأجنبية" قبل ترجمتها إلى العربية. قد يثير هذا الحديث عن تهميش العربية التعجب، لكن تهميش لغة من قبل أخرى، كما يقول الألسني الفرنسي جان باتيست مارسيليزي، ليس "نتاج موقف رسمي فحسب"، ويمكن أن يكون "نتاج كل أصناف العوامل السياسية والاقتصادية، ومنها ثقل التاريخ".
وما انفكت هيمنة الفرنسية على العربية، وهي اللغة الرسمية، تغذي استياء قطاعات واسعة من المجتمع، وهي بعض ما يفسِّر نجاح التيار الإسلامي النسبيّ كتعبير غير مباشر عن خيبات أمل اقتصادية واجتماعية ولغوية كثيرة، وهي هيمنةٌ تتجلى حتى في "نوعية" اللغة العربية التي تستخدمها وسائل الإعلام الجزائرية. ففصحاها ليست بفصحى، إذ إنها تزخر بالبنى النحوية الفرنسية التي انتقلت إليها عن طريق الترجمة. ومن المضحك أن نرى صحفاً تدّعي حمل مشعل "الأصالة" تكتب بعربية هي ثمرةٌ هجينة من ثمار الترجمة الحرفية من "لغة المستعمر" (ولكنه ضحكٌ كالبكاء).

مسؤولية المبدعين الشباب

ولا يسعْ أية سياسة لغوية رشيدة سوى أن تصبو إلى ترقية العربية الفصحى، يحدوها همّ أخذ مكتسبات التلاميذ ما قبل المدرسية في الحسبان، ما يعني استغلال أوجه الشبه بين هذه اللغة واللغات المحكية (المفردات، الخ). ويجب أن تُولى الأفضلية في تدريس اللغة والآداب العربية للمحتويات الحديثة والمعاصرة، لا أن يسيطر عليه، كما هو الحال اليوم، المتن الأدبي الجاهلي وما قبل الحديث. ويتعيّن ألا يُنظر أبداً إلى العربية باعتبارها "لغة القرآن"، فالفضل في كونها واحدةً من لغات منظمة الأمم المتحدة يعود إلى ما بذله مثقفون مسيحيون كُثُر من جهود لعصرنتها.
وينبغي أن ترمي أية سياسة لغوية رشيدة إلى إنقاذ وتطوير اللغات الأمازيغية، وهي في الواقع اللغات المضطهدة الوحيدة في بلادنا، فتعليمها يتم بشكل تنقصه الاحترافية، فيما تجري عمليتا تقنينها وتوحيد لهجاتها بشكل فوضوي. وما لم تولَيا إلى علماء ألسنيات اجتماعية أكفاء، ستسفران حتما عن كارثة: خلق "أمازيغية موحدّة" اصطناعية، لا تعترف بها أية مجموعة من المجموعات الأمازيغية. كذلك، لا بدّ من توضيح وضع الفرنسية القانوني (على سبيل المثال جعلها رسمياً لغة تدريس المواد العلمية في الجامعة تفادياً للنشاز اللغوي الحالي وما يلحقه من ضرر بنوعية التكوين).
ويستحيل التقدم نحو حلّ مشاكلنا اللغوية من دون تغيير ملموس في صفوف النخب الفرنكفونية والمعربة. داخل هذه النخب مبدعون شباب يمشون، من دون تباه أو خيلاء، على درب توفيّقية لغوية وثقافية حقيقية. فالعربية، في نظرهم، ليست لا لغة الأئمة الجهلة ولا السياسيين الفاسدين، إنما هي لغة حية تتقاسمها الجزائر مع المشرق. وكما أن العربية بالنسبة إليهم ليست "لغةَ القرآن"، فالفرنسية كذلك ليست "لغةَ المستعمِر". لا يُستبعد أن يكون هؤلاء المبدعون هم أغلبية النخب الثقافية والأدبية، لكن لا سلطة رمزية لهم داخلها، فصوتُهم خافت لا يكاد يُسمع، وأدهى من ذلك، تراهم يفضّلون عدمَ خوض المجادلات اللغوية - الثقافية التي تعيش الجزائر على وقعها، برغم أن تموضعهم فيها قد يضع حداً لهستيريا الهويات هذه التي لا تخدم سوى الرجعية بكل تلاوينها.

ترجمة: هيفاء زعيتر

للكاتب نفسه

الجزائر: لئلا يُحوَّل ترسيمُ اللغة الأمازيغية إلى جدل "هوياتي" عقيم

يقترح مشروع الدستور الجزائري المعدّل في مادته "3 مكرر" الاعترافَ بالأمازيغية لغةً "رسميةً" إلى جانب "اللغة الوطنية والرسمية"، العربية. ولا يسع كلَّ عارف بما يمثله عدم حل المشاكل اللغوية العالقة...