عنزة ولو طارت! ولكن هناك ما هو أهم من العناد: كيف ولماذا.
وأما كيف فيسهل استبيانها: في 8 نيسان/أبريل 2016 قرر الرئيس السيسي أن جزيرتي تيران وصنافير الواقعتين في البحر الأحمر عند مدخل خليج العقبة كانتا مودعتان لدى مصر، وإنما هما سعوديتان بموجب وثائق تعود الى الفترة العثمانية.. هذا في الاخراج المباشر. أما في الواقع المجسَّد فقد أعلن عن هذا التصحيح ل"الحقيقة التاريخية" خلال زيارة الملك السعودي للقاهرة حينها، وبعد عطايا وهبات وقروض منحتها الرياض للقاهرة على مدى أكثر من سنتين. وبدا الأمر وكأنه رد للجميل، أو تعويض من الموجود. سوى أن ثائرة المصريين ثارت، على اختلاف مشاربهم وأهوائهم السياسية، وحدثت تحركات شعبية وقانونية، احتجاجات ومطالعات علمية، إلى أن حكمت المحكمة الإدارية العليا في كانون الثاني/ يناير 2017 ببطلان الاتفاقية الموقعة بين مصر والسعودية والتي سيتم بموجبها "رد" الجزيرتين إلى صاحبهما، واعتبرت حكمها باتاً ونهائياً وواجب التنفيذ. وقتها، ظهر أن الرئيس السيسي تعرض لهزيمة. ولأن الأمر كان مستغرباً بحكم مقدار سيطرة الرجل على الهيئات ــ حتى في حينها وقبل التعديلات الأخيرة في القوانين التي عززت هذه السيطرة ــ فقد سرت إشاعات تقول أن السيسي تقصد تبييض وجهه مع السعودية، ثم ومن باب خلفي، خطط لإحباط عمله، كما لو كان قد اسقط بيده. ولكن ذلك أيضاً كان مستغرباً، فوضْع الرجل كان قد وصل إلى مقدار من الهشاشة بحيث أن مناورة من هذا القبيل ليست من ضمن ما يقدر عليه. وفي الأثناء زعلت السعودية بسبب هذا الإحباط للاتفاقية، ولعلها ظنت فعلاً أنها مناورة من السيسي. صار جفاء وبرود وحجب للمساعدات.
بعد ذلك، في شباط/ فبراير 2017، قررت محكمة الأمور المستعجلة في القاهرة أن الاتفاقية صالحة وصحيحة. وبذلك أعلنت الحكومة أنها ستلجأ إلى المحكمة الدستورية العليا لتحديد أي من المحكمتين لها الولاية القضائية للفصل في هذا الخلاف. ولكن وقبل صدور قرار هذه المحكمة، أحيل الملف الى اللجنة التشريعية والدستورية في مجلس النواب التي ناقشته خلال أيام وصوتت البارحة بأغلبية أعضائها على صحة الاتفاقية، ولم يبق إلا إقراره من البرلمان وإصداره بمرسوم رئاسي.. وبلا وجع دماغ قانوني ودراسات للوثائق ومطالعات من قبل الخبراء، وكل هذا القال والقيل.
وأما لماذا فتتشعب: هل هي هدية مقابل الكرم السعودي، أو حتى عربوناً متملقاً للحصول على بطاقة دخول إلى عضوية النادي الفائز.. لعل ذلك صحيح ولكنه بسيط في نهاية المطاف، وعلى الرغم من استفزازه للشعور الوطني المصري باعتبار المسألة تفريطاً بالأرض، وبالأخص بمكان قاتل من أجل الحفاظ عليه الجيش المصري بوجه إسرائيل في 1967، ورواه أفراده بدمائهم واحتُل عندما احتُلت سيناء واستعيد باستعادتها الخ...
وقد يكون في هذا الكثير من عناصر الإجابة على "لماذا" تلك. موقع الجزيرتين استراتيجي فعلاً، في أسفل سيناء مقابل شرم الشيخ، وفي الوسط بين مصر والسعودية، وكأنهما حراس بوابة خليج العقبة المؤدي إلى.. إيلات، المرفأ الإسرائيلي على البحر الأحمر. ينفلت الخيال حينها، ويتجه صوب إسرائيل وليس سواها: الجزيرتان مهمتان عسكرياً بدليل أن الجنرال أحمد شفيق (وهو ليس مناضلاً يسارياً) روى منذ أيام على الهواء كيف قاتل هو شخصياً كضابط في الطيران المصري، لمساعدة القوات البرية على إغلاق مضيق العقبة بوجه إسرائيل تطبيقاً لقرار الرئيس عبد الناصر خلال حرب 5 حزيران/يونيو 1967، والدور الذي لعبته الجزيرتان في ذلك الحصار.
وهناك أيضاً مشاريع تتعلق بمد أنابيب النفط كما تأمين تنظيم حركة ناقلاته البحرية، وهي تخص السعودية والأردن.. وإسرائيل. ويبدو أن مصر تأمل بحصة لها، ولاسيما أنها تتخلى عن السيادة على الجزيرتين وتحتفظ بالمقابل بالولاية الادارية عليهما.
الخلاصة المؤقتة: الرئيس السيسي أحكم السيطرة على الهيئات القضائية بالتعديل القانوني الذي أقر في البرلمان وسيطبق مطلع الشهر القادم، ثم أصدر قانون الجمعيات الأهلية لتصفية التكتلات المثيرة لوجع الرأس مستنداً إلى خبرة ما جرى في 2011، ثم أغلق صحفاً ومواقع الكترونية (بدأ بعشرين في آخر الشهر الماضي، وبلغت اليوم 62 موقعاً مغلقاً). الرئيس السيسي مدد أيضاً حالة الطوارئ بحجة "الحرب على الإرهاب".
هناك نواب في البرلمان وتكتلات سياسية وشخصيات تعارض كل ذلك، بل وصل الأمر لمناشدة الجيش بالتدخل إزاء ما وصف ب"الخيانة العظمى".. والرئيس السيسي يجيب بأن يسرِّع هذا كل يوم أكثر، فأين هو ذاهب بمصر؟