اندلعت الحرب في اليمن منذ أكثر من عامين، ابتداء بسيطرة الحوثيين المسلحة على السلطة في أيلول/ سبتمبر 2014، وانتهاء بالتدخل العسكري بقيادة السعودية ودعم تسليحي واستخباراتي وسياسي أمريكي وبريطاني كثيف. وتزامنت هذه الحرب مع تفشي للفوضى والفساد وغياب استراتيجيات واضحة للحسم العسكري تستثمر فارق القوة النارية الذي تمتلكه القوات الموالية ل "الشرعية" و"التحالف العربي" بقيادة السعودية والإمارات. وبالمقابل تمسكت مليشيات الحوثي والقوات الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح بإدارة حرب عصابات واسعة لمقاومة القوة النارية المتفوقة لدى التحالف، إضافة إلى استخدام القدرات البالستية من إرث اليمن الصاروخي من فترة الحرب الباردة، والمكون من تشكيلة واسعة من الصواريخ السوفيتية القديمة مثل سكود وتوشكا، مع إضافة تحسينات عليها فيما يبدو، بمساعدة من الخبرات الإيرانية في هذا المجال.
كسر استقرار خطوط القتال؟
ظلت هذه الحرب تراوح في خطوط القتال ذاتها التي استقرت على مدى العامين، بدون تغييرات فعلية بعد هزيمة قوات الحوثيين وصالح في المحافظات الجنوبية، وانسحابها للقتال في مناطق الشمال حيث تجد ملاذاً حاضناً، اجتماعياً وعسكرياً، مناسباً لتكتيكاتها القتالية. وظل ذلك قائماً الى حين التقدم المهم الذي حدث من قبل قوات الرئيس هادي نحو مديرية "نهم" المحاذية شرقاً وشمالاً للعاصمة صنعاء، ولكن تمّ امتصاص هذا الاختراق بفعالية من قبل قوات الحوثيين وصالح، المجهزة جيداً للمعارك ذات الطابع الجبلي.
عقب ذلك تقدمت مطلع شباط /فبراير الماضي بشكل مفاجئ - وبعد تعثر طويل - القوات الموالية للرئيس هادي، وبدعم كبير من "التحالف"، بالعتاد والمشاركة بالطيران والبوارج البحرية، في مديرية ذباب التي تمتد في الركن الجنوبي للساحل الغربي من اليمن، وتطل على منفذ باب المندب بالغ الأهمية، وصولاً للسيطرة على مدينة وميناء "المخا" الذي يعتبر رابع أكبر ميناء في اليمن، والثاني على ساحل البحر الأحمر.
ستؤدي المعارك المتوقعة إلى حالة نزوح واسعة لمئات الآلاف، ولا يحضر في الأفق أي خطط أو تجهيزات إنسانية، بما فيها إقامة معسكرات مجهزة للنازحين بالتوازي مع التجهيزات العسكرية الحثيثة.
شكلت هذه المعركة تحولاً مهما في مسار الحرب، أفضى لخضوع الجزء الجنوبي من ساحل البحر الأحمر لسيطرة قوات الحكومة المعترف بها دولياً. وتتعدى هذه الأهمية طرد قوات الحوثيين وصالح، إلى إغلاق واحدة من المنافذ الأساسية التي تعتمد عليها هذه الجهة في التهريب، بما يعنيه ذلك من التزود بالسلاح بقدر المتاح، وبالكحول التي تشكل مورداً مالياً أيضاً لعصابات التهريب التي طالما كانت متحالفة مع مراكز قوى موالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح.
بانتظار معركة الحُديدة
لم تنتهِ معركة الساحل كلياً بعد هذا التقدم، حيث الأهداف المعلنة للقوات المدعومة من "التحالف" هي "تحرير كامل ساحل البحر الأحمر"، وبالتحديد ــ وهو الأهم ــ السيطرة على مدينة الحُديدة التي يقطنها حوالي مليون نسمة من أصل 2,6 مليون نسمة هو عدد سكان المحافظة بأكملها، والسيطرة على مينائها الحيوي الذي يعتبر من أكبر موانئ اليمن وتمر به، بالإضافة إلى نشاطه التجاري، 80 في المئة من المساعدات الإنسانية القادمة للبلاد، علاوة على كونه آخر منفذ بحري تحت سيطرة تحالف الحوثيين وصالح.
تبدو التحضيرات مستمرة لخوض هذه المعركة الكبرى في اليمن، وهي فعلياً ستكون الأهم منذ تحرير مدينة عدن من سيطرة الحوثيين وصالح في بداية الحرب. وحتى الآن، تتوالى الحشود العسكرية إلى مدينة "المخا" التي ستكون نقطة الانطلاق للتقدم شمالاً نحو مدينة الحُديدة. ويحاول الحوثيون إعاقة أي تقدم عسكري عبر خوض حرب استنزاف مكلفة في المحيط الشمالي لمدينة "المخا"، وتنفيذ عمليات جريئة لإيقاع خسائر بشرية كبيرة في أوساط القوات الموالية للحكومة التي تتجمع هناك. وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي يتعرض لها مقاتليهم، إلا أن الأهمية الشديدة التي يولونها للساحل تجعلهم يتغاضون على الكلف العالية ويستمرون في القتال.
على الصعيد العسكري لن يكون هناك تقدم سريع للغاية نحو مدينة الحُديدة على الرغم من الطبيعة الجغرافية السهلة والمنبسطة في الطريق الذاهب إليها من "المخا" قياساً بالتعقيدات التي تعيق القوات في خوض حرب في مناطق جبلية مثل منطقة "نهم" شمال شرق صنعاء. وستأتي التحديات من المدن الصغيرة والمتوسطة التي تمتد على طول الطريق الواصل للحُديدة، والتي يُتوقع أن يحولها الحوثيون إلى مواقع دفاع متقدمة، وخوض حرب عصابات شرسة. وسيعيق السكان الموجودون في هذه المدن قدرة قوات الحكومة و"التحالف" على استخدام التفوق الناري الذي يمتلكونه، كونه يؤدي إلى إيقاع خسائر كبيرة بالمدنيين، وهو الأمر الذي يراهن تحالف الحوثيين وصالح على استثماره في المعركة والدعاية السياسية. ستشهد مدن "حيس" و"بيت الفقيه" و"زبيد" التي تقع في الطريق إلى مدينة الحُديدة معارك كبيرة يراهن الحوثيون وصالح على تحولها لمستنقع مكلف يغرق قوات الحكومة، عبر مزيج معقد من حرب العصابات والكمائن والمفخخات في الطرق والبيوت إضافة إلى شبكات الألغام. ومواجهة كل ذلك عملية منهكة وتستغرق وقتاً طويلاً. كما أن أي اخطاء - وهو أمر متكرر- في غارات الطيران أو القصف ستؤدي إلى المزيد من التعقيدات والغضب في أوساط السكان. وستشهد الحُديدة معركة كبيرة وقاسية للغاية. فإضافة لمساحة المدينة الكبيرة وازدحامها بالسكان، فهي تشهد تركزاً عسكرياً هائلاً وتضم في داخلها وفي محيطها عدداً من المعسكرات والمقار الأمنية المجهزة جيداً. وهناك حالياً فيها استعداد قتالي وحشود من مقاتلي الحوثيين والجيش الموالي لصالح انتظاراً لتقدم قوات حكومة الرئيس هادي و"التحالف العربي". ولا يؤشر سلوك الحوثيين وصالح إلى أنهم قد ينسحبون لتجنيب الأحياء السكنية الدمار، بل يتوقع قتالاً ضارياً لحي بعد حي لعرقلة أي تقدم وإيقاع اكبر قدر من الخسائر. سيؤدي ذلك إلى خلق واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في بلاد مزدحمة بالكوارث الإنسانية بالأساس.
سيؤدي تمدد "القاعدة" من مناطق تواجدها الحالية في الجنوب والوسط إلى الساحل الغربي، إلى خلق فرصة نادرة لم تتوفر لها سابقاً لتطل مباشرة على خطوط الملاحة الدولية المهمة للغاية في البحر الأحمر
ستؤدي هذه المعارك على طول الساحل وصولاً إلى مدينة الحُديدة إلى أزمة إنسانية واسعة، تضاف إلى تلك القائمة اليوم. فمحافظة الحُديدة هي الأكثر فقراً في اليمن، ويعاني السكان فيها من انعدام الأمن الغذائي بشكل فادح. وستؤدي المعارك المتوقعة فيها إلى حالة نزوح واسعة لمئات الآلاف، ولا يحضر في الأفق أي خطط أو تجهيزات إنسانية، بما فيها إقامة معسكرات مجهزة للنازحين بالتوازي مع التجهيزات العسكرية الحثيثة من قبل حكومة هادي المعترف بها دولياً أو "التحالف العربي" بقيادة السعودية والإمارات.
وستؤدي هذه المعركة بالتأكيد إلى تجريد "تحالف صنعاء" (الحوثيين وصالح) من آخر إطلالة إستراتيجية لديه على البحر الأحمر، بكل الممرات الدولية التي يشرف عليها، وتحرمه من القدرة على تهديد البحرية السعودية والإماراتية وأي مصالح تجارية تمر قبالة الشواطئ اليمنية، كما تحرمه من أي موارد مالية يتيحها استمرار خضوع ميناء الحُديدة له.
تقديرات
• على الرغم من هذا "المكسب" الاستراتيجي للرئيس هادي و"التحالف العربي"، فإن حجم الكلفة الإنسانية والسياسية لهذه المعركة، بما تخلفه من كوارث إنسانية وأمنية، هو أمر يجعل من خوضها ضرباً من الجنون، خاصة انه من غير الواضح أن خسارتها من قبل الحوثيين وصالح قد تجبرهم بالضرورة على العودة إلى طاولة المفاوضات.
• كما أنه من الممكن أن تؤدي خسارة مدينة الحُديدة ومينائها إلى تعزيز راديكالية تحالف الحوثيين وصالح ونفورهم من أي تسوية سياسية، وانغلاقهم في مناطق الشمال الجبلية حيث يجدون ملاذاً اجتماعياً وعسكرياً يمكّنهم من المقاومة، مع تأثير منخفض لحرمانهم من موارد الميناء المالية كون اقتصادهم يعتمد على موارد غير رسمية على الأغلب، تعتمد في جزء كبير منها على سوق سوداء بالشراكة مع أعضاء في الحكومة المعترف بها دولياً.
• ولا يتعرف هذا الجهد للدفع بعملية عسكرية على طول ساحل الأحمر، تشترك فيها الولايات المتحدة الأمريكية بقوات مباشرة، على المخاطرة البالغة لهكذا خيار عسكري! إذ ستكون له ارتدادات خطيرة على كافة المستويات الأمنية. فهو أمر تستفيد منه مباشرة جماعة الحوثيين، ويمنح ادعائها بأنها تقاتل أمريكا في هذا الحرب شرعية فعلية، ما سيتيح لها التجنيد وإعادة تعبئة حاضنتها الاجتماعية.
• والأخطر أن ذلك سيفتح الباب للجماعات المتطرفة، ومنها "القاعدة"، للتسلل إلى ساحل البحر الأحمر الذي لم يكن مسرحاً فعلياً لنشاطها سابقاً. انتقال "القاعدة" إلى الساحل سيتم بالضرورة بسبب تحوله لمسرح عمليات قتالية واسعة، مما سيؤدي بشكل متزامن ثم لاحق إلى انفلات وفوضى واسعة وفراغات أمنية واسعة تستثمرها بسهولة، وسيغريها بالتأكيد وجود أقدام أمريكية على الساحل. كما سيؤدي تمدد "القاعدة" من مناطق تواجدها الحالية في الجنوب والوسط إلى الساحل الغربي، إلى خلق فرصة نادرة لم تتوفر لها سابقاً لتطل مباشرة على خطوط الملاحة الدولية المهمة للغاية في البحر الأحمر..
هناك تحول خطير بالمعنى الأمني على وشك الوقوع، ولا يبدو أن الإدارة الأمريكية تدرك حجمه، في وقت يدفعها حلفاءها من الإماراتيين والسعوديين للاشتراك في هذه المعركة.