أعطت الهيمنة العالمية للنيوليبرالية، كنمط للتحكّم بالانتاج وبحركة الثروة، دفعة هائلة لما يسمى "الاقتصاد الموازي"، أو غير المهيكل أو غير النظامي. وهو وإن كان ظاهرة عامة وتوجد له تعبيرات مختلفة في كل مكان، إلا أنها متفاقمة في البلدان التي لا تقع في قلب المركز الرأسمالي. وفي هذه البلدان، كانت البنى الاقتصادية التقليدية قد فُككت أصلاً، خصوصاً مع السيطرة الاستعمارية عليها، سواء تلك التي مورست في بلدان المنطقة بشكل مباشر وحاد (تجربة الجزائر) أو متقطع (المغرب الاقصى، مصر..).
وفي مرحلة لاحقة، إستمر هذا التخليع بشكل لا يقلّ حدّة عن البدايات، حين انتقلت الامبريالية الى نظام يشمل المركز والأطراف في منظومة واحدة ودينامية مشتركة، حيث بدا أن فترة الاستعمار المباشِر واستلحاق هذه المجتمعات بالمستعمِر وتبعيتها له قد انتهت. إلا أن التحرّر والانعتاق سرعان ما جرى ضبطهما في حركة السوق العالمية. وقد تم ذلك أحياناً بطرق عنفية وحربية حتى، حينما لم يُكتفَ بالحؤول دون قيام بنى اقتصادية بحكم الخنق والافلاس أو بحكم تخريب ما تبقى من الاقتصاد التقليدي. وهذه الحال تظهر بشكل جلي في الزراعة خصوصاً، بدءا من مصادرة الأراضي بشكل واسع أو عبر التحكم بالمياه والبذار، وباشاعة المعدل منها جينياً وذاك الأحادي غير المعد للاستهلاك المحلي بل للتصدير وإشباع حاجات صناعية وتجارية في أمكنة أخرى.. وهكذا ولد خراب عميم وعميق.
كما قُطعت الطريق على الصناعات الوطنية الناشئة، على ضعفها وجزئيتها، وجرت محاربتها. وفي نهاية المطاف، لم تتمكن هذه المجتمعات من تحقيق أي اكتفاء ذاتي ولا أي تراكم أولي، وصارت في حالة متقدمة من غير الانتاجية، ساهم في تعزيزها أن السلطات القائمة كانت في الأغلب إما قاصرة ومتخبّطة ومفتقدة للتصوّر العام، أو فاسدة وتمارس دور الوكيل المحليّ لهذه الامبريالية أو دور الوسيط بينها وبين بعض الشرائح المستفيدة من هذه الدورة، وتلجأ طبعاً للقمع لضبط الأمور إزاء البؤس المتعاظم وانسداد الأفق أمام الناس.
ليس الاقتصاد الموازي مجرد وسيلة وجدها الناس المفْقَرون في هذه البلدان لتأمين مستلزمات البقاء على قيد الحياة، وخصوصاً في ظل الانسحاب المتعاظِم للدولة من المسؤولية عن المجتمع، وتفشي الخصخصة بناء على "إصلاحات بنيوية" و"إعادة هيكلة" يفرضها النظام العالمي المهيمن عبر أدواته (البنك وصندوق النقد الدوليان). بل هو تحوّل في العقود الاخيرة ليصبح نمط النشاط الاقتصادي الأكبر الممارس في هذه المجتمعات، معززاً انقسامها بين "نخبة" رقيقة تتحكم بما هو منظور في كافة الميادين، من صناعة وزراعة وتجارة وخدمات، وأغلبية كبيرة تتدبر نفسها لأنها خارج دائرة الحركة الانتاجية التي لا تتسع لها بحكم جزئيتها أي قيامها على مجرد تيسير الاستهلاك ونهب المواد الأولية و"النشاط التحويلي" في أحسن الاحوال.
لكن المفارقة أن تلك الهوامش الاقتصادية نفسها (وهي التي تحرّك رساميل كبيرة توظيفاً وتحصل على عائدات كبيرة أيضاً) ليست متروكة أبداً، بل هي تخضع لتراتبية صارمة في حركتها ينكشف أنها غالباً ما تنتهي في قمّتها عند "نخبة" أخرى (كثيرا ما تكون مختلِطة مع الأولى)، متنفذة سياسياً واقتصادياً ومتحكِمة بالبلاد. لا يتم التهريب عبر حدود الدول للبضائع والبشر والممنوعات على أشكالها بناء على مبادرة المعدَمين الذين يحملون الشنط. بل تبرز هنا العلاقة الوطيدة بين الزعيم والضابط اللذان يتقاسمان المسؤولية عن ذلك النشاط، تشجيعاً أو زجراً، وبكل الأحوال مقابل نصيب معلوم. ولا يمكن لأي كان أن يقرّر فرد "بسطته" في الشارع أو تحريك عربته النقالة، بل يخضع ذلك لتنظيم متكامل وشروط ومراكز قوى أعلى من البائعين أنفسهم، الذين يبحثون عن الكفاف. وأما حين يصبح التهريب والتوزيع يخصّان المخدرات أو السلاح أو تبيبض العملات او الحصول على السمسرات او على امتيازات استثنائية، فيصبح الأمر أكثر جدية. المشكلة أن "نظام صمت" يغلف كل ذلك، وتغيب إمكانية تقديم أرقام دقيقة والاعتداد باحصائيات، كما يخاف الناس من الكلام وما يستتبعه من قصاص قد يصل الى القتل.
لا تتجه هذه النصوص الـ14 الى الاكتفاء بوصف الحالة بل تسعى للإجابة على سؤال "ما الذي تنتجه هذه المنظومة؟" بكلّ تشعبات ذلك الانتاج، على مستويات العمران والسياسة والعنف، وليس فحسب الاقتصاد. وهذا الدفتر يجمعها وفق فصول تخصّ كل بلد، مع مراعاة تغطية أكبر قدر من الملامح وتقديم تحليلات لتفسير الظاهرة وآليات اشتغالها ولرصد مداها ولقول نتائجها كذلك.
توزعت نصوص هذا الدفتر على أربعة بلدان، هي مصر وتونس والجزائر والمغرب. وحاول الباحثون رصد بعض أبرز مظاهر النشاط الاقتصادي "الموازي"، وتبيان كيفية تطوره أو تاريخ هذا التطوّر الذي جرى تحت ضغط عوامل محددة، وصلته بالسلطات عبر ممثليها المتعاملين معه.
يقول الباحث أحمد هني في مطلع نصه أن "الأمر الأساسي هو معرفة لمن تذهب فوائد القيود على النشاط الاقتصادي التي تولّد الحاجة للاقتصاد الموازي، ثم هناك سؤال ثان: هل تتوافق هذه القيود مع عقلانية اقتصادية أم أنها أدوات بيروقراطية في يد الحكم السياسي؟".
نأمل أن الدفتر وفّر معرفة بحال كل بلد، ونأمل كذلك أن تكون قد اتضحت بقراءته النقاط المشتركة بين الحالات بما يأخذ في الاعتبار الخصوصية السياسية والاجتماعية لكل منها، ويتجاوزها في آن نحو بلورة تحديد عام أولاً بشأن "الاقتصاد الموازي"، وصورة وافية ثانياً مرتبطة بالقائم واقعياً.