في 10 كانون أول / ديسمبر 2015، قضت محكمة الجنايات الكويتية بسجن أحمد بن فهد، أحد أفراد العائلة الحاكمة، لمدة 6 أشهر مع الشغل بعد إدانته بالإساءة إلى النائب العام وأعضاء النيابة ونسبه أقوالاً إلى أمير البلاد دون إذن من الديوان الأميري. لم يكن قرار المحكمة مفاجئاً، إلا إنه لم يكن اعتيادياً. فالكويت كغيرها من بلدان الخليج تعتبر أفراد العوائل الحاكمة أنفسهم فوق القانون. وفوق ذلك، فإن المدان هو ابن شقيق أمير الكويت، وكان يشغل في السابق رئاسة الأمن الوطني ومناصب وزارية حسّاسة عدة. وكان في آخر مناصبه الرسمية نائباً لرئيس مجلس الوزراء قبل استقالته في حزيران/ يونيو 2011 تفادياً لإخضاعه للاستجواب البرلماني لمواجهة إدعاءات بضلوعه في قضايا فساد مالي.
بعد إدانة بن فهد، تمت تسوية قضية أخرى تتعلق بتقديمه بلاغاً إلى النيابة العامة يتهم فيها رئيس البرلمان الكويتي السابق ورئيس الحكومة السابق، من ضمن آخرين، "بالتآمر لقلب نظام الحكم والتخابر مع دولة أجنبية وغسل الأموال والاعتداء على الأموال العامة". لم ينته الموضوع، فلم تكن المحاكمة وما سبقها وتلاها سوى تفاصيل صغيرة في ملف الصراع الداخلي الذي يمتد عقوداً عديدة.
شروخٌ في "بيت الحكم" في الكويت
في 2006، تم تنصيب صباح الأحمد أميراً للكويت وتنصيب أخيه نواف الأحمد ولياً للعهد. جاء ذلك بعد عمليّة مخاض طويلة ومعقدة لتسوية التنافس على العرش بين جناحَي الأسرة الحاكمة، أي ما يُعرف بجناحَي الجابر والسالم وأنصارهما. لجأ الطرفان في أوج مواجهتهما قبل عشر سنوات إلى تعبئة ما بتصرف كل منهما من أدوات، بما فيها تحريك الأجهزة والقطعات العسكرية والأمنية في مواجهات علنية. فضح فشل آل صباح في التوافق على اختيار أميرٍ من بينهم عمق الأزمة الداخلية في العائلة الحاكمة. إلّا أنّ ذلك الفشل فتح طريقاً أمام البرلمان الكويتي كي يقوم بدورٍ حاسم عبر الاضطلاع، فعلياً وليس شكلياً، بدوره الدستوري في اختيار الأمير الجديد وفي تسوية صراع جناحي العائلة الحاكمة. تجاوزت التسوية العرف السائد منذ أجيال عدة. العرف ينْظم التعاقب على حكم الإمارة بين الجناحَيْن. فصباح الأحمد ينتمي مثل سلفه إلى جناح الجابر الذي ينتمي إليه أيضاً ولي العهد الجديد. تجدر ملاحظة امتنان صباح الأحمد لدور البرلمان في تنصيبه أميراً ما لم يمنعه من رفض الاستجابة إلى مناشدات قدمها أعضاء البرلمان بتعيين رئيس للوزراء من خارج العائلة الحاكمة.
بتلك التسوية، هدأت مخاوف كثيرين من تداعيات انفجار الصراع بين جناحي الأسرة الحاكمة وحلفائهما. إلّا أنّ التسوية لم تنه الصراع بينهما، بل ازدادت حدّة التنافس بين الطرفَين على المناصب الحكومية الرئيسة، وعلى مراكز القرار في المؤسسات العامة، بهدف تحسين موقعيهما في معركة ولاية العهد التالية التي ستندلع حال وفاة الأمير الحالي الذي جاوز عمره قبل أيام السابعة والثمانين. وهي معركة قد تبدأ قبل ذلك في حالة وفاة ولي العهد الحالي، نايف الأحمد الذي تجاوز عمره التاسعة والسبعين.
الكويت ليست حالة خاصة
تتشابه خلفيات أزمة الخلافة في الكويت مع مثيلاتها في دول الخليج، إلّا أنّها الأقرب إلى حال كلٍ من السعودية وإمارة أبوظبي. ففي السعودية يتابع المراقبون مآل تحركات ولي ولي العهد، محمد بن سلمان، لإزاحة ابن عمّه محمد بن نايف من ولاية العهد كي يتولى هو المُلك بعد وفاة أبيه سلمان. وبالنظر إلى حالة الملك سلمان الصحية، فإن ولي ولي العهد مضطرٌ للاستعانة بمنجزات الطب الحديث لإبقاء والده على قيد الحياة بينما يرتب أمور خلافته. أما في إمارة أبوظبي، أغنى الإمارات السبع في دولة الأمارات المتحدة وأكثرها نفوذاً، فمن المحتمل أن يشتد التنافس بين أبناء زايد (المعروفين بـ "أولاد فاطمة") بعد وفاة أخيهم غير الشقيق خليفة حاكم أبوظبي الحالي.
حينها قد يُشهد في أبو ظبي وما حولها تكرارٌ للصراعات التي تشهدها السعودية منذ اغتيال الملك فيصل في 1975 وحتى الآن، بمشاركة "الأمراء السديريين السبعة" أي أولاد الملك عبد العزيز من زوجته حصة السديري.
وفي سلطنة عُمان تأخذ مسألة الخلافة شكلاً آخر عن بقية بلدان مجلس التعاون الخليجي، خاصة بعد انتشار أخبار تدهور الوضع الصحي للسلطان واضطراره للغياب عن الساحة لفترات طويلة. فليس لقابوس خلفٌ معروف، وهو الذي تحاشى، منذ انقلابه على أبيه في عام 1970، إفساح المجال لبروز منافس له من بين العائلة البوسعيدية. لهذا يجد أغلب المهتمين بالمنطقة صعوبة بالغة في قراءة الترتيبات التي أعدها قابوس لخلافته والتي تتضمن قائمة بثلاثة أسماء من العائلة السلطانية يختار مجلس العائلة أحدهم سلطاناً. أما في البحرين وقطر فتبدو مسألة الخلافة محسومة حتى الآن. إلا أنّ الأسلوب الذي سيبت الأمور في السعودية أو أبو ظبي أو الكويت، فقد يشجع أطرافأ طموحة في الدوحة والمنامة، وربما مسقط، على إعادة ترتيب أمورها واتخاذ مبادرات ليست متوقعة الآن.
أزمة الحكم في بلدان الخليج
تتشابه جميع العوائل الحاكمة في الخليج في جانبين متلازمَين رغم تناقضهما. أولهما إصرارها الحازم على احتكار ممارسة السلطة بحيث لا يحق لأحدٍ أو فئة اجتماعية أخرى مشاركتها فيها. وثانيهما إصرارها الحازم أيضاً على إثبات أنّ ممارساتها لسلطاتها، وإن لم تكن ديموقراطية أو متلائمة مع روح العصر، فهي ممارسات مقبولة من رعاياها. يفترض الجانب الأول ردع كل محاولة لمساءلة العوائل الحاكمة حول ممارساتها لسلطاتها أو للانتقاص من امتيازاتها السياسة والمالية. أما الجانب الآخر فيفرض على العوائل الحاكمة تقديم تنازلات في مجالات محددة سياسية ومالية، لإرضاء الرعية ولضمان المستويات الضرورية من ولاء الوجهاء والأعيان. فما شهدته بلدان الخليج العربي منذ بدء تحولها إلى السوق الرأسمالية قبل أكثر من قرن، أحدث تغييرات جوهرية في معاني وقيم "الشرعية التقليدية"، سواء بالحسب والنسب أو بالغلبة، التي كانت تستند إليها العوائل الحاكمة.
طيلة العقود الماضية، تمثلت تلك التنازلات التي قدمتها العوائل الحاكمة بالإصلاحات الإدارية في الأجهزة الحكومية وتحديث القوانين التي تنظم عمل تلك الأجهزة. إجراءات التحديث شملت إقامة مؤسسات تمثيلية، تتفاوت بين مجالس نيابية منتخبة ومجالس شورى معيّنة. وعلى الرغم من اختلاف العوائل الحاكمة في مستويات مراعاتها لمتطلبات التمثيل الفعلي، إلّا أنّها ارتضت أن تجعل من تلك المجالس مجالات تتساكن فيها مختلف التعاضديات التقليدية والحديثة. ويُسمع فيها أصوات التكنوقراط المطالبين بتسريع التحديث بهدف اللحاق بركب العصر، كما تُسمع فيها أصوات المدافعين عن نقاء تراث السلف. ساهمت تلك الإجراءات التحسينية، بالإضافة إلى عوامل أخرى، في استقرار أنظمة الحكم الخليجية. وتتمثل أهم هذه العوامل في ما توفره من أمن وردع الأجهزة العسكرية والأمنية التي يتولى قيادتها أفرادٌ من العائلة الحاكمة.
إلّا أنّ مواجهات 2006 في الكويت، وما تلاها من محاكمة فهد الأحمد، كشفت جانباً من أزمة عائلة آل صباح. وهو ما يمكن أيضاً ملاحظة ملامحه في الصراعات والمماحكات داخل العوائل الحاكمة الخليجية الأخرى. فلم يعد تنافس أجنحة هذه العوائل على الامتيازات والمناصب وعوائدها المالية والسياسية محصوراً في أروقة القصور، وضمن أفراد كل عائلة حاكمة وحاشيتها. بل صار تنافساً علنياً يستدعي تحشيد كلّ ما تقع عليه اليد من أنصار وحلفاء، بما فيها الأجهزة الأمنية والعسكرية التي كانت وحدتها وولاؤها للأمير أو الملك أو السلطان حصن العائلة وأساس استقرار حكمها... ولم يعد ثمة ضمان لتلك الوحدة وذلك الولاء.