سيخبرك النهر والمباني وقاطنوها بكلّ شيء. وفيما تبدأ الرواية، تستقبلك سلامات وابتسامات مجانية على الرغم من انسداد العيش والأفق. الأجواء هنا مرحابة طيّبة مثل جلّ مناطق الحيّز الشرقي لطرابلس الذي يعرف بـ"الأحياء الشعبيّة". زد على الأجواء رطوبة نهر "أبو علي" (1) الّذي يشرف عليه "ضهر المغر" (2)، أو ما تبقّى من جزء النّهر غير المسقوف والّذي تحوّل لبؤرة نفايات يتخللها قليل من المياه والكثير من العشب الزائد.
تعمّ العشوائية منظر "ضهر المغر"، لكن الحيّ ليس عشوائية. بمعنى أنه لم ينشأ في تاريخ متأخر بالنسبة لنواة طرابلس، أو أنّ نازحين من قرى وبلدات مجاورة استوطنوه، أو أنه تشكّل من جنسيات غير لبنانية بفعل اللجوء. يشكّل "ضهر المغر" وجواره مجتمعاً قديماً بل من الأقدم في طرابلس، وكان نهر "أبو علي" المحفّز الرئيس لقيامه منذ زمن الفينيقيين، تلاهم الصليبيون الذين أنشأوا قلعة طرابلس ("سان جيل") التي تطل على الحي وتلاصقه، وعلى سفحها الحوانيت والأسواق التي سيتوسّع في إنشائها وتنظيمها المماليك.
نحن أيضاً في أكثف المجالات السكنية في طرابلس، حيث يبلغ تعداد السّكان نحو 50 ألف نسمة (3). تشعر بهيمنة البؤس منذ النظرة الأولى على شكل مبان سكنية وبيوت تتشابك وتتدرج على تلّة طبقاتها متداخلة متكسرة وفوضوية ومتزاحمة وأنت لم تدخل الحارة البرانية والتبانة بعد الّتي تحدّ "ضهر المغر" من الجهة الغربيّة.
مدينة طرابلس: من يقوى على الحلم؟
07-05-2020
لقد تغيّرت مورفولوجيا "ضهر المغر" ومحيطه بفعل عدّة عوامل أهمّها الطّبيعيّ، جرّاء آخر طوفانات نهر أبو علي في العام 1955. ومثل كلّ الأحياء الّتي تعتريها وصمات الفقر ولا يدخلها عموماً سوى قاطنيها، فليس مفاجئاً أن يستحضر القاصي والدّاني "ضهر المغر" بتصوّرات اختزاليّة أكثرها قبيح وبعضها ورديّ، وفي كلّ الأحوال هي غير أمينة للواقع.
فقد يكون البؤس رواية قديمة وحقيقيّة ومتدحرجة في "ضهر المغر"، ولكنّها غير كاملة. ستعرف عن كثب أنّ البؤس مأهولٌ ببهجات ومرونات صغيرة، وهي أضحت شكلاً من المسؤولية الاجتماعيّة يحملها النّاس في سلوكهم ومن انتمائهم إلى حيّ منسيّ مثل أهله.
الفقر: وصمة البحر والنهر
لنتّفق: أنت تعرف مسبقاً أنّ "ضهر المغر" ليس من الأحياء "الممتعة" بسهولة، ولا "الجميلة" على النسق المتواتر من السيّاح القلّة في طرابلس. هؤلاء يقصدون فقط القسم الشرقي الداخلي من طرابلس، ويشمل الضفة الغربية للنهر حتى وسط المدينة، "التل"، لأنهم غالباً عرفوا أنّ طرابلس المدينة المملوكية الثانية بعد القاهرة. وتعرف أنّه قلّما يدخل طرابلس مَن لا يسكن أو لا يعمل فيها – وقد وضعتها السفارات على "الخط الأحمر" للأمن، ناهيك بقلّة الأعمال وضآلة الصّامد منها.
الحيّ ليس عشوائية. فهو لم ينشأ في تاريخ متأخر بالنسبة لنواة طرابلس، أو أنّ نازحين من أرياف مجاورة استوطنوه، أو أنه تشكّل بفعل اللجوء. "ضهر المغر" مجتمع قديم وكان نهر "أبو علي" المحفّز الرئيس لقيامه منذ زمن الفينيقيين، تلاهم الصليبيون الذين أنشأوا قلعة طرابلس التي تطل على الحي، وعلى سفحها الأسواق التي سيتوسّع في إنشائها وتنظيمها المماليك.
شكلت المنطقة هدفاً لمشروع سياحيّ في بداية الألفية الثالثة مموَل بقرض من البنك الدولي، لتحويل نهر أبو علي والأحياء الشعبية المجاورة إلى توأم لمقاطعة نهرية في برشلونة! لكنّ التطبيق أحلّ كارثة على النّهر، بغياب الرقابة وبؤس الإدارة، يتخللهما مصادرة للقرار البلدي باستمرار من قبل وجوه سياسية محلية، أفسحت المجال لـ"استحواذ" المحتمين بهم يفرضون خوّات العربات وكراجات التاكسي المنتشرة بدون ضوابط.
وتعرف أنّه موضوعياً، طرابلس اللبنانية "مدينة متوسّطية". وأنّ الأمر بات معروفاً أكثر حين التصق موقعها منذ سنوات بسمتها الأشدّ ألماً والّتي يعارضها علماء إجتماع يعتبرون أنّ غزّة تتفوّق على طرابلس في أنّها "أفقر مدينة على البحر الأبيض المتوسط".
ابتعد عن هذا البحر شمالاً مسافة عشر دقائق بالسيارة. لقد توارى البحر، وبالرغم من ذلك ستبدأ بلملمة صور مشظّاة عن الوصم البحريّ هذا داخل أحياء من "طرابلس النهرية". تترك السيارة لأنّ الطرقات فوضويّة ومكتظة وهناك سلالم يجب أن تصعد عليها للوصول إلى "ضهر المغر"، ولذلك ستكون فكرة سديدة – وفعلياً إلزاميّة - أن تكمل المشوار سيراً على الأقدام.
لن تجد شيئاً "إكزوتيكياً" هنا، لا عن الفقر ولا عن سواه. وإن كنت تبحث عنه، ولّ وجهك شطر الجزء الغربي لطرابلس، والذي كان جلّه يعرف بـ"بساتين طرابلس" العامرة قديماً بأشجار الحمضيات على أنواعها وجعلتها تكتسب لقب "الفيحاء". كما جعلت تلك الفاكهة تسمى "مَراكبي" حتى اليوم، والأصل في التسمية انها كانت تُنقل الى كثير من أنحاء العالم بالمراكب! اندثرت الأشجار أو يكاد، ولكن لا يزال هذا الجزء من المدينة مصنّفاً في خانة "الإكزوتيكيّة" لدى من تفاجئه طرابلس بامتلاكها بديهيّات التّطور الاجتماعي والعمراني والثقافيّ لمدينة، وحتّى اللّغوي، وخصوصاً حين يَظنّ أنّ كلّ أهالي طرابلس يعيشون في أحياء البؤس. وغالباً هو لم يسمع أو يشاهد سوى ومضات عن معارك حارتي "باب التبانة" و"جبل محسن" التي بدأت بُعيد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان (1975) واستمرت حتى 2014 وفتحت جروحاً غائرة بعضها يعود إلى مجازر ارتكبتها "قوات الردع" السورية (4) في طرابلس.
عقاب نهر "أبو علي"
تربط طرابلس علاقة مختلّة بدولة لبنان المركزيّة البيروتيّة التي نشأت في عام 1920، فبات التشكيك بدولة لبنان نوعاً من "الهوية" الطرابلسيّة التي لا تزال حيّة وإن خفتتْ، وتبدو تجليّاتها واضحة في أحياء "ضهر المغر" والجوار التي تلفّ النّهر تماماً مثل حزامٍ للبؤس.
هذا النهر هو أهمّ مؤشرات علاقة "ضهر المغر" وطربلس عموماً بالسلطة. وعليه، تحتكم هذه العلاقة للغبن المستمر، والشعور بأنّ الحيّ وسكّانه لا اعتبار لهم عند السلطة. عبارات مثل "لعنة السّقف"، "ناقمون على الدولة"، "دمّروا النهر"، تسمعها من أفواه أبناء هذه المنطقة إن سألتهم عن حكاية النهر. فقبل صعود السلالم المؤدية إلى "ضهر المغر"، تستمهلك فوضى شديدة. اختنق النهر بسقف اسمنتي تنتشر فوقه أسواق لـ"البالة" (الثياب المستعملة)، وعربات تحاول بيع الخضار والفواكه، مع أنّ قبالتها يوجد سوق للخضار يعرف بـ"سوق القمح"، وبداخله كذلك "بالات" على نسق الأسواق التخصصية التي كانت منتشرة في طرابلس واحتفظت باسمها على الرغم من فقدان أغلبية هذه الأسواق وظائفها التي كانت محرّكاً اقتصاديّاً لتجارات طرابلس (5).
أمّا اليوم، وبين العربات المترنحة وأكوام النفايات المنتشرة حولها، تنتصب شجرات نخيل هزيلة بأوراقها المتيبسة الصفراء. عيّنة فجّة عن غياب التخطيط وسوء الإدارة، تجعلك تتساءل كيف فكّر من وضعها أن النخيل سيعيش وينمو فوق طبقة من الإسمنت.
لم يظهر هذا التّشويه بين ليلة وضحاها وليس "محو" النّهر وضفافه العمرانية والاجتماعية وليد الأمس، بل تناوبت عليه ثلاث محطّات أساسيّة تنتهي إلى نحو سبعة عقود إلى الوراء:
منطقة "ضهر المغر" وامتدادها نزولاً الى "البحصة" وسوق القمح، شكلت هدفاً لمشروع سياحيّ طموح تبلور في بداية الألفية الثالثة، وعرف بـ"مشروع إحياء الارث الثقافيّ" الممول بقرض من البنك الدولي، لتحويل نهر أبو علي والأحياء الشعبية المجاورة إلى توأم لمقاطعة نهرية في برشلونة! لكنّ التطبيق أحلّ كارثة على النّهر، عنوانه غياب الرقابة وبؤس الإدارة، يتخللهما فراغ ومصادرة للقرار البلدي باستمرار من قبل وجوه سياسية محلية، فيما يفسح المجال لـ"استحواذ" أصحاب المصالح من "القبضايات" المحتمين بنواب ووجوه سياسية من طرابلس يفرضون خوّات العربات وكراجات للتاكسي المنتشرة بدون ضوابط.
الاجراءات الّتي اتّخذتها السلطة لمواجهة فيضان العام 1955 كانت بمثابة عقاب للنهر وللأحياء الواقعة بقربه، وأظهرت للأهالي بأنّهم وكلّ أرثهم ومصالحهم ومساكنهم "لا مرئيين": جرى توسيع مجرى النهر على حساب نحو عشرين مبنى تاريخيّاً وأثرياً. كما تحوّل النهر إلى مسلك باطونيّ عميق وشحيح المياه. وكانت النتيجة تفتيت النسيج السكاني والاجتماعي بعد تقسيم مجتمع النّهر إلى مناطق متباعدة على الضّفتين.
وفي محطة سابقة خلال بداية التسعينات، حظيت المنطقة بفرصة لإعادة تأهيل بعد تضررها جراء عوامل الطبيعة والحرب، فوضعت خطة لإحيائها بإشراف بلدية طرابلس وبالتعاون مع "الجامعة اللبنانية" و"شبكة إعادة تأهيل المدن المتوسطية"، وصنّفت الخطة 193 معلماً من هذه المنطقة بأنه أثري، ولم ينفذ سوى قسم قليل منها.
أمّا في المدى الأبعد، يجب نسب اختلال العلاقة بين هذه المنطقة والسلطتين المحلية والمركزية لـ"الطوفة"، التي تؤشر إلى مأساة طوفان نهر أبو علي في ليل 17 كانون الأول/ديسمبر 1955، وشكلت منعطفاً كاسراً محا القيمة التراثيّة للمنطقة.
في تلك الليلة، بلغ ارتفاع دفق النهر أكثر من ستة أمتار، معزَّزاً بسيول الأمطار. يقال أنّ أحياء النهر غرقت في مياه الأرض والسماء، وجرفت معها نحو 150 ضحية وعشرات المفقودين. وأتى الفيضان على الجسر القديم الذي كان يربط الضفتين، وتدمّرت مئات الورش الحرفية ومعامل صناعة المفروشات. ويروي شهود أنّهم في صبيحة اليوم التالي رؤوا جثثاً معلّقة على الأشجار وأخرى لفظها البحر حتى شواطىء سوريا.
لكن الاجراءات الّتي اتّخذتها السلطة كانت بمثابة عقاب مزدوج للنهر وللأحياء الواقعة بقرب النهر، وكانت كافلة بأن تظهر لأهالي المنطقة بأنّهم وكلّ أرثهم ومصالحهم ومساكنهم "لا مرئيين": جرى توسيع مجرى النهر على حساب نحو عشرين مبنى تاريخيّاً وأثرياً (6) هُدمت جزئياً أو بالكامل، ولا أثر مادياً أو معنوياً لها اليوم إلا في ذاكرة أهالي المنطقة من المعمّرين. كما تحوّل النهر إلى مسلك باطونيّ عميق ومياهه شحيحة (7)، وكانت النتيجة تفتيت النسيج السكاني والاجتماعي لهذه المنطقة بعد تقسيم مجتمع النّهر إلى مناطق متباعدة على الضّفتين.
موزاييك طرابلس لبنان والحدود الوهمية للمقاهي
02-03-2020
وطاول المحو المنطقة المعروفة بـ"المرجة" التي كانت غنّاء بالخُضرة الحيّة من روافد النهر، وشكّلت مقصداً لأهالي المدينة من مختلف الطبقات الاجتماعية، حيث كانت عامرة بالمقاهي والمنتزهات. ويصطاد شباب المنطقة والصيادون السمك من النهر وافر المياه أو يسبح الأولاد في مياهه الغزيرة، ويخبرك سكّان من ضفاف النهر أنه في بعض المواسم كان بإمكانهم أن يغمسوا ذراعهم من نوافذ البيوت في قلب مياه النهر المنعشة...
هشاشات عمرانية
أنت الآن في قلب "ضهر المغر".
على الرغم من اكتظاظ المكان، إلّا أنّ السّكينة المنبعثة في الشوارع تتناقض بشكل عجيب مع بيوت تستوعب فوق ما تحتمل. أغلب هذه البيوت مؤلف من غرفتين يعيش فيها الأهل والأولاد، وفي بعض الحالات يأوي البيت الواحد أكثر من عائلة.
وبعكس البيوت التي يبدو أنّ الدهر أكل عليها وشرب، تنضح أطياف الشارع بالفتوة. ينتشر في الأزقة وعلى السلالم أطفال يلهون بألعاب لا يعرفها أقرانهم ممّن لا يمضون أوقاتهم في الشارع، مثل كرة القدم، والغمّيضة، و"العفريتة" والتسابق في الركض. ووسط أحد السلالم تركن أرجوحة خشبية كانت في العيد تزدحم بعشرة أطفال يردّدون الأهازيج الّتي توارثوها عن الأهل، فيما الأرجوحة بالكاد تتسع لأربعة أطفال. المراجيح مثل البيوت التي لا يملك قاطنوها الامكانات ليعيشوا في غيرها.
يعرف أطفال "ضهر المغر" كذلك ويشاهدون ما لا يعرفه ويشاهده أقرانٌ لهم: "تعالي ندلّك على السقف الّذي سينهار"، أو "كنا نلعب بالطابة، فسمعنا صوتاً غريباً متل الزقزقة وارتطام. هبطت البناية ولم يبق شيء"، "غبار كثيف. ما فيكي تشوفي إصبعك"... يتكلمون عن طفلة توفيت تحت ردم بيتها الذي انهار أمام أعينهم فيما كانت الطّفلة تطلّ عليهم من الشرفة مع أمّها. ومن هؤلاء الأطفال فتى نجا بأعجوبة من هبوط سقف غرفته فيما كان ينام. ثم تُرافق الأطفال إلى واحد من أبنية كثيرة متصدعة، فيشيرون بسبابتهم إلى شقوق وتسلخات باطون يعرفونها. تبدو واضحة من شرفة، شرفتين، ثلاث.
تُمسك "الحاجة فهدة" بيدها الجرس وتقرعه أمام البيوت، فينتبه السكان إلى أنّه موعد رمي النفايات، فيستجيبون. وإن غابت ينوب عنها الأطفال الذين أعدّتهم. تحوّل هذا الشارع إلى حيّ نموذجيّ نظيف، تتخلّله مزهريّات ملوّنة يدويّاً، وشتلات الخضرة والزهر. يحبّ أهالي "ضهر المغر" أنهم ينتمون إلى هذا الحي. يتكافلون لأجل البقاء فيه ويحاولون ما استطاعوا "التحكم في ما يجب ويمكن التحكم به".
تودّع بهجات وبراءات متصالحة مع الموت أو قد تكون معتدّة بأنّها لا تزال على قيد الحياة والموت وشيك. تحفظ وجوههم جيداً، وتحتفظ بأفراحهم التي القطتها وأنت تلتقط لهم صورة. يغزوك فجأة شعور بأنّك تريد حفظ ملامح الأطفال بطريقة ما لأنك لا تعرف إن كنت ستلتقيهم مرة ثانية أو سيُمسي أحدهم خبراً عابراً لا ترغب بسماعه.
على عتبات البنايات تجلس نساء مع ركوة القهوة وبعض السجائر يحاولن إزالة وطأة الهمّ والحرّ والرطوبة. تسألهن على الانهيارات، فيستحضرن تميمة البقاء: "نحن نعيش تحت ألطاف الله". يرافقك أحد شبان الحيّ بعد أن يقدّم لك قنينة "البيبسي" من محله، وهو يعتذر أنها ليست باردة بفعل انقطاع الكهرباء. داخل المباني رعب سيهبط عليك من السقف. تحسبها أنها قد تكون لحظتك الأخيرة بفعل سقف سينهار على رأسك، أو أنك تدريجياً ستموت اختناقاً بفعل رطوبة بيوت لا تدخلها الشمس، فيما تتساءل كيف ينقضي عمرٌ بل أعمار داخل هذه المباني؟
شعور بالغرائبية لا يمكن أن تتلافاه، حين تجد أنّ أطفال "ضهر المغر" ونساءه والسكان جميعاً لا يحترسون ولا يهجسون من موت قد ينقضّ عليهم في أي لحظة، فتحسبُ أنّ الموت تحت أنقاض بيوت هذه الأحياء واحد من تمثّلات العبث، أو "التّفاهة" بميزان المزاج العام، أو أنّ المشهد برمّته مقتبس من رواية "حفلة التفاهة" لميلان كونديرا، ولسان حال الشخوص: "لقد أدركنا منذ زمن طويل أنّه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألّا نأخذه على محمل الجدّ".
يعرف سكان "ضهر المغر" أنّ بيوتهم آيلة للانهيار بمفردها أو جراء أقل تهديد طبيعي مثل هزة خفيفة ومتوسطة أو صاعقة جوية أو ارتطام طفيف، لكنهم لا يملكون مأوى بديلاً. ويطرح أي تدخل لإنقاذ بيوتهم مشكلات تشعب الورثة في الملكية العقارية، واختلاف قيمة الملكية بالليرة اللبنانية منذ 10 عقود إلى اليوم، بينما محاولات إعادة الإعمار من خلال "صندوق المهجرين" وصناديق الإعمار الخاصة قد نجحت في محو آثار احتلال وحروب اسرائيلية عن الجنوب، وأنّ كل خطط إعادة إعمار أحيائهم أسقطت بفعل الإهمال أو التلاعب بتنفيذها.
تعكس هذه المنازل مرآة للنسيج العمراني العربي القديم المتلاصق، أضيفت لها تراكمات هندسية غير مدروسة من الحجارة الكلسية على تربة مشبعة برطوبة النهر، فتجدك أمام جدران هشّة مثل ألواح البسكويت، وقد تلف هيكلها الانشائي، ونتأت أساساتها من الجدران والسقوف، وهي شكّلت في القرن الماضي استثماراً لزعامات محلية أرادت توطيد رصيدها عند مخالفين ذوي حظوة لديهم، سيستعملونهم لاحقاً لتجييش الشارع ولمكاسب انتخابية.
يعرف أطفال "ضهر المغر" ويشاهدون ما لا يعرفه ويشاهده أقرانٌ لهم: "تعالي ندلّك على السقف الّذي سينهار"، أو "كنا نلعب بالطابة، فسمعنا صوتاً غريباً، هبطت البناية ولم يبق شيء"... يتكلمون عن طفلة توفيت تحت ردم بيتها الذي انهار أمام أعينهم فيما كانت تطلّ عليهم من الشرفة مع أمّها.
تودّع بهجات وبراءات متصالحة مع الموت أو قد تكون معتدّة بأنّها لا تزال على قيد الحياة والموت وشيك. تحفظ وجوههم جيداً، وتحتفظ بأفراحهم التي القطتها وأنت تلتقط لهم صورة. يغزوك فجأة شعور بأنّك تريد حفظ ملامح الأطفال بطريقة ما لأنك لا تعرف إن كنت ستلتقيهم مرة ثانية أو سيُمسي أحدهم خبراً عابراً لا ترغب بسماعه.
إنّ انتفاء جودة العيش في مباني "ضهر المغر" يعمّق اختلال علاقة المنطقة بـ"الدولة" بكافة أجهزتها ومؤسساتها، ويرسمها على شكل استبعاد اجتماعي. تسود هذه الدينامية كلّ طرابلس، لكن "ضهر المغر" نموذج عن أحياء الطرف الشمالي من مدينة طرابلس، وفي موقعها تأشير إلى تطرّف موضع المدينة ككلّ بالنّسبة للبنان منذ إنشاء دولته الكبيرة، والّتي سلخت طرابلس عن محيطها الطبيعي وضمتها إلى محيط آخر، فأضحت حيّزاً هامشيّاً ومهمّشاً، باستثناء إصلاحات في الإدارات والطرقات شهدتها في عهد الرئيس فؤاد شهاب. وفيما عداها، فإن معادلة لبنان الكبير/ طرابلس تُشبِّهها الذاكرة الشعبية بعملية زراعة عضو في جسم مستحدث وباءت بالفشل، ولا يزال الفشل سارياً، بحيث لا تزال هذه الحكمة المحلّيّة صالحة لكلّ أزمنة المدينة، وتقول بأنّ "إلحاق طرابلس بلبنان الكبير كمن يرقع شرواله الأسود بورق التين الأخضر، فلا الشروال سيصبح شجرة، ولا الشجرة ستصبح شروالاً".
طرابلس.. ساحة بثورات كثيرة
17-01-2020
كلّ ما كان وأمسى في "ضهر المغر" "مُخطّط بقرار من الدولة وبتغطية أمنية". يقين واحد من قدامى المناضلين السياسيين في طرابلس ومن أبناء ضهر المغر نفسه، وأكثرهم ممّن تملّكهم حلم الوحدة العربيّة، وحملوا قضايا العمّال والكادحين من أبناء هذه المنطقة من الفقراء والطبقة الوسطى المتعلّمة. يخبرك عن أكياس شفافة صغيرة من المخدرات يجدها على إحدى السلالم المؤدية للحيّ، ينثرها باستمرار شبّان يعرفهم أهالي المنطقة بأنّهم ذراع للأجهزة الأمنيّة ولزعامات محلية متوالية ومتشابكة في هذه الأحياء، وتربط هؤلاء علاقة بسكانها عنوانها بالبند العريض "التخدير": سواء مجازياً من خلال علاقة زبائنية تسدي فتات من الخدمات الآنية وتغطّي المخالفات، أو عمليّاً من خلال إعطاء كميات من المخدرات لتوزيعها على شباب من المنطقة. يسيء هذا الرجل أنّ النّضال السياسيّ طغى عليه نوع من آفات اجتماعيّة يتصدّرها إدمان المخدّرات. ولكنه، نهاية المطاف، انتقام مهمّشين من الذّات التي تستمرّ في تهميشها والاستثمار بهشاشاتها دولة هي اليوم أثرٌ بعد عين. يقول: إنك "لا تستطيع حظر المسموح"، فلقد باتت المخدرات آفة مكشوفة على امتداد لبنان وضمن كلّ الشرائح الاجتماعيّة، وليست قصراً على هذا الحيّ أو غيره.
تكافل اجتماعي لأجل البقاء
لن يحبّ زائر كيف يعيش "ضهر المغر"، ولكن لا يمكنه أن لا يتعاطف مع إفقاره وتهميشه و"سلبه" المتسلسلين على كافة الصعد.
وفيما تستعدّ لتعود أدراجك، ستنتبه إلى أنّ "ضهر المغر" نظيف على الرغم من كلّ شيء. الحيّ فعلاً نظيف مع كلّ القصور في الإدارة البلديّة وإدارة النفايات، وهي الظاهرة التي تلفّ كلّ لبنان.
هذه المنازل مرآة للنسيج العمراني العربي القديم المتلاصق، أضيفت لها تراكمات هندسية غير مدروسة من الحجارة الكلسية على تربة مشبعة برطوبة النهر، فتجدك أمام جدران هشّة مثل ألواح البسكويت، وقد تلف هيكلها الانشائي، ونتأت أساساتها من الجدران والسقوف، وهي شكّلت في القرن الماضي استثماراً لزعامات محلية أرادت توطيد رصيدها عند مخالفين ذوي حظوة لديهم، سيستعملونهم لاحقاً لتجييش الشارع ولمكاسب انتخابية.
تخترق هذا الحيّ المثقل بالبؤس بصائص من "التكيف الاجتماعيّ"، مسؤوليّة جماعية في الحفاظ على النظافة ضمن هذا الحيّز المنسي من الدولة: على السلالم نساء ورجال من الأهالي يشطفون السلالم التي أمام بيوتهم. وفي زاوية أبعد، فرغ شبّان من الحيّ لتوّهم من حشد نفايات المحال بمعاول ومعدّات بدائية في زاوية، حيث تغيب المستوعبات، ووقفوا في انتظار شاحنة شركة التنظيف لنقلها.
في التفسير النظريّ، قد يكون ضهر المغر "أقلّ قذارة" من الأسواق المجاورة حيث تتكدس النُّفايات وبقايا الخضار واللحوم والدواجن وتنبعث منها الروائح الكريهة، وهذا بعكس "ضهر المغرّ" الّذي طابعه حيّ سكنيّ، وأغلب قاطنيه توارثوا البيوت عن عائلاتهم، ولازموها على الرغم من قابليتها للانهيار.
هنا صور.. حاضرة جبل عامل
21-07-2022
بيروت: جولة بين مباني خندق الغميق المتداعية
11-10-2021
لكن المُعاش في هذا الحيّ المثقل بالبؤس والانهيارات القديمة والحديثة والموشكة، تخترقه بصائص من "التكيف الاجتماعيّ"، تجلّى على شكل مسؤوليّة اجتماعيّة في الحفاظ على النظافة ضمن هذا الحيّز المنسي من الدولة: على هذه السلالم وتلك، ينسدل المساء على نساء ورجال من أهالي "ضهر المغر" يشطفون السلالم التي أمام بيوتهم. وفي زاوية أبعد، فرغ شبّان من الحيّ لتوّهم من حشد نفايات المحال بمعاول ومعدّات بدائية في زاوية، حيث تغيب المستوعبات، ووقفوا في انتظار شاحنة شركة التنظيف "لافاجيت" لنقلها.
ويتشارك في الحفاظ على نظافة الحيّ، نساء وأطفال درّبتهم "الحاجة فهدة"، وهي سيّدة نشيطة من "ضهر المغر" تَعوّد معها سكّان الحيّ على رمي النفايات في وقت محدّد من المساء. تُمسك بيدها الجرس وتقرعه أمام البيوت، فينتبه السكان إلى أنّه موعد رمي النفايات، فيستجيبون. وإن غابت "الحاجة فهدة" ينوب عنها الأطفال الذين أعدّتهم. تحوّل هذا الشارع إلى حيّ نموذجيّ نظيف، تتخلّله مزهريّات ملوّنة يدويّاً، وتنتصب على جانبيه شتلات الخضرة والزهر والورد.
يحبّ أهالي "ضهر المغر" أنهم ينتمون إلى هذا الحي. يتكافلون لأجل البقاء فيه ويحاولون ما استطاعوا "التحكم في ما يجب ويمكن التحكم به".
أنت على أهبة الخروج من ضهر المغر، فيما صوره وأسراره المفكّكة والمستعصية لا تزال ترافقك. تسأل نفسك: ألم تشعر أنّ الوقت هنا يمرّ بخفّة، ويتناقض مع هذا أنّه بطيء؟ كأنّه ينزّ من ساعة رمليّة انكسرت منذ زمن بعيد، وإن حدث وترمّمت الساعة، فسيقف الوقت. يمنحك هذا الحي رغبة عارمة بالتّعمّق في علاقة طرابلس مع الوقت. طرابلس التي تتقدّم بالعمر ولا يتقدّم بها الزّمن.
1 - الذي ينبع من مغارة قاديشا في أعلى الجبل قرب منطقة الارز، ويحافظ على اسمه طوال جريانه في الوديان الى ان يصل الى مشارف طرابلس فيصبح "نهر أبو علي". ولا بد أن في الأمر قصة شيقة سنحاول سبر أغوارها في نص قادم!
2 - وهي هضبة من هضاب مدينة طرابلس، ولعل التسمية تشير الى وجود مغاور في قلب المرتفع، بنيت المساكن على ظهرها.
3 - استناداً إلى سجلّات الانتخابات الاختيارية في عام 2018
4 - دخلت قوات الردع العربية الى لبنان في 1976 بقرار من جامعة الدول العربية، وكانت متشكّلة من جنسيات عربية متعددة الى أن اقتصرت بسرعة على الطرف السوري
5 - قامت على انتاج محلي غزير من الحمضيات والتوت والزيتون والصابون وقصب السكر والقمح والحرير والنسائج المحلية، بالاضافة إلى تبادل تجاري نشط مع الداخل العربي وصولاً الى بضائع هندية وصينية كانت القوافل تحطّ بها في طرابلس، كالأدوية والتوابل والقماش.
6 - نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مسجد الدباغين والمدرسة الزريقية، ومعها زاوية الأمير سيف الدين كرتاي السيفي، ومسجد الوتّار بالدباغة، ومدرسة سبط العطار، ومدرسة النسر بن عجبور والبيمارستان العربي، وحمام استدمر المعروف بالحاجب، وحمام العطار بالملاّحة، وحمام النزهة أسفل جسر اللحامين، وخان المنزل المعروف بقصر البرنس، وهو من العصر الفاطمي، وقد اقتلعت المديرية العامة للآثار واجهته الشرقية بعد ترقيم حجارتها ووضعها داخل القلعة على أن تعيد بناءها من جديد بعد انهاء مشروع النهر. كذلك أُزيلت بائكة غانم ذات العقود الضخمة التي كانت إلى الغرب من جامع البرطاسي، وأزيل قصر محمود باشا العثماني، وبوابة الشعارة، وخربت التكية المولوية والطواحين وسبل وقوائم المياه، ومنها سبيل الصباغ القائم في محلة المسلخ، ومدرسة الدّمان قرب المسلخ، والمسلخ القديم ومقهى البحصة، والمدرسة البطركية ومدرسة القطانين وخان أسن دُمُر، ومصبنة اسن دمر، وخربت المدرسة الظاهرية، وأزيل جسر السويقة وجسر اللحامة وجسر طرباي، وقصر الأمير الطنطاش وهو من أقدم قصور المماليك، وخربت ثلاثة قصور قديمة في سلم ضهر المغر- من ارشيف المؤرخ خالد تدمري، بتصرف.
7 - وقد شحّت تماماً بعد بناء سدود على مجاري النهر في مناطق أعلى من طرابلس
*الصور بعدسة جودي الأسمر