لأغراض إنسانيّة بالضرورة، يبدو أن كمّا كبيراً من الإنتاج الفنّي الفلسطينيّ الذي يخاطب القضيّة الفلسطينيّة يستمدّ هويّته من العدالة الشعريّة. فبين الفنّانين الشباب الذين يتبنّون السخرية العالية التي تسخر ممّا يمكن تفاديه، وبين المأساة التي توثّق العواقب وتعتبر أداة فنيّة منهجيّة كلاسيكيّة، يبرز جيل فنّي جديد يهرّب التزامه السياسيّ عبر القنوات نفسها التي تستعملها السّلطات على أشكالها.
وإذا أردنا تتبّع تجسيد الاحتلال الإسرائيليّ في الفنّ الفلسطينيّ انطلاقاً من "يوم الأرض"، لعلّه من المناسب استعادة مقال إدوارد سعيد المشهور، "الحقّ في السّرد"، الذي يرسي قيمة عليا لسرد الحقائق التاريخيّة وترويجها من قبل صاحب الحقّ كمرجع محوريّ لاستعادة القصص الفرديّة وإعادة إحلالها في السياق التاريخيّ المتوحّش.
وفي محاكاة للمقال، يمكن اعتبار أعمال الفنّانة الفلسطينيّة أميلي جاسر صدى فنيّاً لدعوة سعيد في المقال: "لا تتكّلم الحقائق عن نفسها، بل تتطّلب سرداً اجتماعيّاً ملائماً لاستيعابها والمحافظة عليها وتعميمها. وعلى مثل سرد كهذا أن يمتلك نهايةً وبداية. في القضيّة الفلسطينيّة: وطناً لحل المنفى منذ العام 1948".
هذا ما يتّضح في عمل فنّي لجاسر يُعرض ضمن معرضها الذي يقام حاليّاً في "دارة الفنون" بعمّان يستعيد العام نفسه الذي احتلّت فيه فلسطين. حين نهبت إسرائيل قرابة 30 ألف كتاب من منازل ومكتبات ومؤسّسات فلسطينيّة، بقي 6 آلاف منها في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة في القدس كـ"ممتلكات مهجورة" تحت رمز "A.P" الذي يشمل المنازل التي هُجِّر أهلها أيضاً. وعلى مدار عامين، قامت جاسر بتصوير هذه الكتب ومحتوياتها، سرّاً، بواسطة هاتفها النقّال، لتعيد طباعتها وتعرضها ضمن عمل أطلق عليه عنوانه " ex libris". ضمن الصور، نستطيع العثور بسهولة هنا على متعلّقات شخصيّة كان من الواضح تعمُّد تصويرها ضمن الكتب: ورقة شجر متيبّسة، بطاقة معايدة (أو صلاة) تتضمّن رسماً للمسيح، أوراق مطويّة، رسومات على هوامش الصفحات، بطاقات تصنيف الكتب في المكتبات، أختام لأصحاب الكتب تؤكّد ملكيّتهم لها، وحتّى أثر واضح لفنجان قهوة أو كأس شاي على إحدى الصّفحات. وكجزء متّصل بالعمل، عُرِضت ثلاثة من إهداءات هذه الكتب كجداريّات في أنحاء "دارة الفنون". وقبلها في مساحات عامّة بأماكن عدّة مثل نيويورك وكاسل في ألمانيا.
فكما على جدران عامّة في نيويورك وكاسل، تطالعنا، على الجدار الداخليّ لمبنى من مباني دارة الفنون، عبارات مكتوبة بخط ضخم: "خدمة للعلم والأدب أقدّم هذا الكتاب النفيس هديّة لمكتبة مدرسة الذكور الابتدائيّة بعكّا. 10 مارس سنة 1924. كاتب إدارة المعارف، عكّا، حنّا موسى".
ربّما تمثّل هذه "الجداريّات" وأعمال فنيّة أخرى العالم الفنّي السّردي لأميلي جاسر الذي يحاول، على الدّوام، تهريب ماهية القضيّة الفلسطينيّة في جماليّات تم ترسيخها سلفاً لمتلقّي الفن الحداثي، خاصّة بالتعاطي مع قضيّة تم استهلاكها فنيّاً كالقضيّة الفلسطينيّة. فبدلاً من الانتهاء بالحقيقة وتجلّياتها في أشكال "الكيتش" اللانهائيّة التي تدّعي تمثيل القضايا العادلة، تبدأ أعمال جاسر من هذه الحقيقة عبر التركيز على القّصص الفرديّة للناس كأيّ إهداء لكتاب من فلسطينيّ إلى آخر، نهبه الاحتلال الإسرائيليّ وأعيدت كتابته بضخامة على جدران في عمّان أو نيويورك أو كاسل. والنتيجة النهائيّة: توريطنا جميعاً في تمارين بطيئة على ممارسة حقّ السّرد.
فعبر إعادة حكاية التاريخ، تنتزع أعمال جاسر الحقّ بالسرد، وتسرد الحياة بتسليط الضّوء على تجارب وذكريات وتفاصيل يوميّة وشخصيّة في فلسطين قبل النكبة، كما يدركها الفلسطينيّون في حياتهم اليوميّة الآن.
لعلّ أعمالها تنجو من مأزق الخطابات الغربيّة، بما تحمله من سرديّة تاريخيّة وذاكرة جمعيّة، بإحدى الطرق التي وصفها إدوارد سعيد في المقال المشار إليه أعلاه: حقّ السّرد، وتسليط الضوء عليه كما الإهداءات على الجدران والأماكن العامة في "ex libris"، حتى يمتلك مشروعيّة السّلطة المستمدّة هنا من احتلال الحيّز العام المتنازَع عليه أبداً. فمن خلال أعمالها الفنيّة تعطي جاسر حق السرد للفلسطيني، وتعيد التركيز على تفاصيل الحياة في فلسطين قبل النكبة.
يبدو أن الأعمال الفنيّة ذاتها تتقيّد بمقال إدوارد سعيد ونظريّاته، حتّى أنّها تبدو انعكاساً فنيّاً لمواجهاته من داخل الأكاديميا ضد الأكاديميا السّائدة. هذا ما يتجلّى في معركة أخرى داخل أداة سلطويّة أخرى: الإعلام السّائد. ففي عمل "السّامي السكسي"، طلبت جاسر من 60 فلسطينيّة وفلسطينيّاً إرسال إعلانات شخصيّة في أسبوعيّة "Village Voice" الأميركيّة، في ثلاث مناسبات منها عيد الحب، للبحث عن شركاء يهود حصراً للعودة إلى وطنهم باستخدام "قانون العودة" الإسرائيليّ الذي ينصّ على منح حق الجنسيّة الإسرائيليّة، بحسب نصّ القانون الذي صدر العام 1950، لكل من: "طفل وحفيد اليهودي، والزوج من يهودي، والزوج لطفل يهودي، والزوج من حفيد لليهودي".
تضمّنت الإعلانات نصوصاً كاريكاتوريّة في الغالب، مثل: "راقصة فلامينكو فلسطينيّة ساميّة تبحث عن رجل يهوديّ، من أيّ عرقٍ كان، بغرض إقامة علاقة طويلة الأمد والشراكة في الحياة في إسرائيل. أحب الفلافل الفلسطينيّة، وعكّا، وشاطئ غزّة"، و"ساميّ فلسطينيّ يبحث عن شريكة حياة يهوديّة. هل تحبّين العسل والحليب؟ أنا مستعد لتكوين عائلة كبيرة في إسرائيل. لا زلت أملك مفاتيح البيت هناك. في انتظارك".
أثارت الإعلانات، بالطبع، ضجّة في الإعلام الأميركيّ الذي نشرت بعض مطبوعاته تقارير تتحدّث عن تهديدات إرهابيّة، كما عنونت إحداها مقالاً عن الإعلانات: "عامل الخوف: فالنتاين فلسطينيّ أم فخّ؟". لكن ألم يكن ذلك هدف الإعلانات؟ إذ تذكر جاسر في النّص المرفق بالعمل مصطلح "تلويث" المكان المخصّص للإعلانات، تحديداً كـ"وسيلة للطعن في السياق الأميركي الأوروبي حيث تختصّ "الساميّة" فقط باليهود".
على هذا الأساس، يمكن النّظر لأعمال جاسر على أنّها "تلويث" لفضائل وأخلاقيّات الخطاب الغربيّ الفنّي الذي يدّعي، طيلة الوقت، ملاءمته، وكثير من الأحيان "لباقته" السياسيّة. فبينما تستند الأعمال الفنيّة المعاصرة منذ بداية القرن إلى أكاديميا مستعارة من طريقة عمل المنظّمات غير الحكوميّة في منطقتنا، تكرّس أميلي جاسر الشّكل الحديث لهذه الأعمال، لكنّها تجرّده من أيّة ادّعاءات حداثيّة "كيتشيّة" من خلال التركيز على أبحاث طويلة الأمد ومغرقة في القصص الفرديّة، لتشكّل ملامح شخصيّة لما يظهر على أنّه فلسطين ضخم يحتضر ضمن تاريخ يعيد إنتاج احتضاره على أنّه التزام بواجب التقدّم الحضاريّ.
ربّما لذلك ندرك أنّنا لسنا أمام فنٍّ "حقيقي" بحسب التعريفات السّائدة. إنّنا فعلاً نتعرّض، في عالم جاسر الفنّي، إلى فنٍّ مستعار يهرّب التزامه السياسيّ عبر القنوات نفسها التي تستعملها السلطات على أشكالها. وعندما يحصل الصّدام بين هذا العالم وبين السياقات المسلّم بها، يتحوّل هذا الصّدام نفسه إلى عمل فنّي.
يبدو من السّهل تربيط الطريقة التي نرى بها أعمال جاسر بالنظريّات التي تسيطر على عالم الأكاديميا الآن. وربّما ينبع ذلك من حقيقة أن أميلي نفسها ابنة الأكاديميا، من خلال التعاون الوثيق والحوار والأبحاث ضمن الصيرورة الفنيّة مع باحثين وأكاديميين كعملها مع أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة بير زيت منير فخر الدين في عمل "ex libris"، وكبير الباحثين في مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة سليم تماري في عمل آخر "مطار الّلد". لكن، وكما هو معروف سلفاً، "التلويث" يبدأ من الداخل بمصدر من "الخارج". ففي حديثها عن تجربتها التعليميّة، تشير أميلي بدقّة إلى مصطلح "مقاومة إفقاد الذاكرة التاريخيّة". متحدّثة عن "محو مستمر للذات الفلسطينيّة بعوامل يسهم فيها الانتشار العريض والتكاثر السريع للمنظمات غير الحكوميّة، والفنون والمشاريع الثقافيّة، التي تقترح الانضباط داخل بنى محددة من دون أن تحوز معرفة وثيقة أو وعياً بتاريخنا الثقافي".
يعود بنا ذلك إلى التساؤل عن أهميّة الفن لشعوب لا تزال ترزح تحت الاحتلال من خلال عنصرين: العودة إلى بدائيّة الشّكل، وبدائيّة الخطاب. إذا اطّلعنا على أمثلة من أعمال جاسر، نستطيع ترسيم خطوط عريضة لخطاب نقديّ يتناول التاريخ من خلال سرد مهمّش يخاطب العنصريّة بالسخرية، ويبحث عن القضيّة، ويصوّر المأساة لا بالشعارات بل بالتفاصيل الصغيرة. فإهداءات الكتب المكتوبة بخط ضخم على جدران في أماكن عامّة استعادة لحق السّرد من خلال أقدم شكل للتواصل البشريّ. والإعلانات الشخصيّة لساميّين يبحثون عن ساميّين للعودة إلى وطنهم كاريكاتوريّة تسخر من تراكم الخطابات السياسيّة المسلّم بها. إعادة إحلال السّرد الفردي عمل أكبر من السياق نفسه - وربّما أهم منه أحياناً. والفن يساعدنا في إدراك ذلك عندما يتّخذ شكلاً بشريّاً. فإثارة التساؤلات أهم من الإجابة عليها، وتلويث الواقع يبدو أنّ له أثراً أكبر من استصلاحه. بمعنى أنّه إذا كان الوعي التاريخيّ اليوميّ الموجع والثّابت عبئاً يتشارك الجميع في عصرنا بحمله، فالأرجح أن هذا العبء هو نسختنا عن الحقيقة التي نستعيدها عبر تمارين على ممارسة حقّنا بالسّرد.
يعرض حاليّاً معرض أميلي جاسر "نجمة بعيدة بعد النّظر عن عيني، وقريبة قرب العين منّي" في دارة الفنون بعمّان كأوسع عرض لأعمال الفنّانة الفلسطينيّة في المنطقة. وهذا المقال نسخة مختصرة لمقال أوسع سينشر، إلى جانب مقالات أخرى، في كتاب يصدر قريباً عن المعرض تحديداً، وعن تجربة جاسر بشكل أوسع.