أسئلة فحسب؟... لا! لأن القيم المتبناة، والمحركة للتفكير تبقى حاضرة، والتي لولاها لجرى الخضوع للواقع المذلّ باعتباره"واقعاً"، أي لا ردّ له، وهذا أهين المواقف – وهو شائع جداً - ولكنه خاطئ بكل المعايير: الواقعية أولاً، بدليل ما يقع من كبوات وتدهور سحيق، يليهما في كثير من الأحيان نهوض مشْرق. والأمثلة أكثر من أن تُحصى، في منطقتنا وفي العالم، الآن وفيما مضى، ولا يوجد سبب لئلا يكون كذلك في المستقبل. ثم هناك ثانياً "الأخلاق" (لو شئتم تسميتها كذلك) التي تجعل من قبول الظلم والبؤس عيباً كبيراً، وهي محرّك لثالثهما، الإرادة! ولولا ذلك لاستكان مثلاً الجيل الفلسطيني الحالي، بعد ما يقرب من 75 عاماً على النكبة، (انظر خطاب محمد الكرد ومقاومة أهالي حي الشيخ جراح). ولكنه لم يفعل، وتتوالى هباته الجماعية، وتتوالى مقاوماته الفردية. وهو مثال مختار عمداً، لإغاظة السينيكيين، ومعهم العملاء (مدرِكين أو غير مدركين لموقعهم!). ولأنه لا يوجد اليوم وضع أفظع، باعتباره مهندَساً عمداً ليكون على هذا المقدار من الظلم المفضوح، ومعه التواطؤ العام. هناك بالطبع بؤس متعاظِم في العالم بالإجمال، وبأشكال مختلفة، وهناك جماعات بأكملها تخضع للاضطهاد والاستغلال والقمع، وهناك الاستهتار المجرم بمستقبل البشر لغايات ربحية وسلطوية، ومنه ذاك الخاص بالعبث بالمناخ والطبيعة، الذي يتسبب بالكوارث والمجاعات والهجرات... لكن فلسطين تبقى حالةً متفردة.
فلسطين المتجددة أبداً!
13-05-2021
وجود هذه الركائز القيمية لا يلغي الحيرة والقلق والشك... وهي تتعلق خصوصاً بمسألة تحقيق التغيير الضروري، والمطلوب والمنشود، وإلا لما كان لها داعٍ، إلا ربما على مستوى تنظيم الحياة الفردية والعائلية التي تزداد صعوبة..
التغيير نحو اكتساب الحقوق الإنسانية الأساسية في حياة كريمة على كل الصعد، وكذلك منع الارتداد إلى الاستبداد، تحت أي مسمًى، وهو مصير الكثير من الثورات بعد نجاحها! ولا يكفي بهذا الصدد ما يردده الكسالى، أو الذين اعتادوا على الهزائم (فتلك هي المشكلة الفعلية، حتى لدى من يرفض تلك الهزائم، ويتضرر منها، أو لا يستفيد من وقوعها، وحتى لدى من يظنون أنفسهم "ثوريين"!): لا، ليس الجواب لفظياً، ولا شعاراتياً، ولا حتى بديهياً، وهو الأهم. لا، لا يكفي التمسك بالمبادئ، على أهميته.
بل لا يكفي وجود قناعات مُحرِّكة للفعل، طالما أنه يمكنه أن يكون أهوجاً يرضي الذات، أو آلياً.. تماماً كما هي الصلاة كما تمارس غالباً! فهي ليست حركات سجود أو سواها يؤديها الجسم، ولا تعويذات ينطبق بها اللسان، ولا خوفاً من العقاب، سرعان ما يُنسى، ليتكرر الإثم – وهذا في كل الأديان. ولا قيمة لهكذا صلاة إلا باعتبارها خضوعاً لسلطة منظومة كهنوتية ما (في أي دين) وتسجيل لسطوتها ومقدار نفوذها. وهي لا تحسّن سلوك البشر، ولا مواقفهم، ولا تدفعهم لتجنب الموبقات، وعلى رأسها ظلم بعضهم البعض.
____________
من دفاتر السفير العربي
2019: انتفاضات مبتورة النتائج
انتفاضات 2019: إبداع تأسيسي
____________
خاض شباب وشابات هذه المنطقة – وهم الأغلبية الساحقة من السكان - انتفاضتين كبيرتين في أقل من عشر سنوات، تخللتهما مقاومات متعددة، وهذا في كل مكان من هذه المنطقة. ما حدث بعد 2011 مرعبٌ، وهو ما زال جارياً في أكثر من مكان، أو أن مفاعيله ما زالت فاعلة. وما يحدث الآن بعد 2019 محبط، وهو ما زال يجري، في لبنان والعراق والجزائر وتونس والسودان... لم تنقص الشجاعة، والاستعداد للتضحية حتى بالنفس. ولم تنقص الرغبة والتصميم. يُقال إنه غياب الأطر المنظّمة، أو غياب البرامج والمخططات. ويقال إنه استعداد قُوى السلطة للذهاب إلى أبعد مما يتخيله عقل في ارتكاب الفظاعات، وفي تدمير المجتمعات حفاظاً على سطوة حفنة، صارت مجرد مجموعة نهَّابة، ومستبيحة لكل شيء في كثير من الأحيان. ويقال إن "التوازنات" الإقليمية والعالمية تمر بفترة "رجراجة"، سقطت معها كل التعريفات والضوابط المألوفة، وأن ذلك يحمل قواها على التدخل – الذي بات يسيراً مع "العولمة" والفوضى – وأنها تتدخل لتحبط التغيير، أو لتجعله على هواها ووفق مصالحها. وكل ذلك يمتلك وجاهةً أكيدة.
ولكن، لعل العطب في مكان آخر، فوق كل هذه الاعتبارات. لعله في أن العالم بكل معادلاته تغير تماماً، بينما ما زلنا نتبع الخريطة الذهنية السابقة نفسها في إعقالِه، وإنْ مع بعض التعديلات الجزئية وغير الكافية. وأن التفكير الفعلي والمتأني، الفردي والجماعي بهذا التغير، هو ما يمكنه إيصالنا إلى تلمس الواقع كما هو في العمق، أي دينامياته... فنستكشف الأمر، أمر العالم الجديد الذي يتكون أمامنا (ويهددنا أيضاً بالفناء!) وأمْرنا معه ومع ما يجب الإقدام عليه، وكيف والخ... طالما أن "الطريق يرتسم حين نسير فيه"، وأن المطلوب اليوم هو "الاختراع، والفعل، والبرهان على الحركة من خلال السير". وعلى هذا، تبقى كل الأسئلة مفتوحة!