لأننا لن نتراجع أبداً عن المطالبة بالعدالة.. أبداً!

ستون عاماً مرّت على ليلة "17 أكتوبر 1961" الباريسية المأساوية. ستون عاماً من إخفاء الحقائق والإنكار وكذلك اللامبالاة. يُعد قتلى 17 تشرين الأول/ أكتوبر والأيام التي تلته - مع احتساب العشرات من "المرحّلين إلى قراهم الأصلية" الذين اختفوا في معسكرات الجيش الفرنسي في الجزائر - بالمئات. في خريف 1961 كانت الدولة هي من سقط في قاع السين عبر إغراقها العمال الجزائريين.
2021-10-21

شارك
| fr
مظاهرة الجزائريين في باريس عند انطلاقها في 17 اكتوبر1961

مهدي لعلاوي*

"كثيراً ما تمنيتُ أن يتحول خجلي من واقع أنني كنت شاهداً عاجزاً على عنف الدولة المنظم والمفعم بالكراهية، إلى خجل جماعي. أود اليوم أن تُنقش ذكرى جرائم 17 أكتوبر 1961 الفظيعة، وهي نوعاً ما تكثيف لكل فظائع حرب الجزائر، على نصب تذكاري يوضع في مكان مميز في كل المدن الفرنسية، وكذلك بجانب صورة رئيس الجمهورية في كل المنشآت العمومية، بلديات وأقسام شرطة ومحاكم ومدارس، حتى يكون تحذيراً رسمياً وجدياً ضد أي سقوط جديد في الهمجية العنصرية".

بيار بورديو، تشرين الأول/ أكتوبر 2000

***

ما زلتُ من وقت لآخر أتمشى ليلاً بمحاذاة أرصفة نهر السين حيث ولدتُ. ودائماً ما ترافقني أطياف "أكتوبر" خلال تجوالي.

ستون عاماً مرّت على ليلة "17 أكتوبر 1961" الباريسية المأساوية. ستون عاماً من إخفاء الحقائق والإنكار وكذلك اللامبالاة أحياناً. انقضت ستون سنةً منذ أن نقشت على رخام الذاكرة الإدارية الحصيلةُ الرسمية للمجزرة التي ارتكبت تلك الليلة: قتيلان في جسر "نويي"، عبد القادر درون وعمارة أكمون. وعلى مستوى حي "غران بولفار"، قبالة سينما ريكس، مات أيضاً شخص فرنسي لدى خروجه من قاعة السينما بسبب التباس من البوليس حياله. كان يعمل ملاحاً نهرياً واسمه غي شوفالييه.

لكن شيئاً فشيئاً انحلّت عقد الألسن وتحررت. وبشكل أخص، مكّن عمل المؤرخين والباحثين، الصارم والدقيق، من فرض احتمالات أكثر جدية. في الواقع، يُعدُّ قتلى 17 تشرين الأول/ أكتوبر والأيام التي تلته (مع احتساب العشرات من "المرحّلين إلى قراهم الأصلية" الذين اختفوا في معسكرات الجيش الفرنسي في الجزائر) بالمئات. أكبر مجزرة للمدنيين بعد "الأسبوع الدامي" الذي أنهى، قبل 150 عاماً، تجربة كومونة باريس. ومن خلال قرابة مئة الشهادة المتضمنة في كتابهما الأخير - اللافت بقدر ما هو مرعب - أورد المؤرخان جيم هاوس ونيل ماكماستر، على خطى جان لوك أينودي، قصصاً زاخرة بالمعلومات والتفاصيل عن اغتيالات 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961.

المشهد المريع

في ساعة متأخرة من الليل، استمرتْ وحدات صغيرة من رجال الشرطة المتنقلين في قتل جزائريين وجدوا أنفسهم، أفراداً ومجموعات صغيرة، عالقين في أمكنة بعيدة عن الضاحية الغربية. وجد المراسل والمصور الصحافي إيلي كاغان، الذي كان يتنقل على متن دراجة نارية صغيرة، ثلاثة أو أربعة أجساد ملقاة في شارع "باكوريت" على مقربة من أحياء الصفيح في "نانتير". وعندما كان بصدد مساعدة جريح في الوصول إلى المستشفى، خرجت مجموعة من الجزائريين من أحد المخابئ وحملت جثث الموتى.

تطلب الأمر تتبع خيط أحداث قصة أكتوبر إلى بدايتها، مما يعني الاستنجاد بذاكرة آبائنا، الذين كانوا، في الوقت ذاته، أبطال هذه الأحداث المأساوية، وبسبب صمتهم الناجم عن الصدمة، كانوا "متواطئين" مع ثقب الذاكرة الهائل هذا.

ويضيف الشرطي راؤول ليتارد أن رجالاً من "وحدة التدخل الخاصة" التي كان يعمل في صفوفها (السرية القطاعية الثالثة) عبروا جسر "نويي" ودخلوا ضاحية "كولومب" حيث أطلقوا العنان طيلة ساعتين، ابتداءً من الساعة 11 ليلاً، لحملة تعقّب قاتلة: "كان الرصاص يُطلق على كل من يتحرك. فظاعة مرعبة. تحول الأمر طيلة ساعتين - نعم ساعتين - إلى اصطياد للبشر" (أو مطاردة قاتلة). كانوا يكدّسون أجساد الضحايا في عربة نقل الموقوفين التي كانت تسير خلف سيارتهم. وعندما وصلوا إلى قسم شرطة "بورت دو لا فاييت" استشاط مأمور القسم غضباً لأنهم لم يلقوا بالجثث في الشارع [...]

بول روسو، شرطيٌّ آخر، كان شاهداً على عمليات القتل الجماعي التي ارتكبت في جسر "كليشي": "حتى إنني رأيت بعضهم (رجال الشرطة) يطلقون النار على المتظاهرين مباشرة، ويلقون بهم من فوق الجسر". ثم يسرد مشهداً مرعباً دارت أحداثه فوق الجسر وفي محيطه: "عاد رجال شرطة من السرايا الجمهورية للأمن، نحونا. البعض منهم كانت أيديهم ملطخةً بالدماء، كانوا فخورين بذلك، يمدّون أياديهم ويقولون: "أترى، لقد تمكنا من هؤلاء "البونيول" (1).

أواصل تجوالي الليلي على ضفة النهر، وأطياف "أكتوبر" تلازمني. أكفانٌ شبه شفافة لا تنادي بالثأر ولا بالغفران. يلفها صمت الليل الكوني ولا تُظهِر أي مشاعر، واثقة من أن العدالة ستتحقق. لأنه من واجبنا نحن، سليلي أكتوبر، أن ندافع عن هذا المطلب، ونحرر أنفسنا من حمل الحُجب. من واجبنا نحن البقية، براعم الضفتين، المتشابهين في تشبثهم بجانبي هذا البحر الأبيض المتوسط الذي يربط بين التاريخ العريق لكلا الضفتين، أن نهيئ عرس المصالحة والتهدئة.

[...]

تطلب منا الأمر تتبع خيط أحداث قصة أكتوبر إلى بدايتها، مما يعني الاستنجاد بذاكرة آبائنا، الذين كانوا، في الوقت ذاته، أبطال هذه الأحداث المأساوية، وبسبب صمتهم الناجم عن الصدمة، كانوا"متواطئين" مع ثقب الذاكرة الهائل هذا. منذ بداية سنوات 1980 جمعنا وسجلنا بصبر الشهادات، ووجدنا صوراً وساهمنا في إتاحة وثائق الأرشيف التي كانت لا تزال حينها مغلقةً بأقفال البنود الزمنية التقييدية والتعلة المقدسة ("المصالح العليا للدولة") التي تحرم المواطنين من الحقيقة. خلال محاكمة موريس بابون في بوردو (الذي سيدان بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية بسبب الدور الذي لعبه في ترحيل اليهود في إقليم "جيروند" إلى المحتشدات النازية)، تظاهرنا أمام محكمة بوردو لنذكّر بأن بابون هو الموظف نفسه الذي ارتكب ممارسات مشابهة في 1943، و1961 و1962 (قتل المتظاهرين في مترو "شارون" (بينما كان محافظ الشرطة السابق ذاك يؤكد، لدى مثوله أمام المحكمة الجنائية، أن قتلى 17 أكتوبر كانوا عاقبة لتصفية حسابات بين الوطنيين الجزائريين، نشرنا في الصفحة الأولى لجريدة يومية صباحية قائمةً بأسماء العشرات الذين قتلوا على إثر مظاهرة 17 تشرين الأول/ أكتوبر. وقد تم تسليط عقوبات على موظفي أرشيف بلدية مدينة باريس الذين سرّبوا لنا هذه الوثائق. يجب أن نذكر أسماءهم اليوم تكريماً لشجاعتهم وحسهم المواطنيّ: بريجيت ليني وفيليب غراند.

دخل رجال من "وحدة التدخل الخاصة" ضاحية "كولومب" حيث أطلقوا العنان طيلة ساعتين لحملة تعقّب قاتلة: "كان الرصاص يُطلق على كل من يتحرك. فظاعة مرعبة. تحوّل الأمر إلى اصطياد للبشر". كانوا يكدّسون أجساد الضحايا في عربة نقل الموقوفين التي كانت تسير خلف سيارتهم. وعندما وصلوا إلى قسم الشرطة، استشاط مأمور القسم غضباً لأنهم لم يلقوا بالجثث في الشارع. 

لم يجد مستشار الدولة أي نسخة من التقرير الذي رفعه محافظ الشرطة إلى وزير الداخلية. أما الكتيبة النهرية فقد "قامت بإتلاف أرشيفاتها القديمة منذ بضع سنوات". كما اختفت ملفات أقسام إدارة الشؤون الجزائرية والمركز الذي كان يستقبل المعتقلين. أما عدد الجزائريين الذين رحّلوا إلى الجزائر، فالتقرير يقرُّ بأنه "يصعب تحديده. ولم نستطع العثور على المراسيم الوزارية ذات الصلة".

الجدل حول كشف هذه المحفوظات سيثمر في 1998 بإصدار تقرير مستشار الدولة "ديودوني مندلكيرن" الذي كُلّف بهذه المهمة من قبل وزير الداخلية آنذاك "جان-بيار شوفينمان". أخرجنا هذا التقرير - الذي كان داخلياً /سرياً في البداية - إلى العلن، ونشرناه في إحدى منشوراتنا ("بخصوص أكتوبر، منشورات باسم الذاكرة"، 1998).

هذا التقرير الحذرُ جداً في تقديراته، يؤكد أن عدد الوفيات المرتبطة بقمع المظاهرة يناهز مئة الضحيّة. لكن و"لمحاسن الصدف" لم يجد مستشار الدولة "مندلكيرن" أيَّ نسخة من التقرير الذي رفعه محافظ الشرطة إلى وزير الداخلية. أما الكتيبة النهرية فلقد "قامت بإتلاف أرشيفاتها القديمة منذ بضع سنوات". كما اختفت ملفات أقسام إدارة الشؤون الجزائرية، ومركز فنسان للفرز الذي كان يستقبل المعتقلين. أما بخصوص تحديد عدد الجزائريين الذين تمّ ترحيلهم إلى الجزائر، فالتقرير بأن "عددهم الإجمالي يصعب تحديده. في الواقع لم نستطع العثور على المراسيم الوزارية ذات الصلة".

ليل وضباب يخيمان على نهر السين

كان يتوجب علينا، دائماً وأبداً، أن نبدد اللبسَ، وأن نقول مثلاً - مراراً وتكراراً - إن واقعة "شارع شارون"، التي حفرت في الذاكرة الجماعية الفرنسية عقب خروج أكثر من نصف مليون شخص في جنازة المتظاهرين المقتولين، حدثت في شباط/ فبراير 1962، وليس في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961. إلى حد اليوم ما زالت هناك مناطقُ رمادية فيما يخص تحديد المسؤوليات. تمّ إثبات الوقائع، لكننا نرفض أن نطوي صفحة جريمة الدولة هذه قبل أن تكشف الحقيقة كاملة. مع ذلك، تتطور الأمور مع تصريحات الرئيس فرانسوا هولاند في تشرين الأول/ أكتوبر 2012، والتي للأسف لم تسمّ قتلة أكتوبر 1961. هناك "استحياء" يخبرنا الكثير عن إرادة السياسيين في كشف حقيقة هذه المأساة.

خلال ذاك المساء، وفي الأيام التي تلته، قُتل أناس عزّل، متظاهرون بسطاء جريمتهم الوحيدة كانت المطالبة، بأيادٍ عارية، بالحق في أن يكونوا أحراراً، الحق في أن يكونوا جزائريين في بلد ذي سيادة.

تحولت باحة محافظة الشرطة المركزية في قلب باريس إلى مقبرة جماعية فعلية. ألقى الجلادون بالعشرات من ضحاياهم في نهر السين الذي كان مجراه على بعد أمتار، وذلك حتى يقطعوا الطريق أمام فحوصات الطب الشرعي، لكن ليس قبل سرقة ساعاتهم وأموالهم. 

البعض كان ينصحنا بطي الصفحة، وآخرون يتحججون بأن حرب الجزائر أصبحت تاريخاً قديماً، وأن الوقائع المتعلقة بها صدرت بشأنها مراسيم عفو متلاحقة. تلك هي الحرب، يقولون لنا.

لكن، لا! لأنه في خريف 1961 لم تكن حرب الجزائر تدور في باريس، مقر مؤسسات الجمهورية الديمقراطية. ولم تكن هناك وقتها ديكتاتوريةٌ ديغولية، يكفي بأن نذكر أن المجلس الوطني كان يضم جميع المكونات السياسية الفرنسية. لا، لأن الرجال والنساء الذين تظاهروا في يوم الثلاثاء ذاك، لم يكونوا مسلحين متأهبين للاشتباك مع القوات التي لا تُحصى ولا تعد، والمسلحة من الرأس إلى أخمص القدم (تم استدعاء 7000 عنصر من قوات الشرطة وفرق الحرس المتنقلة في تلك الليلة). لا، لأن القتلة لم يغطّوا وجوههم: كانوا يرتدون أزياء رسمية، وبدلات بربطات عنق يرتديها موظفو الدولة. لا، لأنه خلال ذاك المساء، وفي الأيام التي تلته، قُتل رجال عزّلٌ، متظاهرون بسطاء جريمتهم الوحيدة كانت المطالبة، بأياد عارية، بالحق في أن يكونوا أحراراً، الحق في أن يكونوا جزائريين في بلد ذي سيادة. هل يمكن حتى أن نعتبره رجلاً هذا المراهق الصغير البالغ عمره 15 سنةً، والذي كان أول من قُتل برصاص الحرس المتنقّل في مدخل جسر نويي؟ هل كان هؤلاء العمال المتأنقون إرهابيين خطرين؟

 حتى يتم الإجهاز عليهم في "باحة 19 أوت" في قلب محافظة الشرطة ذاتها، والذين وردت بخصوصهم شهادات في الأيام التالية من قبل رجال شرطة جمهوريين أمطنا اللثام عن أسمائهم بعد أربعين عاماً من الأحداث؟

تحولت هذه الباحة إلى مقبرة جماعية فعلية. ألقى الجلادون بالعشرات من ضحاياهم في نهر السين الذي كان مجراه على بعد أمتار، وذلك حتى يقطعوا الطريق أمام فحوصات الطب الشرعي، لكن ليس قبل سرقة ساعاتهم وأموالهم.

تعْبر معدية نهرية السين ببطء. ينظر إليّ الملاح المتقدم في السن. لم نكف عن النظر إلى بعضنا البعض خلال الفترة التي استغرقها مروره. يبدو وكأنه يتساءل من أنا؟ ما الذي أفعله على ضفاف السين قبيل طلوع الفجر؟ أما أنا فكنت أتساءل أين كان في "أكتوبر" من تلك السنة الرهيبة؟ هل شاهد ما حدث، هل كان على علم؟

موريس بابون، محافظ الشرطة، وموريس لوغاي، المدير العام للشرطة البلدية، كانا حاضرين عند وقوع هذه المشاهد الفظيعة.

هل كانت المئات من حافلات الوكالة المستقلة للنقل الباريسي، التي تم تسخيرها لنقل 11 ألف متظاهر في صدى كئيب لحملة إيقافات جماعية عنصرية أخرى (2) وقعت قبل 19 عاماً، ودنست قلب باريس، مجرد هلوسة جماعية؟!

الآن، يقودني ترحالي الليلي إلى جسر "بوزونس". في 1991 قمنا بمعية رئيس البلدية الشيوعي، ودون موافقة محافظة "فال دواز" بوضع لوحة تذكارية على هذا الجسر. هذه اللوحة تذكّر بأنه خلال الأيام التي تلت 17 أكتوبر، تم في أرجاء الجسر انتشال جثث أشخاص "غرقوا بالرصاص" حسب العبارة التي كانت مستعملةً في ذلك الوقت. صمدتْ اللوحة التذكارية 24 ساعة. ما زلت أحتفظ بنسخة من الصفحة الأولى من جريدة "لارونيسانس". هذه الأولى الرهيبة تُظهر عائلةً جزائرية مفجوعة: خمسة أطفال متلاصقين فوق السرير حول أمهم، مع هذا العنوان: "اختفى أبوهم". فوق الصورة يخبرنا إطار توضيحي بأنه قد "تم العثور على جثث لجزائريين في "بوزونس" و"أرجانتوي" و"كليشي سو بوا".

أغلق عينيي لأستنشق بشكل أفضل ريح نهاية ليل يجوب السين، ويبدو أنه قادم من النورماندي. تعبر معدية نهرية السين ببطء. في مقصورته خافتةَ الإضاءة وكأن شمعةً تنيرها، ينظر إليَّ الملاح المتقدم في السن. لم نكف عن النظر إلى بعضنا البعض خلال الفترة التي استغرقها مروره. يبدو وكأنه يتساءل من أنا؟ ما الذي أفعله على ضفاف السين قبيل طلوع الفجر؟ أما أنا فكنت أتساءل أين كان في أكتوبر من تلك السنة الرهيبة. هل شاهد ما حدث؟ هل كان على علم؟

أنظر إلى النهر مرةً أخيرة.. هادئ ومحيّر في آن واحد. في انعكاساته المنوِّمة تتالى الصور التي طالما أمعنتُ النظر في تفاصيلها. أتذكر هؤلاء الرجال المصفوفين وأياديهم فوق رؤوسهم، بعضهم دامي الوجه، مرتعبٌ أخرسه الذهول. أتذكر تلك الأحذية المتناثرة فوق الأسفلت المبلل، ما كان أصحابها ليتركوها لولا الهلع الشديد. أتذكر صور الأرشيف التي تُظهر نثار الدم على رصيف قصر الرياضة في "بورت دو فرساي"، شاهداً على "تشريفة" البنادق والهراوات التي استقبلت ضحايا حملة الإيقافات الجماعية ليلة 17.

فوق أقواس واجهة المبنى نقرأ بحروف ضخمة اسم راي تشارلز الذي كان سيحيي هناك حفلاً في ذاك المساء. وتحت القبة حيث يتكدس 6000 سجين، كان الجزائريون يضعون فوق رؤوسهم أغطيةً غريبة: المناديل والأوشحة التي استعملت كضمادات مؤقتة من قبل الذين طالتهم هراوات البوليس في تلك الليلة. ستتواصل بعدها محنة هؤلاء الموقوفين. في خريف 2011 عثرتُ من باب الصدفة المحضة، أثناء اشتغالي في "المعهد الوطني للأرشيف -البحر الأبيض المتوسط" على تاريخ الجزائريين في مرسيليا، على ألف من مساجين قصر الرياضة في جزء من شريط فوتوغرافي. تُظهر هذه القطعة التي التقطتْ يوم 26 تشرين الأول/ أكتوبر(1961)، السجناء نازلين من القطار في محطة "سان شارل" (3)، مقيدي الأيدي، يسيرون في مجموعات ثلاثية، تقتادهم قوات الحرس المتنقل. كانوا يحرسونهم قبل ترحيلهم إلى الجزائر. ما لم يسجله التاريخ أن هؤلاء المساكين سيلقى بهم في معتقلات، وأن العشرات منهم سيلقون حتفهم هناك بسبب سوء المعاملة، أو عدم معالجة جروحهم التي أصيبوا بها في مظاهرة 17 أكتوبر. لن يشهدوا الاستقلال الذي سيعلن بعدها بثمانية أشهر، ولن يتم إحصاؤهم ضمن الحصيلة المريعة لقتلى التظاهرة الباريسية.

تتتالى الصور التي طالما أمعنتُ النظر في تفاصيلها. أتذكر هؤلاء الرجال المصفوفين وأياديهم فوق رؤوسهم، بعضهم دامي الوجه، مرتعبٌ أخرسه الذهول. أتذكر تلك الأحذية المتناثرة فوق الأسفلت المبلل، ما كان أصحابها ليتركوها لولا الهلع الشديد. أتذكر صور الأرشيف التي تُظهر نثار الدم على رصيف قصر الرياضة في "بورت دو فرساي".

الديمقراطية التي نطمح إليها لا يمكن أن نُطلق عليها هذا الاسم طالما أصرت الدولة على إنكار المآسي التي تسبب بها الاستعمار والتعتيم على مجازر "أكتوبر 1961". لا تستحق أن نسميها ديمقراطيةً، إذا ما واصلنا حجب الثلاثاء 17 أكتوبر 1961 أو التشكيك فيه. ما نطالب به منذ سنوات هو أن تحسم الدولة المسؤولة عن هذه الأحداث أمرها وتقرر -عملاً بمبدأ الاستمرارية، وعلى الرغم من العقود الست التي تفصلنا عن المجازر- أن تتحدث عن هذه الجرائم التي أفلتتْ من المحاسبة وتحدد أسماء المذنبين. لا يكفي أن تسمي الشرطة الباريسية وموريس بابون. يجب أن تذكر أيضاً أسماء من تواطؤوا في جرائم أكتوبر بالصمت، أو عبر مناورات الإخفاء، وهم في هذه الحالة وزير الداخلية روجيه فري، الوزير الأول ميشيل دوبري (المناصر لشعار "الجزائر الفرنسية") دون أن ننسى الشخص الذي كان يدير شؤون البلاد في ذلك الوقت، الجنرال ديغول.

نحن نطالب إذاً بالاعتراف الرسمي بجرائم أكتوبر من قبل السلطات العليا للأمة، لأن الكلمات تهدئ وتشفي. الكلمات تعيد إحياء قيم الاحترام والكرامة التي لا يستحقها فقط سليلو متظاهري أكتوبر، بل أيضاً كل مواطني بلدنا الذين يعتبرون أن الجمهورية مرادفةٌ للعدالة. لكن العدالة لم تقام أبداً بخصوص جرائم أكتوبر. في خريف 1961 كانت الدولة هي من سقط في قاع السين عبر إغراقها العمال الجزائريين.

حان الوقت لجبر الضرر وتضميد الجراح. حان الوقت لكي نشيّد أخيراً الإخاء، لأن هذه هي المعركة التي تخوضها جمعية "باسم الذاكرة" منذ سنوات طويلة. هذه الأخوية يجب أن تنشأ في كنف احترام الحقيقة والوقائع وقبول التاريخ، حتى وإن كان مؤلماً ومأساوياً، ومهما كان مقدار العار الذي سيلحقه بالحكومة الفرنسية التي كانت قائمةً آنذاك.

ما نطالب به منذ سنوات هو أن تحسم الدولة المسؤولة عن هذه الأحداث أمرها وتقرر - عملاً بمبدأ الاستمرارية، وعلى الرغم من العقود الست التي تفصلنا عن المجازر - أن تتحدث عن هذه الجرائم التي أفلتتْ من المحاسبة وتحدد أسماء المذنبين. لا يكفي أن تسمي الشرطة الباريسية وموريس بابون. يجب أن تذكر أيضاً أسماء من تواطؤوا في جرائم "أكتوبر" بالصمت، أو عبر مناورات الإخفاء.

بعد ستين عاماً من جرائم القتل الجماعي المحجوبة، ما زلنا نطالب السلطات العليا للدولة بأن تخرج عن صمتها وتجبر الضرر.

لأننا لن نتراجع أبداً عن طلب العدالة.. أبداً!

***

______________

*مخرج أفلام وثائقية، له عدة أعمال من بينها "صمت النهر، 17 أكتوبر 1961" بالاشتراك مع أنياس دونيس، 1991، و"مجازر سطيف، ذات 8 مايو 1945"، 1995 .

______________

• نشر هذا النص بالفرنسية في فصلية "نقد" العدد الخاص الصادر بمناسبة الذكرى الستين لمجزرة 17 أكتوبر 1961.

• ترجمه إلى العربية محمد رامي عبد المولى. والنص ينشر في إطار التعاون بين "نقد" و"السفير العربي".

______________

[1] - " Bougnoule " تعبير تحقيري، عنصري واستعماري، كان يُطلق على المتحدرين من شمال أفريقيا من ذوي السحنات السمراء. المترجم
[2] - ترحيل اليهود الفرنسيين إلى معسكرات الاعتقال والإبادة الجماعية، والذي دار بين 1942 و1944، وشمل حوالي 13 ألف مواطن فرنسي ثلثهم أطفال، وكانت باريس أهم محطاته، في ما عرف بـ "اختطافات فال ديف"، نسبة إلى "ملعب فال ديفير" مكان تجميع هؤلاء قبل نقلهم بالقطارات إلى المعسكرات. المترجم
[3] - محطة القطارات الرئيسية في مدينة مرسيليا جنوب فرنسا. المترجم

مقالات من الجزائر