"فرّق، تسد"، تلك هي العبارة المتعارف عليها بأنها الشعار الأعلى لاستراتيجية الاستعمار والاستيطان الأوروبي في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، والتي تفككت أنظمة سيطرتها القديمة بحلول النصف الثاني للقرن الأخير. وهي عبارة كافية اليوم، من دون الحاجة للجوء إلى مفاهيم علمية أرقى، لفهم تعامل دولة إسرائيل مع الشعب العربي الفلسطيني منذ نشأة الحركة الصهيونية في السياق الاستعماري التاريخي نفسه، ومستخدماً آلياته ومنطقه وأهدافه الاحلالية نفسها.
ما يبدو طاغيا
بعد 67 سنة على إقامة دولة إسرائيل ونصف قرن تقريبا على انطلاقة حركة التّحرّر الوطني الفلسطيني ومقاومتها بجميع الوسائل المتاحة و (المتغيرة) للمشروع الصهيوني، نجح الأخير ليس فقط بالتحكم بالأرض الفلسطينية وتسخير موارده واقتصاده لأولويات التوسع الاستيطاني اليهودي في جميع مساحاتها. بل استطاعت إسرائيل أيضا أن تشتت مراكز الحكم والمصالح الاقتصادية والمطالب التحررية للشعب الفلسطيني إلى أربع أو خمس أجندات منفصلة ومتباعدة داخل فلسطين التاريخية، ناهيك عن التشتت المتزايدة للشتات الفلسطيني نفسه خارج فلسطين، بين فلسطيني أردني وآخر سوري أو لبناني وآخر أميركي الخ. مشهد كئيب ربما يفترض أن يدفعنا إلى اليأس والاستسلام لحتمية سيطرة المشروع الاستيطاني الاستعماري في فلسطين وانقراض "الشعب العربي الفلسطيني" وقضيته التحررية وآمال بناء كيانه السياسي الوطني الموحد.
لكن الإقرار بمثل هذا الاستنتاج لا يلخص وحده الحالة الفلسطينية المعاصرة، فهو يغفل حقيقة صلبة وذات دلالة هامة للمستقبل، وهي ثبات الإنسان الفلسطيني على الأرض وتمسك الشعب الفلسطيني بهويته العربية في مختلف أماكن تواجده، بغض النظر عن الإطار السياسي والقانوني المتحكم بحياته اليومية. ونجد في تلك العبارة الشائعة "الصمود" كلمة السر للتوصل إلى فهم أعمق لتوازن القوى في فلسطين وإمكانية دحض المنطق الاستعماري القائل بأنه كلما تشتتت أكثر القضية الوطنية الفلسطينية وتأخر التحرير، كلما قُهر الشعب العربي الفلسطيني وتبددت آماله بإمكانيـة تحقيق مطالبه المشروعة. وفي سرد موجز لحالة التشتت الفلسطينية في الوطن، يمكن قراءة أبعاد تتعدى الصورة الظاهرة وتشير إلى بروز أنماط ومطالب جديدة لمفهوم "تحرير الإنسان والأرض".
وما من شك أن حقبة أوسلو التي لا نزال نعيش إفرازاته أعادت تعريف الشعب الفلسطيني بين ذلك الجزء منه المقيم في الأراضي المحتلة العام 1967 (حوالي 4.1 مليون اليوم) من جهة، والجزء الأكبر منه المشتت في دول المنطقة والعالم (البالغ تعداده حوالي 5.5 مليون) من جهة ثانية. واستثنت أوسلو تماماً من المعادلة الجديدة مصير الفلسطينيين العرب المواطنين في دولة إسرائيل (حوالي 1.4 مليون) وأهالي القدس (حوالي 300 ألف اليوم). وكان ذلك من الانتصارات المبكرة لإسرائيل في تقسيم شعب واحد كانت له قضية واحدة وممثل شرعي وحيد يسعى لتقرير مصيره ونيل حقوقه في إطار دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو كما حددتها م.ت.ف. نفسها في برنامج النقاط العشر للعام 1974: "إقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة عل كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها".
لكن التطورات اللاحقة في مراحل حكم ياسر عرفات ثم بعد تولي محمود عباس دفة القيادة الوطنية، حالت دون تحقيق هذا الهدف الوطني، بل أدت إلى تراجع احتمالات إنجازه أمام توسع الاستيطان وتشديد قبضة التحكم الإسرائيلي بمختلف نواحي حياة الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. وذهبت دينامية التشتت إلى ابعد من ذلك منذ "انسحاب" إسرائيل من قطاع غزة في 2005 وخلق الظروف المناسبة لانقسام في الحكم والأرض، حيث لم تعد هناك سلطة فلسطينية واحدة، بل اثنتان، وانقطعت أواصر العلاقة الاجتماعية والاقتصادية بين "محافظات الجنوب" والضفة الغربية. ولم تعد القدس العربية تابعة سياسيا أو اقتصاديا إلى أي إطار عربي أو فلسطيني. وكل ذلك عزز التيارات الجارفة التي تزيد من التمزق الفلسطيني بل من تناقض المصالح بين هذه الفئة وتلك. أضف إلى ذلك حقيقة أخرى تزيد من مشهد التشتت، أي احتفاظ إسرائيل منذ أوسلو (وبإقرار الطرف الفلسطيني) بـ60 في المئة من أراضي الضفة الغربية في المناطق المسماة "ج"، وخضوع حوالي 10 في المئة من سكان الضفة الفلسطينيين المقيمين في هذه المناطق إلى الحكم العسكري المباشر، كأنهم ما زالوا يعيشوا ظروف سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
أربع كانتونات
يعني أنه ليست هناك "ارض فلسطينية محتلة" واحدة، بل أصبحنا أمام أربع أراضي/كانتونات محتلة، كل منها تعمل حسب قوانين وأنظمة حكم وموارد واقتصاديات مختلفة ومسارات تحررية متباينة، لكن الجميع يدور في فلك النظام الأمني والاقتصادي والقانوني الإسرائيلي المتحكم. هكذا نجد في كل جبهة من المواجهة مطالب ووسائل مختلفة: المقدسي الذي يحاول أن يحافظ على إقامته في مدينته والهوية الإسرائيلية التي تسمح بذلك من خلال الالتزام بدفع الضرائب وإثبات الإقامة الفعلية، ومزارع الأغوار الذي يعيد بناء بيته أو حفر بئر مائي كلما هدمته سلطات الاحتلال، والغزّي الذي لا يزال ينتظر وعود المانحين العرب والأوروبيين بإعادة بناء ما دمرته الحروب الأخيرة، ثم المواطن في رام الله ونابلس الذي يجاهد لتسديد فواتيره وديونه المتراكمة وهو ينتظر صرف 60 في المئة من فاتورة الرواتب الشهرية لكي يضخ ذلك في الطلب المحلي ويحرك قليلا السوق الراكد.
يضاف إلى مشهد التشتت هذا التجاهل المنهجي لاحتياجات وحقوق الأقلية العربية الأصيلة داخل دولة إسرائيل الذين طالما اعتبروا مصيرهم "كجزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني". على الأقل هكذا كان إلى أن وضعتهم اتفاقيات أوسلو جانبا وبقوا وحيدين في ساحة المواجهة مع دولة إسرائيل ليدبروا أمورهم ضمن ما يتيح النظام الإسرائيلي القانوني والسياسي البرلماني من هوامش ضيقة للمطالبة بالحقوق والمساواة، من دون أن تسد فعلا الفجوة الاقتصادية والمعيشية بينهم وبين المواطنين اليهود الإسرائيليين خلال الـ 20 سنة الماضية. والانفصال بين المسار السياسي والقانوني للفلسطينيين في إسرائيل ومسار هؤلاء في الأراضي المحتلة أدى إلى تمايز في شكل ومضمون النضال للتحرر وانتزاع الحقوق من دولة انحرفت في السنوات الأخيرة إلى المزيد من التطرف والعنصرية الصريحة. لكن في نهاية المطاف، فإنهم مثل الغزّي والمقدسي والخليلي والنابلسي و "حراس الأرض" (كما يسمون أهالينا في مناطق "ج")، مستهدفون جميعاً من قبل القوى الاستعمارية نفسها في أرضهم ورزقتهم ونمط حياتهم العربية الأصيلة.
وفي سابقة في تاريخهم السياسي، خاضت القيادة العربية في إسرائيل معركة انتخابية برلمانية في "القائمة العربية المشتركة" جمعت أربعة أحزاب (متنافسة تاريخياً) تحت شعارات أيضا لم تُشهد من قبل، مثل "إرادة شعب" و"نحن مع بعض أقوى" و "هذه فرصتنا". صحيح أن للأحزاب الأربعة المتحالفة ضمن القائمة المشتركة اختلافات عقائدية وسياسية كبيرة ستعرِّض وحدتهم للمخاطر في الفترة القادمة. لكنه يجب عدم إغفال الحقيقة الساطعة بأن القائمة المشتركة حصلت على تأييد 450,000 (85 في المئة) من أصوات الناخبين العرب الذين أثبتوا بإرادتهم الحرة أن هناك نصف مليون فلسطيني عربي داخل إسرائيل يتفقون جميعا على الشيء نفسه: قيادة سياسية موحدة.
فلسطينيو 1948 يعيدون تعريف أنفسهم
هنا بيت القصيد: بعد أكثر من 60 سنة على النكبة و20 سنة على الاتفاقات التي نفتهم إلى زاوية معزولة في حلبة اللعبة البرلمانية الإسرائيلية، فإن الفلسطينيين في إسرائيل الذين سلكوا ما يصفه العالم السياسي الفلسطيني أمل جمال بـمسار "الأصلنة" (indigenization) لأحوالهم المعيشية وخصوصيات نضالهم المطلبي، أعادوا تعريف أنفسهم ليس كأقلية أو "وسط عربي" (كما تعتبرهم الدولة) بل كـ "شعب" وكجزء من شعب عربي فلسطيني لديه مطالب اجتماعية واقتصادية وخدمية من جهة، ويؤيد المطالب الوطنية للشعب الفلسطيني من جهة ثانية. ليس من الصدفة أن أهم التحديات للرواية السائدة (بأن الشعب الفلسطيني هُزم وأخضع إلى مقتضيات القوة الإسرائيلية بلا رجعة) قد صدرت في صيف 2014 من القدس العربية التي قيل عن أهلها أنهم انسلخوا عن مسار النضال ضد الاحتلال، ثم من غزة التي خضعت لحصار لم يعتقد أحد أنه كان بإمكان المقاومة المسلحة مواجهته، ثم في المظاهرات الشعبية داخل إسرائيل المتضامنة مع القدس وغزة، وفي مناطق عربية ظنَّ العديدون أن "الأسرلة" أصبحت هي عنوان الانتماء المهيمن فيها.
وها هي الرواية الفلسطينية الفعلية: بينما تتراجع الفرص الظاهرة لتحقيق التحرير والاستقلال الوطني بمفهومه الشائع منذ 1974، تتقدم نماذج جديدة وغير متوقعة للتأكيد على الهوية العربية الفلسطينية وعلى الإصرار على مواجهة الاحتلال والحصار والاستعمار، في أشكال نضالية تتحول إلى "ما بعد القومية" (post-nationalist). وبينما تنحسر الأرض المتاحة للعربي لإفساح المجال أمام المستوطن اليهودي، تنفتح مساحات سياسية وقانونية واقتصادية مختلفة لحراك الشعب الفلسطيني والتواصل بين فئاته المشتتة رغم الحدود والجدران، بدعم متزايد من أنصاره اليهود، إسرائيليين وغير اسرائيليين المعادين لنهج اسرائيل، ومن الرأي العام العالمي.
ومع أن الشعب الفلسطيني يرزح تحت أنظمة مختلفة من السيطرة الإسرائيلية ويعبر عن مطالبه بأجندات خاصة بكل فئة على حدة، فإنه يتحدث أكثر فأكثر بلغة مشتركة ويتحرك باتجاه واحد، ولو بحد أدنى من الوحدة، ويُجمع على رفض منطق الاستثناء الصهيوني ويصب حتماً بصمود الهوية والانتماء العربي غير القابلة للتصرف. وفي المشهد العربي الإقليمي القاتم السائد اليوم تبقى بوصلة فلسطين هي الثابتة مهما تعددت الجبهات والسياقات وتعاظمت قوة وغطرسة العدو. وهذه هي البشرى السارة من قلب فلسطين.