ما إن حَسِبَ بعض النقّاد (ومن بينهم أنا نفسي) الأكثر تشككاً في برنامج السلطة الفلسطينية الخاص بـ "إنهاء الاحتلال وبناء الدولة" الذي أطلقه سلام فياض في 2009، أننا انتهينا من أمر تلك المحاولة الرامية إلى فرض وجود دولة فلسطينية بواسطة تأمين جهوزية مؤسساتها المستقبلية، حتى أفلح أنصاره في أن يبيّنوا لنا أننا على خطأ في ذلك الحسبان.
ومنذ أن فشلت إدارة السلطة الفلسطينية في تحقيق أي من هذين الهدفين، كما وعدت في برنامجها الاقتصادي الليبرالي واشتدت قبضتها الأمنية الداخلية الحديدية، والفلسطينيون يتساءلون: ماذا بعد؟ إذا لم تكن كافية عدة سنوات من الحكم الرشيد بشهادة المجتمع الدولي، وثلاثة حروب تدميرية على غزة، ومواجهات يومية مع استعمار لا يني يتوسّع في الضفة الغربية والقدس، فما الذي على الشعب الفلسطيني أن يفعله لنيل حقّه في تقرير المصير، كما كفلته الشرعية الدولية التي يتمسك بها بكلّ عناد؟ لا شكّ أنَّ 30 عاماً من الكفاح المسلح و20 عاماً من مفاوضات السلام والديبلوماسية الناعمة منذ عام 1994، ناهيك عن الـ 5 سنوات ونيف الماضية من الازدهار الاقتصادي وبناء المؤسسات، كان ينبغي أن تؤدي إلى لمّ الخرائب التي لم يستغرق لمّها وعكس اتجاهها سوى بضع عقود في معظم البلدان التي استُعمِرَت في القرن العشرين.
لكن لا. يبدو أنّ ذلك كله لم يكن كافياً. الأمر الذي يُدخِل السلاح الأحدث وربما الأخير الباقي لدى منظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن تخلت عن الأسلحة السابقة أو فشلت في تدبّر أمرها. هذا السلاح هو الحرب القانونية. كنا، صبحي سمّور وأنا، قد أحكمنا في "مجلة الدراسات الفلسطينية" في عام 2011، نقداً لبناء الدولة الفلسطينية على الأسس النيوليبرالية لم يقتصر في تركيزه على مخاطر دفع السياسات الاقتصادية الليبرالية قُدُمَاً في حالة من التبعية الاستعمارية، الأمر الذي يفضي إلى تقويض آفاق التنمية الإستراتيجية. ما كان يشغلنا أيضاً (ولا يزال) هو الطريقة التي تَحُول بها سياسات السوق الحرّة، وأجندة بناء الدولة التي تبنتها السلطة الفلسطينية، من دون إثمار النضال لتصفية الاستعمار وتحقيق السيادة وتقرير المصير. وفي بهارج رام الله وازدهارها وزخارف الدولة التي لفّت السلطة الفلسطينية نفسها بها، يصعب أحياناً تذكّر أن النضال اليومي للشعب الفلسطيني ما زال يتعيّن أن يحقق الحرية والاستقلال، أو أن ثمار السلام الاقتصادي لم تتوزع بالتساوي.
ولذلك، فإنَّ جهد السلطة الفلسطينية لبناء "مؤسسات الدولة" منذ عام 2009، بل ربما منذ رحيل نظام ياسر عرفات، كان لديه بعض الفوائد كاختبار تدريبي للدولة العتيدة. لكنه لم يرق إلى أكثر من كونه طريقة مفيدة للترقّب وتمرير الوقت، وترسيخ شرعية السلطة وقوتها، والسماح لرأس المال بالتحرك بحرية عبر الحدود التي انمحت بفضل السلام الاقتصادي. وبينما اعتمدت م.ت.ف. تسمية "دولة فلسطين" منذ 2012، لم تبادر إلى خطوات قانونية أو اقتصادية أو سياسية لتجسيد سيادة الدولة المرتقبة. وفي جميع الأحوال، وعلى الرغم من كل النيات الطيبة لدى المسؤولين عن السياسة الفلسطينية الأخيرة، فإنَّ الظروف على الأرض اليوم تعني أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة هو اقل احتمالاً مما كان عليه في عام 2007، بعد أن غادر ياسر عرفات المشهد وتسارع جهد السلطة الفلسطينية الإصلاحي، أو حتى في عام 2002 عندما أعلن مجلس الأمن الدولي أول مرة دعمه لفكرة إقامة دولة مستقلة للشعب الفلسطيني.
منذ 2014، أطلق المدافعون عن الديبلوماسية في منظمة التحرير الفلسطينية إستراتيجية مشابهة إلى حد ما، في محاولة لفرض إقامة الدولة الفلسطينية من خلال إعلان الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية، على افتراض أن العالم سوف يتعامل معها في نهاية المطاف على أنها حكومة دولة محتلة ويتدخل على هذا الأساس كي يضمن تحررها. وإذا ما كان رفض مجلس الأمن الفذلكة الفلسطينية الخاصة بإقامة الدولة يوضح ملامح الموقف الدولي المحتمل تجاه الجهود الفلسطينية، فإنَّ العقوبات الإسرائيلية المعلنة والأميركية المرتقبة (المالية خصوصاً) ضد السلطة الفلسطينية التابعة والمثقلة بالديون، سوف تكون حتمية كاختبار لعزم م.ت.ف. على اتباع إستراتيجية يعتمد نجاحها على حسن نية الآخرين أكثر مما يعتمد على الحقائق على الأرض وميزان القوى المائل بشدة لمصلحة القوة الاستعمارية وإملاءات حلفائها القدامى والجدد، من أوروبا إلى الأميركتين وأوقيانوسيا، وحتى إلى أفريقيا.
انطوت تجربة العقد الماضي على القيام بكل ما هو ممكن لتجنب المواجهة المباشرة على الأرض مع الاحتلال، ليس في المناطق الخاضعة لولاية السلطة الفلسطينية فحسب، بل أيضاً في تلك المناطق الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية مثل المنطقة (ج) والقدس. وبذلك خسرت حركة التحرر الوطني الفلسطينية كثيراً من الفرص وحيز التحرك التي كانت قد حافظت عليها في مراحل سابقة، سواء في مجال خيارات التنمية الاقتصادية أو الاستقلال السياسي أو الأمن القومي. ويبقى أن نرى كيف سيتم توظيف تصاعد التأييد الديبلوماسي وتأييد الرأي العام اللذين حظيت بهما القضية الفلسطينية مجدداً، خصوصاً في أعقاب حرب غزة الأخيرة، وتتم ترجمتهما إلى تأييد كاف لتحمّل الإجراءات العقابية التي قد تواجهها إذا ما واصلت ما بدأته من استخدام الأدوات القانونية، خصوصاً الانضمام إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
ولا يزال من الضروري الإحاطة بالمؤدَّيات المترتبة على محاولة دولة فلسطين غير السيدة اليوم تفعيل أي من عشرات الاتفاقيات التي سبق أن انضمت إليها، ناهيك عن محاسبتها على الالتزام بها في المناطق الخاضعة لولايتها. وقد سارع مسؤولون إسرائيليون إلى تذكير م.ت.ف. بأن قادتها ومؤسساتها ستكون أهدافاً مشروعة للحرب القانونية الدولية إذا ما كان هذا هو اسم اللعبة الآن. بالتالي من الصعب أن نرى كيف يمكن لمزايا الانضمام أن ترقى في ظل ميزان القوى الجيوسياسي القائم إلى ما يزيد على إضفاء شعور من الاحترام الدولي لدولة فلسطين القادمة.
والحقيقة أنه مهما تكن الإستراتيجية الديبلوماسية-القانونية لمنظمة التحرير الفلسطينية محدودة النتائج، فإنها لا ينبغي أن تُنتقد في سعيها ورائها، خصوصاً أنَّ كثيراً من نقادها الليبراليين - اليساريين ومنظمات حقوق الإنسان لطالما أسفوا لبطء دخولها هذا المعترك. لكن لا ينبغي أيضاً أن تعقد آمال عريضة على طرد إسرائيل من الأراضي المحتلة بالوسائل القانونية بالمجان أو بالطلب اللطيف. ما يسعنا هو أن نأمل فحسب أن تضيف الجهود التي ستكرس لهذه المعركة على طريق تحرر الفلسطينيين الذين طالت معاناتهم، أكثر من مجرد إضافة قانونية للسنوات السبع الماضية من بناء مؤسسات "الدولة – الشبح"، التي يظهر وجودها في جميع النواحي ما عدا في الواقع نفسه، والتي عملت طيلة الوقت الماضي على حفظ السلام مع إسرائيل ولإسرائيل.