تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
مساء السبت 24 نيسان / أبريل، التهمت النيران ردهة الطوارئ / الإنعاش الرئوي في مستشفى ابن الخطيب جنوبي بغداد، ما أودى بحياة 82 شخصاً وجرح 110 آخرين بإصابات مختلفة، حسب الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية.
تستقبل المستشفى حالات الإصابة بالأمراض الانتقالية والمتوطنة كالحصبة والجدري والتيفوئيد والكوليرا والإنفلونزا الوبائية والتهاب الكبد الفيروسي وحمى مالطا وحمى غير مشخصة. أنشئت المستشفى عام 1962، وكانت جناحاً تابعاً للقوات المسلحة خاصاً بالأمراض الانتقالية ثم انتقلت عائديتها إلى وزارة الصحة. بعد ظهور جائحة كورونا، تحولت "ابن الخطيب" في بغداد إلى مستشفًى مخصصٍ لحجر مصابي الفيروس. وكغيرها، تعاني مشاكل تصميمية كبيرة، كافتقارها لمنظومة إنتاج وتوزيع أوكسجين الإنعاش الرئوي واعتمادها، كباقي مستشفيات العراق، على الأسطوانات، وعدم وجود منظومة إخماد حرائق، وغياب مخارج الطوارئ.
أعلن العراق الحداد ثلاثة أيام، وتهافت المسؤولون على التعزية والتعبير عن صدمتهم، حتى إن رئيس الوزراء، كتب كأي ناشطٍ مدني أو مدوّنِ تواصل اجتماعي: "أين جيش الموظفين للصيانة؟ أين الفنيون؟ أين الجهات الرقابية؟" وأين أشياء أخرى.
حادث متكرر
ليس غريباً. ففي آب / أغسطس من عام 2016 اندلع حريقٌ أنهى حياة 13 طفلاً حديث الولادة في "خُدَّج" قسم التوليد بمستشفى اليرموك في كرخ بغداد. قالت وزيرة الصحة حينها، عديلة حمود، إنها: "مستعدة للاستقالة إذا ثبت أي تقصير من وزارتها". وبعد أيام أقرّ الناطق باسم الصحة بأن الحريق مفتعلٌ وفق ما توصلت إليه "لجنة الخبراء الفاحصين".
العراق: عجز "دولة الموظف"
02-07-2020
لكن، وبعد 5 سنوات و4 وزراء مختلفين خلفوا حمود، لم يُحاسب أحد. ارتبط اسم الوزيرة بالـ"نعالات"، نظراً لفضيحة صفقة المستلزمات التي قدرت بـ900 مليون دولار، والتي كشف عنها في آذار / مارس 2017، وكان بضمنها شراء 26 ألف "نعال طبي" برتغالي الصنع بسعر 27 دولاراً للنعال الواحد. وعُرِفت أيضاً بـ "وزيرة الحشد" أو "بنت المرجعية" بعد انتشار صور تكريمها من قبل أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد السابق، ووكيل المرجع الشيعي علي السيستاني.
التواء الإجراءات
لطالما كانت إجراءات السلطات الصحية في العراق مثار سُخرية: "الفيروس يظهر مساءً فقط"، يُعلقُ الناس على إجراء فرض الحظر من الساعة 8 مساءً إلى 5 فجراً. ويسخر الناس من فرض السلطات إغلاقاً – أمنياً - على بعض المطاعم والمقاهي، وغض بصرها وسلطتَها عن الفنادق الفخمة التي يحتشد روادها كل ليلةٍ وترتفع منها أبخرة الأراكيل.
نقيب الأطباء العراقيين قال إن "المتوفر في مستشفيات العراق هو 15 سريراً فقط لكل 10 آلاف شخص من السكان" (1.5 سرير لكل 1000 شخص)، بينما، وحسب إحصائية البنك الدولي لعام 2015 فهناك ما معدله 8.1 سرير في المستشفى لكل 1000 مواطن من مواطني الدول المتقدمة.
بعد إعادة الإجراءات عند ظهور ما عُرفَ بالموجة الثانية للفيروس، كان "جاسم غريب" نجمَ العرض. المواطن الذي لم يرَ أحدٌ شكله، ولا يُعرَفُ عنه شيء. اعتصرت الدولة، أو ما تبقى منها، كلَّ قواها وعاقبته بغرامة 25 ألف دينار عراقي (17 دولاراً) لعدم ارتداء الكمامة. تزامن الحادث الذي صار "ترند" الناس، مع تشديد وزارة الصحة و"اللجنة العليا للصحة والسلامة الوطنية" الإجراءات الوقائية في شباط / فبراير الماضي.
لم تُجْدِ نفعاً "سيطرات" (حواجز طيارة) الرقابة الصحية/ الأمنية، التي لا يلتزم عناصرُها بالإجراءات، كما لم تفعل كلّ الإجراءات المهتزة التي وضعتها السلطات الصحية العراقية لمواجهة مخاطر أمواج فيروس كورونا: أنهى العراق العام 2020 متربعاً على صدارة الدول العربية الأكثر تسجيلاً للإصابات والوفيات بكورونا، بـ597 ألف إصابة و12.8 ألف من الوفيات (وصل عدد الإصابات الكلي حتى يوم 15 نيسان/ أبريل الجاري إلى 956860 إصابة، والوفيات إلى 14885، وفي 21 من الشهر ذاته، تجاوز عدد المصابين بفيروس كورونا حاجز المليون، في حين تجاوزت الوفيات الـ15 ألف شخصٍ)، مع حزمة كبيرة من الكوارث التي عرّت القطاع الصحي وبينت، مرةً أخرى، شدّة انهياره. فمثلاً: في حزيران / يونيو 2020 اختنقت مدينة الناصرية - المعروفة بتفوّر احتجاجاتها الشعبية - جنوبي العراق. نفدت قناني الأوكسجين من "مستشفى الحسين"، ولم تتأخر السلطات بتبادل اتهامات التقصير، لكنها تأخرت بحلّ الأزمة لأسبوعين، حتى لجأت لاستيراد الأوكسجين، واستقبال تبرعات من دولٍ أُخرى.
14 شهراً من الحياة في عهد كورونا، لم يستطع العراق خلالها الحدّ من فتك الفيروس، كما لم يستطع الحدّ من الآثار البالغة التي سببتها إجراءات الإغلاق والحجر: بلغت نسبة الفقر في العراق عام 2020 الـ 31.7 في المئة من الشعب العراقي الذي تجاوز عدد سكانه 40 مليون نسمة. وحسب المستشار المالي لرئيس الوزراء، "هنالك أكثر من مليوني عائلة عراقية، أضيفت للعوائل تحت خط الفقر خلال 2020 نتيجة جائحة كورونا التي اجتاحت العالم".
انخفضت النسبة، وفقاً للمتحدث باسم وزارة التخطيط، بعد رفع إجراءات الحظر، إلى نحو 25 في المئة، لكنها عادت، وعوقب المواطن "جاسم غريب". ولا أحد يعرف حجم الضرر الذي عاد. وبات معروفاً أن الإصابات اليومية في العراق فاقت الـ 8 آلاف إصابة، والسبب الرئيس كما تدّعي السلطات الصحية بين حين وآخر هو "عدم التزام المواطنين".
أُعدت على عجل مبانٍ عامة خارج المستشفيات لتوضع فيها أسرّة تستقبل مصابي كورونا، فكانت 2425 سريراً مقسمة على 4 مواقع في العاصمة. وهُيئت بعض الأماكن في المحافظات التي تعاني النقص الأكبر بالأسرّة والمرافق الصحية. جميع هذه الأماكن التي أُعِدَّت على نحو طارئ أُغلقت لاحقاً، وهي ليست صحيةً ومناسبةً وتفتقر، حتى بعد اعتمادها، للوازم والتجهيزات والأجهزة.
ينحصر الأمل في الحد من انتشار فيروس كورونا ومخاطره، باللقاح. وفي العراق، ليست قصة اللقاح مختلفةً عن باقي قصص التخبط والفشل: أولى خطوات اللقاح في العراق كانت عبارةً عن تبرعٍ صيني بـ50 ألف جرعة سينوفارم، ولم يكن الإقبال على تلقي جرعاته كبيراً، لكن الناس تحركوا بوتيرة أسرع قليلاً نحو التلقيح حين وصلت 336 ألف جرعة من لقاح ايسترازينيكا البريطاني، ثم تلتها 50 ألف جرعة من لقاح فايزر، ليصل عدد المُلَقَّحين في العراق حتى يوم 15 نيسان /أبريل الجاري إلى 197914. وحسب بعثة الأمم المتحدة في العراق، فإن البلاد على موعد مؤجل مع وصول1.1 مليون جرعة ايسترازينيكا عبر منحة "كوفاكس". وفي وقت سابق، أعلنت الحكومة العراقية تعاقد وزارة الصحة على استيراد 21 مليون جرعة لقاح "ستصل تباعاً" دون تحديد موعد هذا الوصول.
فساد يبتلع المستشفيات والأسرّة
تمتد الإحراجات التي تعرض لها القطاع الصحي إلى ما قبل بداية ظهور الفيروس، الذي سجل حضوره الأول في 24 شباط / فبراير 2020، وظهرت معه، منذ البداية، أزمة عدم كفاية الأسرّة والبنايات الصالحة لحجر المصابين. إنها أزمةٌ قديمة ولصيقة بأزمات أخرى لا حصر لها.
نقيب الأطباء العراقيين، في تصريح له مؤخراً، قال إن "المتوفر في مستشفيات العراق هو 15 سريراً فقط لكل 10 آلاف شخص من السكان" (1.5 سرير لكل 1000 شخص)، بينما، وحسب إحصائية البنك الدولي لعام 2015 فهناك ما معدله 8.1 سرير في مستشفى لكل 1000 مواطن من مواطني الدول المتقدمة... الذين لا يكفّون عن الاحتجاج على قلّة الأسرّة بعد الخصخصة المتسارعة التي عرفتها قطاعات الصحة فيها، والتي ابتدأت منذ عقود، وكشفها كورونا نفسه.
عام 2009، وقَّعت وزارة الصحة عقوداً مع شركتين لبناء 10 مستشفيات، سعة كل منها 400 سرير. ثبت لاحقاً أنه ليس لتلك الشركتين أي تجربة في بناء المستشفيات، وإنما أعطيت العقود لهما بعد دفعهما لرشاوٍ كبيرة تجاوزت عدة ملايين من الدولارات. وكان من المفروض أن تسلّم تلك المستشفيات لوزارة الصحة عام 2011، إلا أنه لم يتم تسليم أي مستشفًى لحد الآن.
في 5 أيلول / سبتمبر 2020 أعلن عضو لجنة الصحة النيابية جواد الموسوي أن لجنته، رفعت منذ بداية عمر الدورة البرلمانية 2018، 30-40 ملف فساد "بمليارات الدنانير" جميعها تخص وزارة الصحة، لكنها لم تُفتح في "هيئة النزاهة". ومع نقصها وتدني كفاءتها، ونهش الفساد لها، هنالك مشكلة أُخرى تلازم المؤسسات الصحية العراقية: توزيعها الجغرافي غير المتكافئ.
مع اشتداد الموجة الأولى، أعلنت وزارة الصحة عن توجهها "لتفرغ المستشفيات العامة لمعالجة المرضى"، كما شرعت وقتها بتهيئة بعض الأماكن - غير المستشفيات - لتكون محاجر صحية لمصابي كورونا الذين يحتاجون للعناية المركزة: معرض بغداد 525 سريراً، بناية "سرايا السلام"، وهي ميليشيا تابعة لزعيم التيار الصدري (مستشفى العطاء) 300 سرير، الأقسام الداخلية لجامعتَي بغداد والمستنصرية 1000 سرير، قاعات وزارة الشباب 600 سرير.
العراق.. كيف تديم سياسات النظام ثورة الجياع؟
20-10-2019
والحصيلة 2425 سريراً مقسمة على 4 مواقع في العاصمة بغداد، يُضافُ لها بعض الأماكن التي هُيّئت على الطريقة نفسها في محافظات تعاني النقص الأكبر بالأسرّة والمرافق الصحية. ولكنها لم ترتقِ جميعها لسد فجوة عجز الأسرّة التي يعاني منها العراق، مع الأخذ بالنظر أن جميع هذه الأماكن التي أُعِدَّت على نحو طارئ ثم أُغلقت لاحقاً، ليست بيآتٍ صحيةً مناسبةً وتفتقر، حتى بعد اعتمادها، للوازم والتجهيزات وأجهزة.
حسب تقرير مؤشرات الرعاية الصحية الصادر من "الجهاز المركزي للإحصاء" والخاص بالعام 2019، وهو آخر الأعوام التي غطتها إحصاءات الجهاز الصحية، فإن:
عدد المستشفيات الحكومية في العراق سنة 2018 هو 281، وارتفع في 2019 إلى 286.
عدد المستشفيات الأهلية في العراق سنة 2018 هو 135، وارتفع في 2019 إلى 143.
عدد العيادات الطبية الشعبية في العراق سنة 2018 هو 339، وارتفع في 2019 إلى 344.
تعاني جميع هذه المؤسسات نقصاً تاماً في الأجهزة، ويعاني المتوفر منها من تردي شديد في أحواله.
في عام 2009، وقَّعت وزارة الصحة عقوداً مع شركتين لبناء 10 مستشفيات، سعة كل منها 400 سرير. ثبت لاحقاً أن تلك الشركتين ليس لهما أي تجربة في بناء المستشفيات، وإنما أعطيت العقود لهما بعد دفعهما لرشاوٍ كبيرة تجاوزت عدة ملايين من الدولارات. ويدفع العراق سلفاً للمتعاقدين جزءاً من الميزانية المقررة. كان من المفروض أن تسلم تلك المستشفيات لوزارة الصحة في عام 2011، إلا أن الشركتين لم تنفذا العقد الموقع، ولم يتم تسليم أي من تلك المستشفيات لحد الآن. وتتوارد شائعات بأن وزارة الصحة قد استلمت اثنتين أو ثلاثة منها، ومع ذلك فتلك لم تعمل لحد الآن بسبب الشح في الكوادر الطبية، إضافةً إلى عقبات فنية أخرى، لا يُعرف إذا ما كانت نتيجةً لقلة جودة التشييد والتجهيز.
ليس هذا فحسب، فالفساد الذي بدأ ينمو بعد فرض الحصار على العراق مطلع تسعينيات القرن الماضي، توحَّش بعد 2003 وخلق لنفسه طرقاً ودهاليز في جسد جميع القطاعات. وليس القطاع الصحي بمعزل عنها. مثلاً، في 5 أيلول/سبتمبر 2020 أعلن عضو لجنة الصحة النيابية جواد الموسوي أن لجنته، ومنذ بداية عمر الدورة البرلمانية 2018، رفعت 30-40 ملف فساد "بمليارات الدنانير" جميعها تخص وزارة الصحة، لكنها لم تُفتح في هيئة النزاهة.
تفاوت القلّة.. سوء توزيع كل شيء
ومع نقصها وتدني كفاءتها، ونهش الفساد لها، هنالك مشكلة أُخرى تلازم المؤسسات الصحية العراقية: توزيعها الجغرافي.
في إقليم كردستان، الذي سلِمَ تقريباً من الدمار الذي شهده العراق بعد الغزو الأميركي 2003 والحرب الأهلية ومفخخات التنظيمات الإرهابية واجتياحاتها، يُلاحَظُ أن مستوى الرعاية الصحية أعلى نسبياً من بقية محافظات العراق. ويعيش في الإقليم ما بين 14-15 في المئة من سكان العراق، لكنّهُ يضمُ ربعَ ما في البلاد من مراكز لأمراضِ القلبِ والتأهيل، وثلث مراكز علاج مرض السكري.
تجاوز عدد سكان العراق في تقديرات الجهاز المركزي الـ40 مليوناً في العام 2020. وتتكدّس النسبة الأكبر من السكان في العاصمة بغداد، 21 في المئة، وتليها المحافظة الأكثر دماراً، نينوى 10 في المئة، ثم البصرة 8 في المئة فالسليمانية 6 في المئة. بعد ذلك تشترك ذي قار،الأنبار وبابل وأربيل بنسبة 5 في المئة في كل محافظة من سكان العراق، وفي كلّ من النجف وصلاح الدين وواسط وديالى وكركوك 4 في المئة من السكان، وتُقدرُ نسب سكان كل من دهوك وميسان والقادسية وكربلاء 3 في المئة، وفي محافظة المثنى 2 في المئة فقط من سكان العراق.
تحت ظلال الكارثة
02-04-2020
في بغداد 49 مستشفًى حكومي، و50 أهلي إضافةً لـ62 عيادةً شعبية – مستوصف - يقدم خدمات صحية بدائية - وهذه الأرقام هي الأكبر، لكنها تبقى فقيرةً من ناحية العدد والجودة وعشوائية التوزيع. فأرياف بغداد، التي يسكنها أكثر من 13 في المئة من سكانها، تغيب عنها المستشفيات، فيضطر سكانها لقطع مسافات نحو المركز المزدحم، سالكين طرقاً ضيقةً مكتظّةً بالسيارات، مع التسليم بشبه استحالة وصول سيارات الإسعاف لهذه المناطق، وللريف العراقي عموماً، الذي تبلغ نسبة سكانه من العراقيين 30 في المئة في مختلف المحافظات.
إجمالي عدد الأطباء في العراق، بجميع الاختصاصات، هو 35005 طبيباً في 2019. ويواجه الأطباء حديثو التخرج والالتحاق بتشكيلات الوزارة، تحدياً كبيراً يتمثل بضغط العمل، فتتراوح ساعات عمل بعضهم بين 12 و16 ساعةً في اليوم الواحد. وتنتهج الحكومة سبلاً عدّة لمنعهم من الهجرة التي سبقهم إليها حوالي 20 ألف طبيب منذ تسعينيات القرن الماضي حسب نقابة الأطباء، كعدم تسليمهم لشهاداتهم..
الشيء نفسه ينطبق على محافظات العراق الأخرى، التي تتفاوت أعداد وإمكانات المؤسسات فيما بينها، ولا تتناسب مع الحجم السكاني فيها. ففي نينوى 17 مستشفًى حكومي، بعضها ما زال مدمراً، و3 أهلي، و24 عيادةً، لكن في بابل مثلاً، التي يبلغ عدد سكانها نصف عدد سكان نينوى أو أقل، 18 مستشفًى حكومي و5 أهلي و21 عيادةً شعبية. وفي المقابل عدد مستشفيات السليمانية الحكومية هو 38 مستشفًى والأهلية 20، وفيها 29 عيادةً شعبية. أما ذي قار التي يتجاوز سكانُها سكانَ بابل، ويقترب من سكان السليمانية، فعددُ مستشفياتها الحكومية 9 فقط والأهلية 3 وفيها 28 عيادةً شعبية. أقل محافظات العراق مؤسساتٍ صحية هي المثنى: 5 حكومية و1 أهلية و9 عيادات شعبية.
وهو ما يبين عشوائية توزيع المؤسسات في محافظات العراق إضافةً إلى تفاوت إمكاناتها، وجميعها في النهاية متدنية، فيمكن تصنيف بعضها في خانة الخارجة عن الخدمة، بالنظر لتخلّف أجهزتها وبنيتها التحتية وغياب لوجستيات ضرورية، وفوضى إدارة عملياتها. كلّ ذلك يبدو أوضح في المؤسسات الحكومية، ويقلّ نسبياً في الأهلية، ولكل شيء ثمنه.
في بداية تفشي فيروس كورونا، كانت المستشفيات الأهلية، وحتى بعض مستشفيات القطاع المشترك - حكومية أهلية - تمتنع من استقبال الحالات التي يُشتبه أن الفيروس تمكّن منها، ولم يُعلن، حتى وقتَ الضيق، عن فتح أبواب إحداها لتكون محجراً للمصابين.
في كل هذه المؤسسات، حكوميةً أو أهلية، هنالك مشكلةٌ مشتركة، مشكلةٌ أساسية في الصحة العمومية والاستشفائية العراقية، تتمثل بنقص الكوادر قياساً بحجم الحاجة، وهذا ينسحب على جميع الاختصاصات الطبية "عدا أطباء الأسنان والصيادلة" حسب نقابة الأطباء.
النقص في أعداد الأطباء والكوادر الصحية
تؤكد إحصاءات نقابة الأطباء، وفق تصريحٍ لنقيبها، أن هناك طبيباً واحداً فقط لكل 1000 شخص من السكان في العراق، في حين تشير معلومات البنك الدولي أن الرقم هو 0.7 طبيب لكل 1000 شخص عراقي. وحسب إحصاءات البنك لعام 2015هناك 3.8 طبيب لكل 1000 مواطن من مواطني الدول التي تمتلك قطاعات صحية متقدمة.
الجيش الأبيض العراقي.. أول وآخر خطوط الصد
28-06-2020
وقد سجلت تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء، الخاصة بالعام 2019، أن إجمالي عدد الأطباء في العراق، بجميع الاختصاصات، هو 35005 طبيباً. ويواجه الأطباء حديثو التخرج والالتحاق بتشكيلات الوزارة، تحدياً كبيراً يتمثل بضغط العمل، فتتراوح ساعات عمل بعضهم بين 12 و16 ساعةً في اليوم الواحد. وتنتهج الحكومة سبلاً عدّة لمنعهم من الهجرة، التي سبقهم إليها حوالي 20 ألف طبيب منذ تسعينيات القرن الماضي، حسب نقابة الأطباء، كحرمانهم من استلام وثائق تخرّجهم الأصلية، وحصر تداولها بين وزارات ودوائر الدولة.
وعلى مستوى التمريض، كان لدى العراق عام 2018 ، 2.1 ممرضة وقابلة مأذونة لكل ألف نسمة مقارنة بـ 3.2 في الأردن و3.7 في لبنان، وذلك وفقا لتقديرات كل بلد آنذاك.
ويُقدَّرُ متوسط أجور الأطباء في العراق ما بين 600 و900 دولار في الشهر فقط (يصل لضعف هذا المعدل عند أصحاب الشهادات العليا وسنوات الخدمة الطويلة)، ويبحث كثيرون عن وظائف إضافية في القطاع الخاص لزيادة دخلهم المنخفض، خصوصاً بعد تخفيض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وفقدان رواتب الموظفين لأكثر من 20 في المئة من قوتها الشرائية.
ليست الصحة أولويتهم
تُظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن العراق أنفق خلال السنوات العشر الأخيرة، على الرعاية الصحية للفرد، مبلغاً أقلّ بكثير من دولٍ أفقر منه، إذ بلغ نصيب الفرد من هذا الإنفاق 161 دولاراً في المتوسط، بينما هو 304 دولارات في الأردن.
في عام 2019 على سبيل المثال، وهو عام بلا حرب، خصصت الحكومة 2.5 في المئة فقط من موازنة الدولة البالغة 106.5 مليار دولار لوزارة الصحة. في المقابل حصلت قوى الأمن على 18 في المئة من الموازنة، ووزارة النفط على 13.5 في المئة منها.
وتشكل مرتبات موظفي وزارة الصحة أكثر من 50 في المئة من إجمالي التخصيصات، بينما تراجعت نسبة التخصيصات للأدوية من 28.3 في المئة في العام 2015 إلى 24.7 في المئة في العام 2019.
ومنذ شهر نيسان/ أبريل من عام 2003، تولى وزارة الصحة العراقية 11 وزيراً من مختلف المشارب والخلفيات العلمية والمهنية. وبين جميع هؤلاء، هنالك مشترك واحد: إلقاء اللوم على قلة التخصيصات، مع تجرّؤ بعضهم على الإشارة إلى وحش الفساد. لم يقدم الوزراء ولا عشرات المدراء، الذين توالوا على قطاعات الصحة والمديريات، شيئاً لمستوى الصحة العامة في العراق، وحتى القليل الذي قدم مشروعات إصلاحية، لم يلقَ من يُصغي له.
النكتة القاتلة.. الدواء وأطوار النهب
وعلى ذكر الغياب، يسجل الدواء تفوقاً كبيراً على باقي العناصر الغائبة عن قطاع الرعاية الصحية: في العراق، هنالك نكتة – صحية - يتداولها الناس، بطلُها "الباراسيتمول"، ذلك لأن هذه الحبوب تحلّ محلّ كل شيء في المستشفيات والمراكز الصحية، لعدم وجود أيّ شيء سواها، وحتى هي مهددة بالغياب هي الأخرى.
يضطرُّ العراقي لشراء دوائه، على اختلاف أنواعه والأمراض التي يعالجها، من صيدليات أهلية، لا تحكم بأسعارها، لعدم وجود سيطرة على شركات استيراد موادها أو المذاخر التي توزعها، أو لتبادل الخدمات بين اصحابها وشخصيات سياسية ومؤثرة.
تتولى الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية ("كيماديا") التابعة لوزارة الصحة، عملية تنسيق وإبرام صفقات الأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية. في شباط / فبراير 2020 كشف عضو مجلس النواب باسم خشان عن وجود حالات فساد "بأموالٍ طائلة" في الشركة: "شركة كيماديا متورطة بأكبر عملية فساد". حديثه وقتها، جاء على أثر عقود ثلاجات لم يُعرف مصيرها.
في عام 2019، وهو عام بلا حرب، خصصت الحكومة 2.5 في المئة فقط من موازنة الدولة البالغة 106.5 مليار دولار لوزارة الصحة. في المقابل حصلت قوى الأمن على 18 في المئة من الموازنة، ووزارة النفط على 13.5 في المئة منها.
منذ 2008 كُشِف عن صفقات فساد مالي في وزارة الصحة العراقية بلغت قيمتها 445 مليون دولار تتعلق بعقود للأدوية والأجهزة الطبية، وعن حرق مخازن استراتيجية للأدوية في أحد أحياء بغداد، بلغت قيمة محتوياتها 100 مليون دولار.
جميع هذه الأموال لم تُسترد، ولم تقوَ جميع الحكومات على محاربة نهبها المستمر، كما لم تقوَ على تطوير قطاع صناعة الأدوية أو حتى المحافظة عليه كما هو. في العراق مصنعان قديمان للدواء، الأول ("سامراء") الذي تأسس في 1965 وباشر الإنتاج في 1971، والثاني ("معمل أدوية نينوى") يقع شمال مدينة الموصل، وتعرّض لدمار كبير إبّان سيطرة داعش على المدينة ثم تحريرها، وأُعلِنَ مطلع عام 2020 البدء بإعادة تأهيله. ويوجد 17 مصنعاً مملوكاً لمستثمري القطاع الخاص. المعامل سواء منها الحكومية أو الأهلية، تعمل بتكنولوجيا صارت متخلّفة قياساً بتطور الصناعات الدوائية، ما يجعلها خارج سباق تجهيز السوق العراقية على الدوام، والغلبة للمستورَد - أو المهرّب.
لقد ضربت الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003، هذه النصوص مضربَ الفساد والإهمال والسرقة. ولم تكن يوماً، صحةُ المواطن أو حياته أولويةً لها ولأحزابها وعرّابي توافقاتها. وهذا بالضبط ما يؤمن به المجتمع العراقي وهو يواجه خطر فيروس كورونا ويُطفئُ حرائق الفساد وسوء الإدارة لوحده.
محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.