سيكون من الطبيعي جداً وأنت تجلس مع مجموعة من العراقيين أن تكتشف خلال حديثك معهم أنواع النجاة التي مارسوها. وما أقصده بالنجاة هو الخلاص والهروب المستمر من الموت. فللموت في العراق آلاف الطرق. آخرها كان حريق اندلع يوم 24 نيسان/ أبريل الجاري في مستشفى ابن الخطيب في بغداد، تحديداً في الجناح الذي يعالَج فيه المصابون بفيروس الكورونا المتجدد والمتفشي بشكل فاضح في العراق.
الأخبار الأولية تقول إن الحادث كان بسبب تماس كهربائي، أدى الى إنفجار عبوات الأوكسجين التي كانت من المفروض أن تمد المرضى بالحياة، لكنها أدت الى مقتل 82 شخصاً الى حد الآن. وكالعادة مع كل حادث موت جماعي في العراق، لا نسمع من المسؤولين سوى تشكيل لجان ووعود بتحقيقات لا تفضي الى نتيجة أو الى أي محاسبة للمسؤولين. تليها تبادل الاتهامات عمَن يتحمل المسؤولية، لكن لا أحد منهم يستقيل أو يترك منصبه. لا بل إنه يُهدد بمقاضاة كل من يطالب بإقالته من الشعب، كما فعل وزير الصحة الحالي حسن التميمي. ثم تأتي إشارات مستمرة الى إن هناك إستهداف لكتلة ما لتشويه صورتها أمام الناس. في هذه الحالة بالذات، كانت "كتلة سائرون" التابعة للتيار الصدري والتي ينتمي إليها وزير الصحة الحالي.
يقوم المواطن العراقي بنفسه بإخماد الحرائق، وعمليات الإنقاذ، ولملمة الأشلاء والتشييع والدفن والبكاء والتظاهر والمطالبة.. والإستمرار في النجاة. بينما ينحصر دور الحكومة والأحزاب الحاكمة في قمع المتظاهرين وإحتلال شاشات التلفاز بتصريحاتهم، وإطلاق التغريدات على تويتر. فيشتمون بعضهم بعضاً في العلن ثم يتصالحون ويشكلون الكتل ويتقاسمون الثروات، فيشترون المقاعد النيابية والحقائب الوزارية فيما بينهم ويتفقون على إهمال الشعب تماماً.
"الدولة السائبة" في العراق: حد السكين الأعمى!
28-08-2020
صلاة الدم.. نحو قبلة رئاسة الوزراء
30-11-2020
في اليوم التالي للحادث، ظهر رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي محاطاً بوزراء حكومته الحالية. وبعد قراءة الفاتحة على أرواح العراقيين، أعلن "سحب يد" وزير الصحة ومحافظ بغداد ومدير صحة الرصافة، وتحويلهم للتحقيق. لكنه لم يُقلهم من مناصبهم. فكل هذه المناصب لا علاقة لها بالكفاءة ولا حتى بقدرة رئيس الوزراء على إقالتهم، لأنها ببساطة خاضعة لنظام المحاصصة الطائفية، الذي أرسى قواعده الاحتلال الأمريكي في العراق، وهو النظام الذي أثبت على مر السنين إنه راعي الموت والخراب في البلاد.
كنا في خريف 2019، نجلس على الأرض في ساحة التحرير في بغداد مع جموع المعتصمين. كنا نتبادل الأحاديث، فتدمع أعيننا من الغاز المسيل للدموع أحياناً، ومن الضحك على الكوميديا السوداء في العراق أحياناً أُخر، حين ذكر أحد الشباب، وبكل بساطة، كيف أن إثنتين من أخواته وأطفالهن كن من بين ضحايا تفجير أسواق (مول) الكرادة في أواخر شهر رمضان عام 2016، والذي راح ضحيته 200 إنسان لم يجدوا مخرجاً من البناية عند إندلاع الحريق بسبب إنفجار سيارة مفخخة، فتفحموا في الداخل. لن أنسى مسحة الأسى التي مرت على وجهه فتداركها بسرعة وعاد للمزاح مع رفاقه مرة أخرى. هم كانوا شباب الثورة، وأنا كنت المغتربة التي ستعود بعد أسابيع قليلة لبلدها البديل الآمن لتمارس حياتها العادية، حيث غالباً ما يموت الناس بطرق عادية لا تحتاج الى وعود كاذبة بالتحقيق، ولا حتى تغريدات من مسؤول يتهم بها عدواً خفياً يحاول تشويه صورته.
تنويه
في الوقت الذي كتبتْ فيه هذه المقالة، كان العراقيون يحاولون إخماد حريق ضخم آخر اندلع في مول "هاي سيتي" في محافظة كركوك شمال العراق. وما زلنا في إنتظار التصريحات واللجان والتحقيقات والاتهامات و... التغريدات.