خرجت الصحف المصرية بمانشيتات متشابهة يوم العبور الى سيناء في تشرين الاول/أكتوبر 1973. تكرر المشهد صبيحة خلع الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك إثر ثورة شعبية اندلعت في 25 كانون الثاني/ يناير 2011... لكن وفق أي مبرر وطني خرجت الصحف المصرية كافة صبيحة اليوم التالي لختام المؤتمر الدولي لدعم الاقتصاد المصري في شرم الشيخ بعنوان موحد هو "مصر تستيقظ".. الكلمة التي بدأ بها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي خطابه الختامي في ذلك المؤتمر الذي شهدته مصر مؤخراً. انها السمة الرئيسية للإعلام المصري الآن، حيث التعبئة العامة والتحدث بـ "لغة الفهم الواحد" حسب تعبير رئيس الجمهورية نفسه في أحد لقاءاته الدورية بالإعلاميين.
وهكذا وعلى مدار الأيام الماضية تحولت "مصر تستيقظ" الى نغمة موحدة يرددها أغلب الإعلاميين على ألسنتهم ويذيل بها أغلب المسؤولين تصريحاتهم. مشهد أشبه بالمهرجان المفتوح الذي يتم فيه التركيز على المعلومات والدلالات التي تخلق الصورة المنشودة، بينما هناك مشاهد حقيقية يعيشها آلاف المصريين هنا وهناك يتجاهلها الإعلام الرسمي او يذكرها وسط جملة من التبريرات التي لا تغني ولا تشبع من جوع.
"إحنا بتوع العيش"
أقوى هذه المشاهد بالتأكيد هو ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، بـ "لقمة عيش" المصريين التي على صداها تم عقد هذا المؤتمر الصاخب. إلى أى مدى سيساهم ذلك المؤتمر في تحقيق تنمية حقيقية تمس حياة المواطن لا معدلات النمو بالموازنة؟ الاتفاق او الاختلاف حول ذلك لن يلغي مشهد مئات من عمال توصيل الخبز للمنازل ممن تجمهروا بتوقيت كلمة رئيس الجمهورية نفسها امام ديوان محافظة البحيرة (دلتا مصر) ووجهوا هتافا موحدا: "قولوا للرئيس.. إحنا بتوع العيش.. مش عارفين نعيش". القصة لم تخرج بالطبع كنبتة شيطانية ولا علاقة لها بكل ما تتم صياغته عن المحاولات الآثمة لإجهاض المؤتمر الاقتصادي، ولكنها أثر سلبي طبيعي لتطبيق نظام "الكارت الإلكتروني" في توزيع الخبز، وهو نظام تكنولوجي تم تطبيقه لتيسير عملية الحصول على الخبز للمواطنين، لكنه لم يراعي كيفية معالجة احالة المئات من العمال الى خانة البطالة.
الحكومة تعي ما تفعله: تطبق نظام "الاقتصاد الحر" وتجد أن مسئوليتها هى خلق فرص عمل جديدة بالقطاع الخاص، لا أن تقدم اعاشات بدل بطالة او غيرها من الحلول.. لذا فقد أنفجر هؤلاء وهتفوا، ولكن أحداً لم يسمعهم وسط مهرجان "مصر تستيقظ".
مليارات الضرائب.. وربط البطون
تصفيق حاد شهدته كل كلمات رئيس الجمهورية بالمؤتمر الاقتصادي. لكن يبقى لبعضها صدى خاص حين تضعه موازياً لمشهد آخر تم حذفه من جدول المهرجان المفتوح هو مانشيت جريدة الوطن عن تهرب مؤسسات الدولة من دفع ضرائب بقيمة 14 مليار جنيه. وجاء على رأس تلك المؤسسات مؤسسة الرئاسة ووزارة الدفاع والمخابرات العامة والداخلية.
تم حذف الخبر سريعاً وسحب النسخ المطبوعة من الأسواق ليعاد طباعتها وتنزل فقط بصور رئيس الجمهورية وكلمته التي لم يكتف فيها هذه المرة بمقولة "انت هتاكلوا مصر؟" التي يلوم بها المصريين المطالبين بحقوقهم المشروعة ـ الفئوية كما تسميها الحكومة ـ على عدم الصبر، بل ذهب إلى أبعد من هذا وقال "لو لزم الأمر هنبطل ناكل عشان مصر تعيش".. عن أي مصر يتحدث؟ عن أي بطون؟ لا وقت لهذه الأسئلة فأصوات التصفيق والصياح فى المهرجان صاخبة وجميعها لا يعرف إلا كلمة واحدة: "مصر تستيقظ"
مين اللى محنيلك عمار .. فلاحينك الغلابة
مشهد آخر محذوف لم تلتقطه ترددات المهرجان جاء من أقصى الغرب على الحدود المصرية الليبية، بمنطقة شرق العوينات، حيث عانت المنطقة الممتدة المخصصة لزرع محصول القمح بطرق حديثة من نقص شديد فى السولار (المازوت) من أجل تشغيل ماكينات القمح وهو ما نتج عنه تلف ما لا يقل عن 2500 فدان.
فداحة الخبر لا تتوقف عند موت الحياة بالنبات، فأكثر من 15 ألف فدان مصري تزرعها شركة "امارتية" بعمالة "مصرية " بالقمح وتورد ما لا يقل عن 30 ألف طن قمح لمطاحن مصر العليا وللشركة المصرية القابضة للتخزين والصوامع، وهي المسئول الرئيسي بل الوحيد عن إنتاج الخبز المدعم ـ الطعام الرئيسي لملايين المصريين.
نقص امدادات السولار جاء نتيجة عجز الشركة الحكومية "مصر للبترول" عن تلبية الحصة الشهرية المتفق عليها، ومن ثم، ووفق العقد المبرم بين الشركة الإماراتية والحكومة، سيتم توقيع غرامة مالية واسعة. ليس هذا فقط بل وأعلنت إدارة الشركة الإماراتية أنها مضطرة إلى تسريح 1000 عامل مصري لتحجيم حجم الخسائر الفادحة... عاد الفلاحون الى منازلهم ولم تلتقطهم كاميرات مهرجان "مصر تستيقظ".
الطعنة و القمامة
بينما يتبارى المسئولون الكبار في الإدلاء بتصريحات بالمهرجان، سقط احد المواطنين بـ"طعنة" نافذة خلال شجار نشب فى طابور للحصول على أنبوبة بوتاجاز بمحافظة القاهرة. اما وزير التموين فوقف قبلها بايام ودعا المصورين الصحفيين لالتقاط صور الطوابير الممتدة اما مستودعات البوتاجاز، لأنها قريباً وبعد نجاح مصر في خطتها الاقتصادية ستصبح "صورة للتاريخ" حسب تعبيره. صورة أخرة ستبقى للتاريخ التقطها مصور صحافي لسيارة قمامة قالت الوحدة المحلية بقرية العدوة بمحافظة المنيا (صعيد مصر) أنها لا تملك غيرها من أجل توزيع الخبز على القرى وأن عمالها قد قاموا بغسل السيارة وتنظيفها جيداً. و أوضح أنه يتفهم غضب الأهالي لكن ليس لديه حلول. فإما ذلك و إما لا يصل الخبز إليهم.. بالتأكيد يحدث هذا كله فى الصباح الباكر فى احدى قرى الصعيد البعيدة بينما مصر الرسمية لم تستيقظ بعد.
الجندي و السلطان
تعبير موحد يستهل به جميع الخبراء والمحللين تعليقهم على المؤتمر الاقتصادي وهو انه نجاح سياسي قبل ان يكون اقتصادي، وانه كان بمثابة حملة علاقات عامة ناجحة للتعريف بالنظام الجديد الذي يتم تشويهه عمداً من عناصر المؤامرة داخلياً وخارجياً، وأهم الأركان التي يدافع النظام فيها عن نفسه أمام الرأي العام الخارجي هو وضع الحريات العامة وحقوق الانسان .
وقد كان التقاط عدد من الشباب "المسئولين عن التنظيم" صورة "سيلفي" مع رئيس الجمهورية هى التميمة الأكثر انتشاراً واستحضاراً للتدليل على حالة الحب والانطلاق التي يعيشها الشعب وفي المقدمة منه الشباب .
صورة تعرف معها كيف يمكن للبهجة في بعض الأحوال ان تكون جارحة، هذا حين يتم مقارنتها بصور أخرى أسفرت عنها الأيام: "محمد الجندي" الذي مات قبيل عام ونصف إثر تعذيب شديد داخل احد معسكرات الأمن المركزي إبان حكم الاخوان المسلمين، وصدر مؤخراً بيان مقتضب عن النائب العام المصري حفظ التحقيق في القضية وسجل الواقعة ضد مجهول. الصور الثانية كانت للشاب "محمد سلطان" الذي نحل الإضراب جسده بعد أن قضي أكثرمن 400 يوما دون طعام أو شراب اعتراضاً على حبسه على ذمة قضية "غرفة عمليات رابعة". وفى جلسة الحكم التي جاءت وسط صخب المهرجان سجلت الكاميرات صورة حزينة صامتة له وهو يتبادل النظر لوالده الذي صدر ضده حكم بالإعدام أمام عينيه.
يتبادل من في القفص الصغير وغيرهم الملايين في القفص الكبير النظرات الحائرة ويسألون كيف "مصر تستيقظ" ولا تدركنا جميعاً؟