كما لو أن الملائكة والشياطين هبطوا في الوقت ذاته الى مدينة نينوى. لفّ سماء المدينة غموض مريب ليلة العاشر من حزيران / يونيو. سقطت المدينة بشكل دراماتيكي بيد مسلحي «الدولة الاسلامية في العراق والشام» («داعش») خلال ساعات محدودة، على الرغم من وجود حوالي 56 ألف عنصر أمن متوزّعين بين الجيش والشرطة والمخابرات، وكذلك وجود قائدين يعتبرهما نوري المالكي، رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، من الصقور الذين يعتمد عليهما في المهمّات الصعبة.
كيف سقطت المدينة هكذا؟ من المسؤول؟ كيف ستستعاد؟ هل سيكون الحل عسكرياً أم سياسياً؟ ما الذي سيحلّ بالعراق.. هل سيبقى أرضاً غير مقسّمة، أم أنه سيحال إلى أقاليم وكونفدراليات؟
جراد الأسئلة يغزو غابات الدهشة. الروايات تتوالى، الحدث له ألف راوِ إلا الحكومة العراقية. وحدها من ظلّت تحتجز راويها في المكاتب الخلفيّة مغيّبة روايتها، تاركة الإشاعات والقصص تهوِّل وتهوِّن الحدث في آن. تدعو الحكومة إلى عدم تصديق أي رواية إلا روايتها التي لا وجود لها، غير سامحة في الوقت ذاته بتوجيه الانتقادات لها. وهكذا ولّدت جيشاً عفوياً من المخوّنين المتسائلين عن سقوط مدينة في أربع ساعات بيد تنظيمات مسلّحة، لم تستطع الحكومة ـ بالرغم من انفاقها بلايين الدولارات على السلاح والجيش ـ القضاء عليها.
بروفات قبل نينوى
كانت التنظيمات المسلّحة تتدرّب طوال الأشهر الأخيرة من عام 2013 وحتّى قبيل احتلالها نينوى على «مسك الأرض». جرّبت هذا في عدّة دوائر حكومية في محافظات صلاح الدين والأنبار وديالى وبابل. وكمحاولة أوليّة لاحتلال المدن، دخلت إلى بعضها في بعقوبة وأغلقتها بالكامل وعلّقت عَلَمها على مركز الشرطة واحتلتها لساعات، لكنها سرعان ما عادت (أدراجها؟). كانت هذه الاحتلالات المتعدّدة تشي بمخططات جديدة للتنظيم الإرهابي، إلا أن إعادة الحكومة السيطرة على المقرات والمدن بعد احتلالها كان يثير ثمالة النصر. كان الزهو يتناسل في الإعلام المقرّب من الحكومة، وكانت الأغاني المدبّجة للبطولات، وكلمات رئيس مجلس الوزراء الذي لم يعرف (أو يشأ؟) التخلّص من أزمة الأنبار التي بدأها نهاية العام الماضي تبيّن اعتداده بنفسه وهو يوزّع على خصومه بالتساوي «عدم الوطنيّة» و«الفساد».
وقد أعاد زلزال «داعش» مجدداً معادلة الأسود والأبيض. أطل المتسبِّب بكلّ ما يحصل متفرّجاً على تل الحطام بهدوء، وأخذ ينشط ـ هو وحاشيته ـ أكثر في إرساء معادلة اللونين. المثقفون والكتّاب دخلوا في مضمار الأسود والأبيض، الأول «داعشي» والثاني «مالكي». من يقف ضد سياسات المالكي في هذا الظرف «العصيب» فهو «داعشي»، ومشكوك في وطنيته، التي عليه أن يتلقّى دروساً فيها. أما أولئك الذين يحاولون تأجيل محاسبة المالكي وحكومته إلى ما بعد القضاء على «داعش» فهم متهمون بمحاباة «الإمبراطور»، وأنّهم يرسخون وجوده، خاصة وأنه سيعجّل بتحويل فشله إلى حفنة انجازات وهمية، وسيُنسي العراقيين سياساته عبر فتح أدراج مكتبه والتلويح بملفات الاتهامات لسياسيين يقفون خلف سقوط الموصل المدوي.
ومن أجل تضييع خطوط الحبكة، فإن المالكي، المعروف بحماية القوات الأمنية والتغطية على فشلها وعجزها وكأنها «معصومة» عن الخطأ، أحال عقب سقوط الموصل نحو 59 ضابطاً إلى التحقيق في خطوة أخيرة تلقي مسؤوليات الفشل على الآخرين، معتبراً هؤلاء مسؤولين عن «نكسة» سقوط المدينة، وقد يواجه بعضهم أحكاماً بالإعدام (سيحصل بالتأكيد). ففشل القائد لا بد من أن يدفع ثمنه آخرون. وأعاد المالكي مقابل هؤلاء ضبّاط جيش كان قد أجبر بعضهم على الاستقالة من منصابهم، وأرغم بعضهم على الجلوس في المكاتب الخلفيّة للقادة الجدد خلال الأعوام القليلة الماضية. إلا ان المفاجأة كانت باستدعائه ضباطاً خدموا في عهد صدام حسين إلى الخدمة. كان العقلاء في فترات ماضية يدعون المالكي إلى إعادة هؤلاء بدلاً من أن تستغلهم التنظيمات الخارجة عن القانون. إلا ان «الامبراطور»، وفي الوقت الذي أتخم فيه حزبه وقائمته السياسية ببعض البعثيين المعروفين بخدمة النظام السابق، أصرّ على ألا يعيد هؤلاء الضباط تحديداً إلى الخدمة وأن يتركهم منبوذين. إلا أنه مع قضيّة الموصل اندفع المالكي إلى التفكير مجدداً، خاصة بعد أن تورّط الكثير من هؤلاء الضباط، ذوي الخبرة الطويلة، في عمليات أقلقت الدولة وفاقمت من فشل بناءها.
سياسة الأمر الواقع
عقب أحداث نينوى، أصبح لا بد من إعادة رسم الخارطة العراقية وفقاً للمعطيات الجغرافية التي أوجدتها لغة البارود في المناطق التي سقطت بيد «داعش» ومن يقف في صفها: الكرد كعادتهم قفزوا على ظهر الأحداث، فرئيس حكومة إقليم كردستان نيجرفان بارزاني يقول من طهران التي وصلها في زيارة مفاجئة بُعيد الأحداث، أن «عراق ما بعد العاشر من حزيران هو غير عراق ما قبل هذا التاريخ»، وهو الأمر الذي ترجمه رئيس الإقليم مسعود بارزاني بالقول أنه «لم يكن لدينا شك في أي وقت بأن كركوك تعتبر جزءاً من كردستان»، لا سيّما أن الكرد سيطروا على محافظة كركوك ومعظم المناطق المتنازع عليها في لحظة، هي الأخرى ليس لها أي رواية رسمية.
وفي داخل نينوى، يلتحق عشرات الآلاف من رجال النظام السابق بـ«داعش» ومسلحي العشائر، في محاولة منهم للعودة إلى المشهد الذي أقصاهم منه قانون اجتثاث البعث. وهذا القانون أضيف الى حلّ الجيش العراقي السابق ومعظم هيئات وادارات الدولة، ومنع افرادها من المشاركة في الحياة السياسية، وحرمانهم من رواتبهم (عصب معيشتهم وعوائلهم). وقد فشل السياسيون الجدد في ترسيخ أي درجة من المصالحة الوطنية التي كان يفترض بها عزل المطلوبين وفق القانون والاستفادة بالمقابل من الخبرات العسكرية والمدنية للعاملين إبان سنوات نظام صدام حسين.
ميديا..وميديا
وإذا كان البارود يملأ أجواء العراق، فإن الحرب الإعلامية لها قوّة البارود في هذه المعركة، وجميع من في «المنطقة الخضراء» يعرف ذلك، لكن ما الذي يحصل؟
انبرت الفضائيات والصحف الاقليمية، الخليجية على وجه الخصوص، الى تغطية الأحداث التي تجري في العراق لحظة بلحظة. والمريب في هذه التغطية هو ترسيخ مفاهيم ومصطلحات تساهم في تعميق هوة الخلاف بين مكونات الشعب العراقي. فقد دأبت بعض الفضائيات على ترسيخ مفهوم «الثورة» في الحديث عن المسلحين الذين يخوضون المعارك في مناطق شمال وغرب العراق، فيما تستخدم بالمقابل مصطلح «جيش المالكي» عند اشارتها إلى الجيش العراقي. ويقابل ذلك إعلام حكومي يقبض العاملون فيه أعلى المرتبات في سلّم الرواتب، لكنه منشغل ببث الأغاني الهابطة التي يعتقد القائمون عليه أنها تدعم الجيش، وتزيد التعبئة الجماهيرية. كما ويسند الإعلام الحكومي إعلام النواب الذين يمتلكون فضائيات خاصة، وهو لا يقل سذاجة وافتقادا للمهنية عن رديفه الحكومي.
وفي الوقت الذي تستقطب فيه قنوات الخليج أكاديميين مقنعين يقدّمون حواراً معسولاً بخيوط الدم، تقدّم القنوات العراقية مطبّلين وشتّامين وقليلي خبرة لتحليل أكثر الأمور تعقيداً، و«لدعم الجيش» بالهتافات والشعارات من دون أي نقاش جدي للموقف.
الجيش المعصوم
سرت في العراق بعد سقوط نينوى، موجة غوغائية تُسْكت أو تخوّن كل من يتساءل عن انسحاب الجيش بهذه السرعة الكبيرة، بالرغم من أن الجيش والقوات الأمنية بشكل خاص، تنال نصيب الأسد من الموازنة العراقية، فضلاً عن تعدي تلك الحصة إلى حدود احتياطي النفط. يبلغ عماد الجيش حوالي 271.400 فرد يتوزعون على 193.400 فرداً في الوحدات القتالية، التي تتوزع بدورها على وحدة مصفحة، و8 وحدات قوات آلية، و3 وحدات مشاة، و2 ألوية خاصة، و2 ألوية رئاسية آلية، ولواء بغداد، فضلاً عن وجود 3600 فرد في البحرية. أما وزارة الداخلية فتضم 531.000 عنصراً، أغلبهم يشكلون وحدات الشرطة العادية.
وسمح احتياطي النفط العراقي بانفاق نسبة كبيرة من مردوداته على القوات العسكرية. وبحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن انفاق الجيش العراقي ارتفع من 12 مليار دولار في عام 2011 إلى 14.7 مليار دولار في عام 2012 ثم الى 17.1 مليار دولار في عام 2013.
ولم يكتف القادة العسكريون بكلّ هذا العدد من الرجال وهذا الكم من المال، فشكّل المالكي بعد سقوط مدن بيد «داعش»، الجيش «الرديف» الذي سيبلغ عماده نحو مليوني فرد، خاصّة بعد أن دعت المرجعية الدينية الشيعية إلى «الجهاد الكفائي»، الذي زاد من حدّة التطوّع في الصفوف الأمنية. وسيكلّف هؤلاء المليونين الدولة حوالي مليار دولار شهرياً، إذ خُصص لكل فرد منهم حوالي 500 دولار شهرياً كمرتبات، ولم يحتسب مع هذا سلاحهم أو تدريبهم.
وبالرغم من كل هذه القعقعة، تسيطر الحكومة في النهار على بعض المدن، إلا انها سرعان ما تُعاود خسارتها ليلاً، الأمر الذي يثير موجة أسئلة جديدة: ما الذي ينقص الجيش العراقي؟ مزيد من الأسلحة؟ مزيد من الموارد البشرية؟ أم مزيد من القيادة؟
العراق على خط التقسيم
وبالتزامن مع أحداث نينوى، نشرت جامعة ميريلاند تقريراً تضمّن نتائج مجموعة من الدراسات المسحية التي أجريت على عينات من السنّة والشيعة العراقيين خلال السنوات العشرة الماضية، والذي بيّن ميل العراقيين إلى حكومة علمانية بدل حكومة الأحزاب الإسلامية، فضلاً عن أن كل من السنّة والشيعة غير ميالين إلى فكرة تقسيم العراق، ولا يؤيدون حكومة دينية. ويلخص التقرير أن الصراع الطائفي الحالي يمكن عزوه إلى الرغبة بتحقيق منافع سياسية أكثر منه نزوعاً إلى انفصال الطوائف عن بعضها.
خطورة التقرير المطوّل تكمن في التفاعل طردياً بين آراء الشارع العراقي بمختلف مكوناته، وحجم الخلافات بين السياسيين الذين يمثلون تلك المكونات برلمانياً. إلا أن الأزمة الأخيرة كشفت أن الكثير من هؤلاء البرلمانيين والسياسيين، المشاركين في «العملية السياسية»، مرتبطين بأجندات دولية واقليمية تسعى إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات: كردية وسنية وشيعية، وهو أمر يكاد يكون قيد التحقيق بالنظر الى الاجواء المحلية والاقليمية والدولية المحيطة بالزلزال العراقي. وسيندم بعد عشر سنوات النادمون... ولكن العراق يدفع كل مرة ثمن عبثهم وقلة درايتهم وحروبهم الصغيرة.