لفّت عباءتها الفضفاضة وأطلقت يدها ورمت مسحوقاً أبيض على المرآة. راحت تتمتمّ بكلمات غير مفهومة وهي تحمل مبخرتها وتدور في الغرفة، بينما وقف الجميع ذاهلين يترقبون ما سيحصل عمّا قليل. قيل إن الوجه سيظهر جليّاً في المرآة وستحقّق معجزة إمساك الحرامي كما فعلتْ سابقاً، وقيل أنها ستجعل الحرامي يتكلّم عبر المرآة ويعترف بسرقته وسيدلّنا على مكانه لنقبض عليه. ارتجفت شفتا عمتي واتكأ عمّي على الحائط مذهولاً، إلا أن كل تلك البهرجة لم تنتج شيئاً. أعطتهما الساحرة ورقة مكتوب فيها أوصاف سارق تنطبق على جميع رجال بغداد، وأخبرتهما أنه من أحد الأقارب، وليس بغريب عنهم أبداً، فهو يدخل ويخرج من المنزل من دون إذن. أججت هذه الكلمات الشكّ لديهما، وأدخلت الجميع في دائرة الاتهام، وصارت عمّتي تراقب الحركة الشرائية لجميع الأقارب بسبب كلام الساحرة.
حصل ذلك أواسط تسعينات القرن الماضي. سُرقت مصوغات عمّتي، كان الفقر على أشدّه، 40 في المئة من العراقيين يرزحون تحت خط فقر مدقع، ولم يعد أحد يثق بالشرطة بعد أن نخر أجهزتها الفساد. صارت العائلات تلجأ إلى السحر، وقيل أن القيادة، وبمقدمها صدّام حسين ونائبه عزّة ابراهيم الدوري، يفعلون ذلك ويعتمدون على سحرة من خارج البلاد وداخلها من أجل فرض السيطرة على العراقيين، واتخاذ القرارات الصعبة والمصيرية. كان هذا الكلام يتردّد بشكل كبير في المجتمع العراقي الذي صار معزولاً عن العالم الخارجي، بحدوده المرسومة بالنار والعسكر!
بعد سنوات، يتضح أن الساحرة كانت إحدى وكيلات جهاز الأمن التابع لصدّام حسين. تم ضبط وثائق في منزلها تحتوي تقارير مفصلة عن أهالي الحي الذي كانت تسكنه. كانت الطريقة المُثلى للتغلغل في المنازل ومعرفة ما يدور فيها هي السحر وقراءة الطالع، فضلاً عن إيجاد حالة من الشكّ بين العائلات التي صارت تعاني التفكّك أصلاً بسبب الفاقة.
سلّة الأزمات
أدّى الحصار الاقتصادي الذي فُرض على العراق منذ عام 1990 إلى بروز الأزمات الاجتماعيّة. تجاور الفقر مع تراجع القطاع الصحي، وبرزت الشعوذة مقابل انحدار المؤسسات التعليمية وتفشّي مستوى الأميّة. وُضعت الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في سلّة السحر، كان هذا أحد الحلول الناجعة للاطمئنان على مجاهيل المستقبل في بلاد ما بين النهرين وسرعان ما انتقلت هذه الظواهر إلى عصر الكولونيالية الجديدة في نيسان / ابريل عام 2003، حيث غابت جميع ملامح الدولة. انفلت الوضع، وتنقل الموت في كلِّ مكان، وصار الصراع على السلطة بين الجيش الأميركي الذي يذرع البلاد، والميليشيات التي تخنق المُدن، على أشدّه، فيما الجيش العراقي يقف هزيلاً أمام هذه القوى المتناحرة. دفع العراقيون الحالمون بالدولة المدنيّة وارتفاع مستوى التعليم والرفاه الاجتماعي ضريبة هذا الوضع الأمني: فقد ظل السحر أحد الحلول التي يعتقد الناس بنجاعتها.
تُريد أن تكون ثريّاً؟ الجواب بسيط، خاتم فيه تعويذة يصنعه رجل دين في مدينة الصدر، تُريد حماية من الرصاص الذي يتمشّى في الأجواء العراقيّة؟ هناك ساحر في منطقة بغداد الجديدة يصنع حجابات لأجل ذلك. السيطرة على الزوج ومنعه من النظر إلى امرأة أُخرى؟ محلول من عند ساحرة في منطقة الكمالية كفيل بجعل الزوج "حمارا" مربوطا إلى كنبة البيت. الزواج لفتاة ملّت انتظار فارس أحلامها؟ محلول يوضع للرجل المختار في الشاي وقت الظهيرة. جار مزعج؟ خلطة من جلد الأفعى السوداء وعظم حيوان نافق وعدّة مساحيق توضع قرب باب منزله فتكفل تركه العراق بأكمله وليس بيته فقط.
مُقابل هذه الحلول "الناجعة والسريعة" التي برزت، هُناك المحاذير التي حملناها دائماً، إذ توصي الأمهات أولادهن دائماً بعدم شرب أو أكل أشياء تقدمها النساء العوانس في المكتب خشية أن يُوضع فيها "عمل". تُصبح جملة "أُمهات السحورة" التي تطلق على النساء على مواقع التواصل الاجتماعي إحدى الجمل الرائجة التي تُشير في المخيال إلى أن الرجل مكتشف كل الألاعيب النسوية للالتفاف عليه. وفي "فيسبوك"، يلاحق السحرة أولئك الذين يعانون الضوائق. أنشأ هؤلاء صفحات ووضعوا فيها صور موادهم الكفيلة بحلّ عقد الحياة، نشروا قصصاً عن المشكلات التي حلّوها، والرزق الوفير الذي تنزّل على زبائنهم، والأمراض العضال التي عالجوها بمسحة كف وقراءة تميمة.
الشعوذة السياسية
ولا يرتبط السِّحر بالعامّة فحسب. فبعد سقوط نظام صدّام كان السحر له حضوره وتأثيره أيضاً. أحاطت هالة كبيرة بـ "القائد الضرورة" الذي اختفى فور احتلال بغداد، تردّدت أنباء عن حمله قلادة تحميه من الإصابة بالرصاص، وقيل أن السحرة الذين جلبهم من أصقاع العالم يرافقونه في مخابئه، وقيل أيضاً أن الجنود الأميركيين مروّا من أمامه ولم يروه بسبب "الحجابات" التي صنعها له خصيصاً رجال دين وسَحَرَة ومتصوَّفة.. ولكن اتضح أن السحر ليس مرتبطاً بالنظام الديكتاتوري، فأغلب السياسيين الذين ظهروا بعد احتلال بغداد في نيسان/ ابريل 2003 لهم "أساليبهم" في خوض الانتخابات، أو اتخاذ القرارات المصيرية، أو القتال والصراعات. يتردّد أن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، كان يضع خاتماً عند زيارته المناطق الخطرة، ونُشرت تقارير عن لجوئه إلى "الاستخارة" في خوض العمليات العسكرية في مناطق النزاع.
بالمقابل، تُعدُّ مواعيد انتخابات المجالس المحليّة أو البرلمانية موسماً لرواج بضاعة السَحَرة. تقف سيارات فارهة ورجال حمايات مدججون بالسلاح أمام منازل هؤلاء السحرة من أجل معرفة حظوظ أصحابها بالفوز أو تعيين العراقيل التي تحول دون ذلك، والحصول على "الحجابات" التي تُساعد على الظفر بالمناصب، والأدعية والمواد التي تصرِف الإعلام عن سرقات المسؤول الحكومي. وقد اعترف علانية مسؤولون عدّة في المحافظات العراقية باللجوء إلى هذه الأساليب.
وذهب نائب في البرلمان أبعد من ذلك حين كشف محاربة إسرائيل للعراق عن طريق السحر عبر إرسالها ألبسة نسائية للمتديّنات العراقيات رسمت عليها طلاسم "السحر الأسود" اليهودي، والذي ترمي إسرائيل من خلاله – وفقاً للنائب - إلى "خلق المشاكل للمرأة في حياتها وعلاقاتها الزوجية وحياتها العامة"، لافتاً إلى "حجم الضرر والتدخل الذي تحاول اسرائيل (وتركيا) الحاقه بالعراق" من خلال السحر!
إنهم بيننا!
تُقدِّر مصادر في وزارة الداخلية العراقية عدد السَحرة والمشعوذين في العراق بنحو 8 آلاف شخص منتشرين في عموم البلاد، ويحصل هؤلاء على متوسط مداخيل تُقارب 8 آلاف دولار شهريّاً، وليس لدى وزارة الداخليّة أي قانون لمحاسبتهم دون وجود شكوى من قبل "زبائنهم"، ولا تتدخّل المؤسسات الدينية في عمل هؤلاء، وليس هناك حملة ضدّهم في منابر رجال الدين، هذا فضلاً عن أن بعض رجال الدين أساساً يصنّفون كسحرة أكثر من تصنيفهم كواعظين، إذ تظلُّ "كرامات" بعض "المشايخ" إحدى أهم حالات "النصب" المنتشرة في العراق. وتتداخل الطرق التقليدية الموروثة لصناعة الحجابات والعلاج بالقرآن، مع أعمال الساحر "المُكلفة" التي يلجأ إليها الفقراء من أجل إيجاد حلول لضوائقهم، التي غالباً ما يكون حلها من شؤون الدولة وواجباتها. لكن إذا ما كان رجالات الدولة يلجؤون إلى السحر، فما على المواطن فعله؟