منعت وزارة العدل ووزارة الداخلية المغربية طبع وتوزيعَ أو حمل بطاقات "الشرفاء". وفسّر المنع بـ "عدم مشروعية هذه التصرفات ومخالفتها للقانون". لذلك أعطت الحكومة تعليمات بمعاقبة "مرتكبي هذه الأفعال بتقديمهم للعدالة".
ما هي هذه الأفعال بالضبط، ومتى بدأ ذلك وما تفسيره في السياق الاجتماعي المغربي؟
إليكم الأفعال:
يضع شخص ما بطاقة الشّرفاء على زجاج السيارة الأمامي. على البطاقة الخضراء خليط من رموز ملكية ودينية ووطنية. وقد كُتب عليها "يجب احترام وتوقير حامل هذه الشارة". ويدّعي صاحب بطاقة الشرف أنه من سلالة آل البيت ويستخدم هذا الرأسمال الرمزي للنصب ولخرق قانون السير.. وأيضاً لاقتراح نفسه في وساطات. ففي مجتمع يعيش حالة سلام مع الفساد تكون للوساطات عائدات مجزية.
وقد زادت الحاجة للإفلات من العقاب بعد زيادة الغرامات في قانون السير الجديد. يظن الشرطي أن الشريف حامل البطاقة سيدعو عليه بالهلاك، وأن الله سيستجيب. ويقول المغاربة إن الشرطة تستخدم الشدة مع المواطنين العاديين وتتسامح مع ذوي النفوذ. ويحكي أحد السائقين أنه اشترى "البطاقة الخضراء" من أجل تمويه مخالفاته.
من فوائد البطاقة: اختلاق الوجاهة، زعم التميز في الدم، تحقيق مصالح ملتوية، المتاجرة في النسب في بلاد الشرفاء.. النسب ماركة تجارية مربحة للتصرف فوق القانون بفضل السلطة الرمزية للمتصوف التي توظف في المجالين الاجتماعي والسياسي. لذلك فالناس يختلقون أصولهم ويدفعون لمن يتاجرون في الأنساب. يوجد طلب ويستجيب له العرض. عرض امتيازات شرفاء لهم علاقة دموية بقريش. يتمتع الشريف الجديد حائز البطاقة بامتياز. فهو أرقى من غير الشرفاء، أي المواطنين العاديين وقد يصفهم بأنهم "بوزبال".. الذين لا يلزمهم التوقير ويجوز في حقهم التحقير.
حظي قرار الحكومة بالمساندة الشعبية. فمنع البطاقات سيجعل الجميع تحت القانون. ويلقي المنع ضوءاً على الدلالات السوسيوتاريخية للنسب الشريف ووظائفه في القرن الحادي والعشرين. في صغري، كان الشريف العجوز يأتي إلى بيتنا في كل صيف لجمع الحبوب. يمنحه جدي بغله لجمع "العشور" من الفلاحين. لا يعطي الفلاحون هذه الزكاة إلا للشريف. لا يعطي جدي بغله للفلاحين. لكن يعيره للشريف لحوالي عشرين يوماً. كان الشريف حفيد الولي الصالح دفين القرية واسمه "سيدي اليماني". يأتي الشّريف إلى بيتنا ويأكل أفضل الطعام وتظن جدتي أن دعواته مقبولة. هكذا أثر اعتقاد العامة بالأصل النبوي للشريف على موقعه ومصداقيته ونفوذه الذي أكسبه ثروة لم يشْقَ من أجلها. حين دخلتُ الجامعة فهمت أن الشريف كان يتسوّل بادعاء الانتساب للنبي.
من بين أسوار الجامعة، بدا لي الفلاحون سذّجاً يعملون بعرق جبينهم ويقدمون القمح للشريف لنيل بركاته. كنت متفقاً مع ماكس فيبر الذي أكد تراجع مكانة المعتقدات التقليدية المتمثلة في الشعوذة والدين والعلاقات التقليدية لمصلحة التفكير العقلاني، وتراجع معيار الأصل لمصلحة معيار الكفاءة. هكذا يفترض أن تتراجع الوصاية على الناس بفضل الانعتاق من البركة والنسب الشريف.
هذا توصيف حسب النظرة الجامعية المتثاقفة. لكن الواقع مختلف. والحقيقة الوحيدة المؤثرة هي أن الفلاح الذي لا يُكرّم الشريف تسوء سمعته. وحالياً يحضر أحفاد الشريف للحصول على هبات الضريح في كل موسم. ولا أمل في منع أي فرد من بين 34 مليون مغربي من الحلم أنه شريف. وقد بلغ الأمر أن يُدعى الشرف والأصل القريشي من طرف أشخاص لا يعرفون اللغة العربية أصلاً.
لم يبدأ هذا البارحة. إنه قديم في المغرب. يقول منشور لوزير العدل في 1984 "فقد أثير انتباهي إلى أن بعض الخواص يحاولون بشتى الوسائل إثبات انتمائهم للنسب الشريف.. مع أن أمر إثبات النسب الشريف مخول لنقباء الأشراف بالمملكة من علويين وأدارسة وغيرهم، بمقتضى ظهائر مولوية شريفة". وهذا النقاش لا ينهي المسألة بل يعمقها ويطالب بمحاربة الشرفاء المزيفين فقط بدلاً من منع الجميع من حمل البطاقة.
هذا عن حرص السلطة على الالتزام بقواعد تحقيق النسب الشريف في 1984. لكن الأمر أقدم. يوجد أشخاص يحملون مراسيم ملكية تؤكد نسبهم الشريف منذ قرون. يقول المستشرق الأسباني ليفي بروفنصال "يعتبر المغرب بلد الأولياء والشرفاء، حتى أننا لن نعثر في باقي العالم الإسلامي على هذا العدد منهم، وهم يمثلون جزءاً مهماً من برجوازية المدن ووجهاء البوادي". ويوضح بروفنصال في كتابه "مؤرخو الشرفاء" بأن الأعمال التاريخية لا تقدم فائدة كبيرة لإتمام معرفتنا بالتاريخ الحديث للمغرب، بينما تقدم سير هؤلاء الشرفاء معلومات كثيرة عن النخبة الثقافية. والشرفاء في المغرب هم المنحدرون من سلالة آل البيت. وهم نخبة رفيعة ومؤثرة. وتعطي هذه الواقعة التاريخية صورة عن أهمية النسب.
كل الأسر المالكة في المغرب تنسب نفسها للرسول. كانت هناك الأسرة السعدية التي تنحدر من سلالة السعدية مرضعة الرسول. والآن تحكم المغرب الأسرة العلوية. يتساءل بروفنصال إن كان هذا الإصرار على الأصل النبوي راجع إلى البعد عن موطن ظهور الإسلام.
يحكي المؤرخ عبد الواحد المراكشي في كتابه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" أن القائد عبد المومن بن علي (توفى سنة 1163 ميلادية) وهو مؤسس الدولة الموحدية التي حكمت من موريتانيا حتى غرناطة وليبيا - كان يتشبه بالرسول "فزادت فتنة القوم به وأظهروا له شدة الطاعة".
إن التاريخ الديني مدخل أساسي لتحليل وفهم تاريخ الدولة في المغرب. فلهذا التاريخ دور حاسم في تشكيل البنية الذهنية للإنسان المغربي. وهي تمتد في الدولة والمجتمع، ويمكن نقل خلاصات تحليل المجال الديني إلى المجال السياسي.
يحكي المؤرخ الوفراني في كتابة "نزهة الحادي في أخبار القرن الحادي" أن أحد المؤرخين حرر شجرة نسب تثبت انحدار الاسرة المرينية المالكة من الرسول وقدمها للسلطان. ويضيف المؤرخ "إن السلطان أبا الحسن المريني (توفى 1351ميلادية) رفض الشجرة ورد على مقدمها شاكراً له صنيعه وقائلا له، إن كانت هذه الشجرة صحيحة فنتمنى من الله الجزاء في الآخرة، ولكن إذا كان غير مؤكد فنحن لا نريد تحمل وزر ذلك". وقد كان المرينيون أول عائلة حاكمة تحتفل بالمولد النبوي بالمغرب.
سألت صديقاً - شريفاً بالولادة ويسارياً بالتكوين - عن واقعة السلطان المريني فقال بأن الملك المؤسس بحاجة الى النسب النبوي بعكس الملك المتمكن. فالتأسيس يحتاج للنسب، والقبيلة. المرينيون كانت لديهم القبيلة فاختلقوا النسب.
إذا كان هذا حال الملوك فكيف يكون حال الناس العاديين؟ إن قرار الحكومة بالمنع نصف خطوة. وهي رفضت منع تسجيل المواليد مع صفة سيدي أو مولاي. لهذا ستستمر بطاقات الشرف لأنها ليست موجة ظرفية بل ممارسة اجتماعية راسخة. لذلك يتقزم الجدل ليس لنفي الامتياز بل للتمييز بين الشرفاء الحقيقيين والشرفاء المزيفين. أكد ملاحظ مدقق أن الشرفاء الحقيقيين موجودون لكنهم لا يتباهون، والمزيفون يتمددون. كيف نميز بين النوعين؟ وعلامَ؟
اقترح معلق ساخر فرز الدم العادي من الدم المقدس باعتماد تحاليل دي إن إيه DNA لمعرفة من ينحدر فعلاً من آل البيت بأخذ عينة من رفاتهم.