"قتال داعش حرام". هذا ما أعلنه الداعية والعالِم والفقيه أحمد الريسوني، وهو أيضا مؤسس جمعية دعوية ولدت حزبا يرأس الحكومة الحالية في المغرب. كيف نرد على الفتوى؟ بالتحليل والتحريم؟ هذه مهمة الفقه وليست مهمة السوسيولوجيا، مهمة هذه أعقد. فكيف نصف ونفسر الظاهرة؟
هدف فتوى التّحريم هو النهي عن منكر. يقول عبد الله العروي "إن النهي عن المنكر يخفي نقدا لصاحب الأمر"، أي الحاكم الذي قصّر في مهمته فوجب على الفقيه تنبيهه. هكذا يظهر البعد السياسي للفتوى. يقول الشيخ الريسوني "إن الحرب القائمة ضد داعش حرام في حرام، وليست حربا من الإسلام والمسلمين في شيء. بل الإسلام والمسلمون هم ضحايا لهذه الحرب ولطرفيها معا. والمغاربة المشاركون في هذه الحرب يقاتلون لأجل الإمارات المتحدة، والإمارات تقاتل لأجل الولايات المتحدة، وهذه تقاتل لأجل إسرائيل، وإسرائيل تقاتل لأجل العدوان والشيطان". هذا عن الإمارات التي مولت الإخوان طويلا. لنر الجانب العسكري:
لمن سيصغي الطيارون المغاربة؟ هل لأوامر الملك القائد الأعلى للقوات المسلحة أم لفتوى العالِم المبجل؟ هذا سؤال ملح بالنسبة للربابنة المغاربة المنخرطون في التحالف الدولي، وهم يرون إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيا. وهو يثير سؤالا مسكوتا عنه: ماذا عن نفوذ الإسلاميين داخل الجيش المغربي؟
يستمد السؤال مشروعيته من طبيعة المخيال المغربي الذي لا يعطي إلا مما أُشْبع به ومنه. فقد تزامنت الفتوى مع انتشار أغنية ذات إيحاءات جنسية شديدة بعنوان "عطيني صاكي باغا نماكي". حققت الأغنية الهابطة عن حقيبة الماكياج الأحمر نجاحا منقطع النظير، والحجة هي يوتوب. ويثبت هذا النجاح أن الفنانة زينة الداودية تفهم ذوق الشعب أكثر من المثقفين. أغنية عن الماكياج وأثره في الرجال. اتُّهِمت المغنية بالدعوة للتبرج، والتبرج تحرش. بل واتهمت بنشر الانحلال.. وحين سئلت عن ذلك قالت أنها تتمنى أن تتوب وتكون نهايتها في مكة. كل مغربي، كالمغنية، مشبع بالدين ويقول إنه يحلم أن يموت ساجدا حتى حين يكون لا يصلي أصلا. وقد ردت عليها الشابة هند بأغنية محتشمة في الكثير من الأسود "عطيني حجابي باغا نكون مؤمنة أطبق الدين". ومؤخرا تاب الشاب خالد ليدخل الجنة قريبا.
تعكس هذه الأمنية ذهنية راسخة مشبعة بالفتاوى وتفرزها في كل محطة، في الأغاني كما في السياسة. ذهنية تشكلت في بيئة متشبعة بالدين تثمر فيها الفتاوى بسرعة. مع الأسف تتغير البنى الذهنية ببطء شديد جدا يتطلب عشرات وربما مئات السينين. بينما عندما تشكل التحالف الدولي لقصف داعش ظن المحللون السطحيون أن داعش عاصفة ثلجية تنتهي بعد ثلاثة أيام. في الحقيقة هي بنت ثمرة ذهنية متغلغلة في المجتمع.
صنعت الأغنية الحدث. وفرت المغنية للمختبئين من موجة البرد القارص الممتدة موضوعا للحديث. موضوع مشبع بالتناقضات يثير الخيال والمشاعر الإيروتيكية. بدت الأغنية والفتوى موضوعان خطيران جدا. بعد أيام قليلة خرجت الأغنية من صفحات الجرائد والتواصل الاجتماعي وبقي موضوع واحد هو إفتاء الأب الروحي لحركة التوحيد والإصلاح (وحزب العدالة والتنمية الحاكم) بأن الحرب ضد داعش حرام وأن مشاركة الجيش المغربي فيها حرام.
يتزايد الجدل عن الحرب في السياق القومي والديني. يبدو أن الأنظمة العربية ترى أن هزيمة داعش معناها سيطرة القوى الشيعية. يبدو أن الدواعش خوارج مفيدون في هذه المرحلة. هذا ما يطرحه موقف العلماء – الفقهاء السنة من داعش. وبعضهم جاهز ليكون وسيطا بين الجهاديين والدولة. ومعنى ذلك أن العلماء يقفون على المسافة نفسها بين داعش والجيش. يبدو أن ليس لدى العلماء موقف ديني بل خيار سياسي بين ما يعتبرونه الكوليرا والزكام. فبين الشيعة وداعش يختارون الزكام. توجد رائحة طائفية مقرفة في هذا التوصيف. والسبب أن هناك أوجه تشابه بين الطائفة والمافيا. فكلاهما يضع قانونا "لنا" وقانونا للآخرين البعيدين..
أحمد الريسوني هو أيضا نائب يوسف القرضاوي في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. ترك العالم منصبه القيادي في حركة التوحيد مضطرا. تركه ليسهل على حزبه التعامل مع السلطة. سكن الريسوني طويلا في الخليج لكن رياح الربيع العربي/الامازيغي رحّلته بعد تدهور العلاقة بين جماعة الإخوان وتلك الدول. فقد الريسوني حظوته وموارده في السعودية وقطر وصار متفرغا للواقع المغربي. غيّر موقعه ولم يغير موقفه. وهو زعامة مقبولة كثيرا في عصر نهاية الخمول السياسي للمتدينين، يعبر عن موقفه بوضوح لا يطيقه أشباهه.
كتب المعلق المغربي رشيد الحاحي "حرامات أحمد الريسوني تأييد مُبطن لداعش". رغم تأييد الريسوني لداعش فلم يحرك وزير العدل الإخواني مصطفى الرميد المتابعة في حقه كما فعل مع أشخاص أقل شأنا. فقد جرت متابعة أشخاص عبروا عن موقف مؤيد لداعش على فايسبوك. بل وتابع القضاء تلميذا كتب اسم داعش بدمه على جدار ثانويته.
لماذا لم يتابع الوزير المريد شيخه الروحي؟ في حركته "التوحيد والإصلاح" يتجاهلون مواقف الشيخ. نادرا ما يردون عليه، تقديرا له. هو غالبا يقول ما لا يجرؤون على التصريح به. يدفنون رأسهم في الرمل. الصمت علامة الرضى. لذا فأحمد الريسوني بخير. لم يقلق وزير العدل راحة والده الروحي الذي يساند الإرهاب بشكل ملتو. بينما الوزير مهدد في سلامته البدنية. فقد اتهمته جماعة التوحيد والجهاد في المغرب الأقصى "بالكفر والزندقة" ووضعت اسمه على رأس لائحة من تسعى لتصفيتهم. هكذا صار تلميذ العالِم مهددا. والدولة تحميه.
وهكذا تستمر داعش في فرض نفسها في الأجندة الوطنية. فبينما يخفي العلماء في موقفهم الملتبس من الإرهاب المسمى جهادا تبني الدولة سياستها. تصاعدت المتابعات القضائية في الإرهاب بنسبة 130 في المئة في 2014. توجد منطقة لتجمع الإرهابيين على مواقع التواصل الاجتماعي. ولمتابعتها، صادق البرلمان المغربي على مشروع قانون لتجريم الدعاية للإرهاب والتحريض عليه وتلقي تدريبات داخل أو خارج المغرب أو الالتحاق بجماعات إرهابية. وتم تشديد العقوبة لتصل حتى عشرين سنة على المدرّسين الذين يروجون لتنظيمات أو يجندون مقاتلين لصالح تنظيمات إرهابية بالخارج. فسمعة المغرب سيئة في هذا الباب، فقد ذكرت الصحف أن 473 أوروبي من أصل مغربي يقاتلون في داعش، وأن حوالي 500 آخرين مرشحون للالتحاق بالدولة الإسلامية. للحد من السفر يجري سحب جوازات المرشحين للرحيل للجهاد.. هكذا تتخذ الدولة احتياطات استباقية أمنيا وإعلاميا وتنفي وجود معسكر لتدريب مقاتلين في شمال المغرب. في مراكش دعا المشاركون في الدورة السادسة "لـمنتدى مراكش للأمن" إلى ضرورة "اعتماد مقاربة شمولية ترتكز على تقاسم التحديات الأمنية، وعدم الاكتفاء بالمقاربة الأمنية في التصدي للتهديدات الإرهابية..." هذه المواعظ تصدر عن صالونات الفنادق المراكشية الفخمة، أما على الأرض فالمقاربة الأمنية هي الأساس. وهذا يلقي بضغط هائل على البوليس والدرك، وقد زادت حالات الانتحار في صفوفهم.