كيف نتعامل مع موت الآخر الذي نراه مختلفاً وغريباً، ومرفوضاً في بعض الحالات؟ هل لا تزال فرنسا قادرة على مرافقة هؤلاء الذين يعيشون على أراضيها أو يعبرون فوقها في الوقت الذي يتقوقع فيه الجميع، كلٌ على هويته، وفي الوقت الذي يرمي فيه كل واحد بالآخر الی أبعد ما يمكن؟ كيف عسانا أن نكرمهم، وهل نحرم هؤلاء المفقودين من بعض الكرامة حتى بعد موتهم؟
على مدی الحدود الشرقية لفرنسا، من ستراسبورغ إلى الساحل الآزوردي، ندرك أن التجارب تختلف، ربما ايضا بسبب اختلاف القصص والازمنة.
1- ستراسبورغ
أنشئت أول مقبرة عامة للمسلمين في فرنسا في ستراسبورغ سنة 2012. اريدت هذه المقبرة لإثبات أن المجال دائما مفتوح لدين عتبر جديداً. الطقس على ما يرام اليوم وقد تم جز العشب للتو. المقبرة مرحبة بالزائرين، "مرحبة"، على الرغم مما يتسم به هذا الوصف من غرابة. لكنها مرحبة إلی درجة تجعلنا نظن أن الموتى فيها بخير أيضاً.
افتتحت هذه المقبرة، وهي الأولى والوحيدة في فرنسا، في جنوب مدينة ستراسبورغ خلال شهرشباط / فبراير 2012. أن تكون مسلما في فرنسا لم يعد يعني شيئاً بالمرة اليوم، فالجميع أجانب.
في وقت ما، منذ زمن بعيد نسبياً، كانت فرنسا تجلب يدها العاملة من جنوب البحر الأبيض المتوسط لتستغلها حتى النخاع، وكانت تعتبر أن عليهم فيما بعد العودة من حيث أتوا.
انهارت خرافة العودة، وانتهى المطاف بهؤلاء العمال المغاربيين (الذين كانوا أول من أتى وانضم إليهم فيما بعد عمال أفارقة من منطقة جنوب الصحراء) بالاستقرار تدريجيا وبشكل دائم في فرنسا، إما فرادى أو مع أسرهم، فهم أسسوا حياتهم هنا، وفرنسا صارت الآن موطنهم.
الموت في أرض تطبق نظام الكونكوردا
"أيّ شيء يضاهي الانتماء إلى وطن أكثر من الرغبة في أن تكون جزءا من هذه الارض؟"، تساءل مصطفى الحمداني، الناشط في المجتمع المدني الذي خاض في وقت ما في الشأن السياسي وشارك سنة 1985 في تأسيس "جمعية العمال المغاربيين بفرنسا"، ثم في سنة 2008 "تنسيقية الهجرة المغاربية بالألزاس" والتي ما يزال يديرها ويترأسها الی اليوم.
ساعده انخراطه في العمل الاجتماعي التطوعي في الغوص في عالم المهاجرين المتقاعدين الذين يسعون للحصول على حقوقهم الاجتماعية. وساعده، مع مرور الوقت، على بناء نوع من الصداقة مع هؤلاء المسنين الذين تقاسموا معه مسراتهم وأوجاعهم. هو يتذكر جيداً يوم الافتتاح الرسمي للمقبرة: "كان عامل مسن ينظر حوله ويتساءل عن سبب حضور رئيس البلدية وأمين الشرطة وكل هؤلاء المسؤولين، فشرحت له أن هذا الاحتفال على قدر من الأهمية وأنه حدث فريد من نوعه، فبدأ بالبكاء ثم قال لي إنها المرة الاولى التي أحس فيها انني انتمي حقا الى ارض الألزاس". كان هذا الحدث بالنسبة إليه اعترافا له ولعائلته بما قدمه لهذا المكان.
ما يفسره الرجل المسن حسب السيد حمداني هو ان هناك معركة كُسِبت بطريقة ما، و أن مشاعر الاعتراف اختلطت بالشعور بالكرامة. ويضيف: ربما لم نتمتع بكامل كرامتنا خلال حياتنا لكن حتما سنموت بكرامة. ويضيف انها المرة الوحيدة التي تشعر فيها أن خرافة "العودة" الى بلدانهم الاصلية والتي لم تتركهم أبداً قد تبخرت.
مصطفى الحمداني حاضر بشدة في حياة هؤلاء المسنين ويتابع عن كثب مشاريع كل فرد فيهم ويعرف جيدا قصصهم و أحلامهم كما انه على اطلاع على مدى تقدم اشغال بناء البيت الذي يقدم عليه كل فرد منهم في موطنه، ولا يتوانى عن ممازحتهم لمعرفة من يود البقاء في فرنسا ومن يود العودة إلى وطنه الأصلي، وغالباً ما تكون الإجابة نفسها: فرنسا هي البلد المختار.
في وقت ما، منذ زمن بعيد نسبياً، كانت فرنسا تجلب يدها العاملة من جنوب البحر الأبيض المتوسط لتستغلها حتى النخاع، وكانت تعتبر أن عليهم فيما بعد العودة من حيث أتوا.
وعندما يذهب إلى أبعد من ذلك ويسألهم عن مكان الدفن المتوخى، يصل الرد بطريقة متواضعة ومخفية: عائلتي هي التي تقرر أين أدفن، هنا أو في البلاد.
وعلى الرغم من أن مقابر المدينة لم تخلُ من خمسة مربعات مخصصة للمسلمين، فقد مثل افتتاح هذه المقبرة رمزاً قوياً.
توضح السيدة بينيديكت باور، المسؤولة عن قسم خدمات الجنائز بمدينة ستراسبورغ، أصول نشأة المشروع: في البداية كانت هناك خطة لتوسيع المقبرة الجنوبية، ولكن جاءت مع الانتخابات التزامات سياسية لصالح المسلمين الذين سبق وأن أعربوا عن احتياجاتهم، وسريعاً تبلورت فكرة تكريس فضاء جديد وواسع مخصص لدفن المنتمين إلى الديانة الإسلامية. وتستطرد السيدة أنه صار افتتاح هذه المقبرة ممكناً في بلد الغي فيه الطابع الديني للمقابر منذ أكثر من 130 عاما بفضل نظام الكونكوردا، وتوضح: "لم يلغِ نظام الكونكوردا الفصل بين الكنيسة والدولة، وبالتالي فهو مكّن من تقسيم المساحات حسب الانتماءات الدينية. وعلی الرغم من أن الديانة الإسلامية لم تذكر في عهد الكونكوردا، فقد أمكن التركيز على عامل التشابه، وبالقياس على العلاقة الاستثنائية الني تحافظ عليها منطقة الألزاس مع الدين.
بالاضافة الی هذا، كان هناك اشتغال على التنسيق بين مختلف المجتمعات المسلمة في المنطقة فضلاً عن العمل على التعرف على الطقوس الجنائزية للمسلمين، الأمر الذي كان ضرورياً حتى يتسنى لهذا المكان أن يفتح أبوابه.
الكراسي المتنقلة
يقول السيد رينو كينتز، مدير المقبرة الاسلامية: إنها مكان مليء بالحياة، تأتي العائلات وتقضي وقتها هنا ،حتى انهم يتركون كراسيهم تتنقل من قبر إلى آخر بحسب الزيارات. يوم الجمعة يأتي الناس بأعداد كبيرة، يصلون ويتناقشون ويلتقون.. إنها مليئة بالحياة.
ويتحدث السيد كينتز أيضاً عن تطور الطقوس. نزهة صغيرة بين القبور كافية لنلاحظ هذا. فالقبور في الأصل عبارة عن تلة صغيرة تغرس فوقها خشبة تحمل اسم الفقيد وتتفكك وتتلف مع الوقت. أما اليوم فتقوم العائلات أكثر فأكثر بجلب عمال الرخام الذين ابتكروا نُصبا تذكارية متناسبة. ويضيف انهم يقترحون اكثر فاكثر نماذج جمالية مستقاة من الشرق كالاقمار المحفورة في الرخام مثلاً.
في المستشفى
هناك اهتمام أكبر بمراسم الدفن ، كما يشهد السيد محمد لاتاهي، رجل الدين المسلم المعيّن في المستشفيات الجامعية لستراسبورغ. ويسعى العمال المهاجرون وعائلاتهم اكثر فاكثر إى أن يتم دفنهم بستراسبورغ. يهتم الشيخ بالاشخاص الذين يشارفون على الرحيل، و يعمل ايضاً على مرافقتهم في مساكنهم. كان المرضی في السابق يقولون لو وجدت مقبرة هنا لكنّا دفنا فيها، وهكذا ومنذ افتتاحها، أصبح الكثير من الاشخاص يفضلون أن يتم دفنهم هنا لأن ابنائهم يعيشون في المكان، وهذا القرب يسمح بالحفاظ على صلة مع فقيدهم.
الرغبة في العودة للمواراة إلى الوطن، التي كانت مرسومة علی وجوه المهاجرين، لم يعد لها وجود بحسب السيد ايريك سشولز مساعد رئيس بلدية مدينة ستراسبورغ، بل هو يؤكد أن العائلات استقرت هنا مثلها مثل الجميع، واصبحت لديها عادات متأصلة ومتجذرة. والطريقة التي كان معمولاً بها قبل سنوات، والمتمثلة بإعادة الموتى إلى أوطانهم ودفنهم هناك، اصبحت خياراً قليل الممارسة.
"إن عشت على هذه الأرض وعملت هنا ورأيت اولادك يولدون ويكبرون فيها، فمن الطبيعي ان يصبح لديك الحق بأن تدفن هنا. من الضروري إذاً اتخاذ الترتيبات اللازمة لمنح الجميع الحق في إكرام موتاهم بأحسن الشروط.. هذه المقبرة هي وسيلة من بين عدة وسائل أخرى لتحقيق مساع المساواة الدائمة" ويستدرك: "علاوة على التمييز العنصري الذي من الممكن أن يكون قد تعرض إليه بعض الناس في حياتهم، فليس من المسموح أن يتعرضوا الى التمييز حتى بعد موتهم وخلال راحتهم الابدية".
بما يتجاوز الاندماج
يفسر السيد إيريك سشولز: لا يوجد موت من الدرجة الاولى وموت من الدرجة الثانية. يجب ان نعامل الجميع على قدرٍ من المساواة. بالنسبة اليه، تتجاوز مسألة المقبرة الاسلامية إشكالية الاندماج: "نعتبر أنفسنا شموليين. دورنا أن يحس الجميع بأن هذه الجمهورية هي وطنهم في الحياة كما في الموت، وأن يتمكن الجميع خلال جميع مراحل حياتهم من إيجاد مكانهم كأي مواطن داخل الجمهورية ومؤسساتها".
في الأخير تبين انه من الممكن ان يكون هناك مكان للجميع في ستراسبورغ، والاعتراف بأن هذه الشريحة من المجتمع التي لطالما ظلت مرفوضة لمدة طويلة، والتي كنا دائما ننتظر منها ان تعود من حيث أتت، تنتمي إلى المجموعة الوطنية دون الاضطرار لإيجاد وطن جديد لهم.
2- ساحل الكوت دازور
يختلف الوضع تماماً في جنوب فرنسا. تمر جنازات المهاجرين الذين يرغبون في المرور من ايطاليا الى فرنسا في صمت. هنا، يعبر من كان من السكان متعاطفاً مع هؤلاء المهاجرين عن قلقهم إزاء هذا الوضع.
الموت صعب التقبل بل و يمكن أن يكون محرجاً للبعض في الأشهر الأخيرة أكثر من عشرة مهاجرين لاقوا حتفهم على طول الحدود الإيطالية الفرنسية باتخاذهم مسالك خطيرة في محاولة العبور. الناشطون المتواجدون على عين المكان لا يعرفون مٱل الجثث.
أعيد جثمان ميلات الى موطنها الاصلي إثر حملة جُمعت فيها الأموال اللازمة لذلك. لكن كم هو عدد الأشخاص المفقودين الذين لا نعرف عنهم شيئاً، أو نعلم القليل، والذين لم تُنطق في حقهم كلمة واحدة؟
الكثيرون لا يعرفون من الكوت دازور غير انه البحر والطقس الجميل ومكان يتردد إليه المشاهير وحياة الرفاهية.. لكن الموت لا يظهر في هذه الصورة الجميلة، وساحل الكوت دازور أيضاً منطقة فيها درجة عالية من العنصرية متجسدة باليمين المهيمن.
في تشرين الاول/ اكتوبر 2016اكتسحت قصة إخبارية الصفحات الأولى للصحف. فتاة في السابعة عشر من عمرها تفقد حياتها دهساً بشاحنة بينما هي تحاول العبور إلى فرنسا سيراً على الاقدام. ميلات فتاة من اريتريا كان من الممكن أن تبدأ حياة جديدة بعد أن عبرت كل تلك المسافة من اجل ذلك.
اقيمت لميلات جنازة في مدينة فينتيميليا الحدودية بإيطاليا بحضور أخواتها وأخيها في كنيسة القديس انطونيو. عتذر دون ريتو كاهن الكنيسة لميلات: "نحن نطلب منك الغفران، لأننا كمواطنين بسطاء وكمسيحيين كان يجب أن نكون أكثر تصميماً وأن نتوسط مع ذوي السلطة ــ وما أنتِ الا ضحية أخرى من ضحاياهم ــ من اجل ان يولوا اهتماما أكبر بالحياة البشرية، وبالفقراء، وبالسلام، وبالعدالة العالمية، وليس فقط بالمصالح الاقتصادية ورفاهية القلة". كانت كلمات عظة أسقف المدينة مؤثرة وقوية. ميلات هي ضحية حدودنا الشرعية وغير العادلة، حدودنا التي تُغلق بلا هوادة في وجه المستغيثين. وميلات هي أيضاً ضحية نفاقنا.
أعيد جثمان ميلات الى موطنها الاصلي إثر حملة جمعت فيها الأموال اللازمة لذلك. لكن كم هو عدد الأشخاص المفقودين الذين لا نعرف عنهم شيئاً، أو نعلم القليل، والذين لم تنطق في حقهم كلمة واحدة؟
تعداد الموتى
في محاولة لحصر عدد المفقودين، قامت جمعيات باحتساب ميداني للموتى لتكتشف أنه بين خريف 2016 و صيف 2017 فقد اثنا عشر شخصاً حياتهم في تلك النقطة، بالإضافة إلى ميلات:
خلال شهر أيلول/ سبتمبر 2016 فقد شاب حياته اثر سقوطه من جسر في الاراضي الفرنسية اثناء محاولته الهروب من الشرطة،
تشرين الاول/ كتوبر، شاب آخر يفقد حياته بعد أن دهسته سيارة على الطريق 81،
تشرين الثاني / نوفمبر شاب في الثالثة والعشرين يغرق في نهر الرويا..
قبل أعياد الميلاد فقد جزائري حياته هذه المرة بد أن صدمه قطار في الجانب الايطالي، غير بعيد عن الحدود الفرنسية،
ثم في شهر كانون الثاني / يناير 2017 حدث السيناريو نفسه، ولكن كانا هذه المرة شابين صدما بدراجة نارية وقطار،
في شباط /فبراير عثر على شاب ميت فوق سطح محطة القطار، إثر تعرضه لصعقة كهربائية،
خلال شهر آذار / مارس توفي شاب إثر انزلاقه في منحدر جبلي يربط بين فرنسا وايطاليا،
وبعد عدة أيام على هذه الواقعة، ألقى شاب في الخامسة والثلاثين بنفسه الى الفراغ في النقطة الحدودية،
وبين شهري أيار / مايو وآب/اغسطس مات ثلاثة رجال بصعقة كهربائية داخل مقصورات الصيانة التقنية للقطارات الرابطة بين فرنسا وايطاليا..
تيريزا مافيسال وهي ناشطة في مجال حقوق الإنسان ورئيسة "الجمعية من اجل الديمقراطية" في نيس وهي تتحرك لإغاثة المهاجرين في منطقة الالب البحرية بين فرنسا وايطاليا تخشى أن يضاف لهذا العدد مفقودون آخرون مجهولون سوف تُكتشف جثثهم الواحد تلو الاخر.
ها قد سقطوا وماتوا ولم يعودوا موجودين
تتذكر السيدة تيريزا بتأثر كلمات الاسقف خلال تأبين الشابة ميلات وتقول أن موتها المأساوي يذكرها بوضع المهاجرين الذين تلتقي بهم بانتظام، وهي ترفض فكرة إخفاء موتهم.
"كل هذا العدد من الاشخاص يموتون يومياً ولا نقرأ عنهم سوى معلومات قليلة في الصحف، حتى أنهم لا يكتبون اسماءهم مما يعطينا الانطباع باًنهم غير موجودين. لا وجود لجثة ولا لمعلومات ولا نعلم ما الذي حصل لهم فيما بعد، وهذا الشيء يحيرني: كيف تسمح لنفسك أن تكتفي بالصمت والاّ تقوم بتأبينهم. هل يعلم اباءهم برحيلهم، وما هو مصير جثامينهم خاصة اننا نجهل حتى اسمائهم. لقد أصبحت مهووسة بهذا".
تضامن
لا الصيف ولا ارتفاع درجة الحرارة تمكنا من التغلب على نشاط تيرزا، فهي تواصل التنقل من فرنسا إلى إيطاليا للمساعدة. هذا الصباح اخذت القطار مبكراً لإيصال كمية من الملابس تبرع بها زوجان سويديان يعيشان على ضفاف وادي رويا.
تفسر الزوجة بتاثر: "نحن لم نصدق ان الوضع سيء لهذه الدرجة حتى رأينا باعيننا"، وتعني بذلك أنها عندما بدأت بالاهتمام بالمهاجرين فهمت حقيقة الأشياء.
هنا، وعلی الرغم من أن مكان توزيع الملابس قد فتح ابوابه للتو، فقد تشكّل صف انتظار في فناء مبنى الجمعية. يدخلون في مجموعات صغيرة الی الباحة ليحصلوا على فطور الصباح المكون من القهوة والخبز المحشو والغلال، ويحصل البعض علی الملابس.
يوجد قرابة العشرين متطوعاً منهمكون بتقديم الارشادات وتحضير الطعام في المطبخ.
مبنى "كاريتاس" واحداً من مراكز الاستقبال في مدينة فينتيميلا الإيطالية. نجد على الحائط قائمة مفصلة باللغات العربية والفرنسية و الانكليزية والامهرية (لغة شائعة في اثيوبيا وارتريا) لجميع الاماكن التي يستطيع ٰأن يحصل فيها المهاجرون علي المساعدة في هذا الجانب من الحدود.
تعمل تيريزا على وضع روابط بين العمل التطوعي في فرنسا وايطاليا، لمحاولة التنسيق بين الحملات والتشارك في المعلومات وخلق نوع من الاستمرارية بين ما يفعله المواطنون على الجهتين من الحدود.
وتقول تيريزا: "لقد توقف المهاجرون المتواجدون هنا عن مسار رحلتهم، لكنهم لا يريدون البقاء في إيطاليا. أنهم مقيدون أمام هذه الحدود التي يريدون عبورها للاستقرار في أماكن أخرى و للبحث عن أقاربهم أو أصدقائهم". إلا أن الملاحقة الشديدة من قبل قوات النظام لهؤلاء المهاجرين تجعل العبور محفوفاً بالمخاط، وتتسبب حتى بموتهم. وفي حين يحاول البعض العبور بالقطار أو بالسير على شبكة الطرق أو باتباع السكك الحديدية، يغامر البعض الآخر باستخدام الطرق الجبلية.
خطوة الموت
الكاتب والمؤرخ انزو بارنابا على علم بجميع قصص المنطقة، وقصص قريته المطلة على البحر من جهة الحدود الايطالية. هو شاهد على حقيقة هذه المنطقة، وعين تؤرخ مسار خطوة الموت. بينما شبكة الطرق الجبلية سمحت منذ زمن بعيد لمن احتاجوا بالعبور من بلد لآخر بحثاً عن ملجأ.
يروي انزو قصص الايطاليين، الاشتراكيين والأناركيين (الفوضويون) الباحثين عن اللجوء والعمل في فرنسا، وقصص الاشخاص الذين تعرضوا الى الاضطهاد.. لقد مر على هذا الوادي عدد لا بأس به من الأشخاص يجرون معهم قصصهم وحياتهم.
واليوم، لا تزال هذه الطرق مطموغة ببصمة هذا التاريخ، والآثار واضحة: ملابس مرمية هنا وهناك ومنتجات مخصصة للاستعمال الاولي تمّ التخلي عنها. هي حياة سمتها الهروب وهي حاضرة جداً هنا.
تطغى على الجو رويداً فكرة أن هناك مطاردة ما تحدث. يضفي التنزه بين الأشجار التي ينبعث منها غناء الصراصير نوعا من القتامة على الاجواء، خاصة عندما تلاحظ في اأاسفل لافتة معلقة على أحد جسور الطريق السريع، نقشت عليها كلمة "فرنسا" بحروف بيضاء على خلفية زرقاء تحيط بها دائرة من النجوم الصفراء.. تنهار نجوم أوروبا التي تمثّل وحدة المثل العليا عندما يتعلق الامر بالحدود.
يد من رصاص.. صرامة بلا رحمة
مثل تيريزا مافيس وإنزو بارنابا، هناك أوريلي سيلفي، وهو صحافي من نيس يبحث عما يحدث لجثث المهاجرين المتوفين. تعمل تيريزا وأوريلي على كتاب يستعرض عامين من "أزمة الهجرة" في المنطقة. ولكن وحين باشرت تيريزا في السؤال عن مصير المتوفين لم تتلقى الشابة أي رد من السلطات. "هناك صرامة زائدة في التعامل مع هذه القضية، لا نتلقى رداً لا من المحافظة ولامن مكتب المدعي العام، يعتدون بالسرية الطبية، ويقولون لنا أنها مسألة شخصية.. وهذا أمر مقلق للغاية، لأن الناس يموتون بشكل قاس ولا يمكننا أن نفعل أي شيء".
بنظر أوريلي سيلفي، يحمل هذا التعاطي جانباً فلسفياً وسياسياً هاماً: "إننا نواجه أزمة تختبر إنسانيتنا". وفيما نتساءل عن مصير جثث هؤلاء الضحايا لا ندري إن كان هناك من يتبين هوياتهم، خاصة وأننا نعلم أن بعض المهاجرين ليست لديهم وثيقة هوية، أو أنهم يلقونها في البحر أو يحرقونها، وآخرون يمحون بصماتهم حتى لا يتم التعرف عليهم".
صمت السلطات وغياب الاهتمام يبعثان على القلق: " الغياب الصارخ لاي عمل يمكِّن من استعادة كرامة هؤلاء الناس هو برهان على العبثية". وعلى غرار تيريزا ، تلاحظ هي أيضاً أن التغطية الإعلامية ظلت دائما عند أدنى مستوى ممكن عندما يتعلق الأمر بوفيات المهاجرين. "خلال شهر أيار / مايو الماضي وأثناء مهرجان ينظم هنا، كان إنسان يموت مصعوقا بالكهرباء على بعد خطوتين من قصر المهرجانات. تقتصر وسائل الإعلام على بث خبر قصير وجاف لا يدعو حتى إلى التعاطف معهم"وينتهي الامر غالباً ب ".. أرجعنا الجثة". فبالإضافة إلى رفض المهاجرين العابرين وإعادتهم إلى الحدود باستخدام أساليب "شبه قانونية"، كما أشار تقرير صدر مؤخراً عن منظمة العفو الدولية، هناك حالياً إرادة سياسية تدعو لتمرير الموتى ضحايا الحدود الفرنسية تحت ستار من الصمت واللامبالاة.
تتساءل تيريزا عن مسؤولية السلطات، "هناك تاريخ من الرفض. لأننا لا نريد المهاجرين، لكننا أيضاً لا نريد ان نقول أن هذا المهاجر أراد أن يكون هنا وتوفي في بلدنا الذي لم يكن يريده ". ما الذي يمكن أن تقوله السلطات؟ لست أظن أن أحدا سيقدر على التحدث عن هذا. كيف يمكن للمحافظ أن يعلن عن وفاة مهاجر اثر سقوطه من فوق جسر أو في حادث مروري وهو يحاول الدخول إلى فرنسا؟ بدلاً من ذلك، يقولون لنا: "لقد أعدنا الجثة إلى موطنها الأصلي، هناك من مر من هنا. فقط."
ملاحظة: تم إعداد هذا التقرير بفضل دعم مركز "أوبن ميديا"