إعداد وتحرير: صباح جلّول
"مكررٌ أن نخبركم بأن أهلنا غرقوا مجدداً واقتلعت الرياح العاتية خيامهم، فقدت حكايتنا شغف الصدمة ولذة الحماسة ورقّة التأثير، لكنه وجعنا اليومي، ليس لنا إلا أن نحكيه". تقرأ هذه الجملة على صفحة الصحافي يوسف فارس على فيسبوك من غزة. تغيب عنها علامات التعجّب والتساؤل وعبارات التهويل والصدمة، على الرغم من هول ما يحدث وفجائعه. إنه تعبٌ عميق يستقرّ في نفوس مَن يعانون أفظع الظروف وإبادات ذات أشكال متنوعة منذ ما يزيد عن عامين. تعبٌ يجبر المرءَ على التعبير عن الفظائع بلغة إخبارية، تبرئة للذمة وإقامةً للحجّة على بني البشر جميعاً: "إنه وجعنا. تفرجوا أو لا تتفرجوا. لقد حكيناه وانتهينا"...
شتاء غزّة.. حينَ نستجدي الخيمة!
19-11-2025
تكتب صديقة "مش قادرة أتفرج على الخيم تُقتَلع. أهلي في خيمة. هذا قلبي يُقتَلَع". ولا يجد مَن يقلّب في صور ومقاطع فيديو على وسائل التواصل ما يمكن أن يقوله لتخفيف الوجع. من الأفضل عدم قول أي شيء. من الأجدى أن لا يطيل المرء النظر في وجوه المعذَّبين الذين يصارعون الريح والسيل والأمطار بلا أمل في الإمساك بحبال اعتقدوا أنها جدار خيمة تقي من عوامل الطبيعة في عراء هذا العالم الوَحش. ومن الحِكمة الآن التوقف عن نظم كلامٍ أدبي في هذا المشهد المريع، والعودة إلى ما قاله يوسف فارس: "نخبركم بأن أهلنا في غزة غرقوا مجدداً".
وهذا بعضٌ من تفصيل هذا "الخبر" / الكارثة التي لم تنتهَ...
- عاجِل من وزارة الصحة في غزة: وفاة الرضيع محمد أبو الخير – وعمره أسبوعان فقط - بسبب البرد الشديد.
- "خرجت لأشتري بعض الحاجيات، وحين عدت وجدت بيتي قد انهار وأطفالي تحت الركام"، يقول محمد نصار، من حي الشيخ رضوان في غزة.
- "نصبتُ خيمة لي ولزوجتي وأولادي، ستة أنفار. نصبتها فوق دارنا المهدّمة. أمس نمنا وثيابنا مبللة وفرشنا مبللة والهواء والمطر نازلان علينا. نادانا أخي إلى داره المتهاوية، فذهبنا إليه، لنجد في منتصف الليل أنّ السقف ينهار علينا جميعاً. سحبت ابني من تحت الردم، حضنته وخرجنا إلى العراء"، يقول مواطن غزّي لكاميرا الجزيرة.
- إحصاء من الإعلام الحكومي بغزة، في السادس عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2025: 12 وفاة بسبب المنخفض الجوي، 11 منهم شهداء تحت أسقف منهارة، و72في المئة نسبة نقص الأدوات الطبية في القطاع.
- المكتب الإعلامي الحكومي: "تسبب المنخفض الجوي في انهيار 13 مبنى على الأقل من المباني المتضررة بالقصف من جراء حرب الإبادة الإسرائيلية، وغرق وانجراف أكثر من 27 ألف خيمة، وتضرر كلي أو جزئي لما يزيد على 53 ألفاً أخرى. أكثر من ربع مليون نازح يعيشون في ظروف تفتقر إلى أدنى مقومات الحماية".
- الأمم المتحدة: العام 2025 هو الأكثر فتكاً بالجوع في غزة منذ بدء الحصار.
وعلى شاكلة هذه الأخبار، هناك المزيد، والكثير الكثير مما لا يُرى ولا يُقال عن مجتمع كامل هُندِست أدق تفاصيل إبادته البطيئة، بحرمانه من المأوى والطعام والشراب السليم والاستشفاء والتعليم والدفء والأمان والعلاقات الطبيعية. هذا ما هندسه الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وهو مستمر لم ينقطع ليوم واحد منذ السابع من أكتوبر وبعد ما سمي زوراً "وقفَ إطلاقِ نار".


تنتظر شاحنات الحاجيات الأساسية والمساعدات ومواد الإيواء و300 ألف خيمة وبيت متنقل خارج حدود القطاع، يمنعها الاحتلال من الدخول ثمّ ينكِر ذلك. يستمر القصف الجوي والمدفعي على رفح وخان يونس وشرقي البريج خلال الأسبوع، ويستمر انتشار جنود الإبادة في مناطق من القطاع، ويتعامل الكوكب وكأن غزّة مسألة انتهت وحان وقت الانصراف إلى سواها، أو إلى الذات، أو إلى الأعياد التي أتت مواسمها من جديدٍ بلا تأخير. أعيادٌ تحبّ الشتاء لأنها تفترض أن كلّ الناس قادرون على إيجاد سقف وجدران تصنع مأوى دافئاً.. أعياد تقصي كل من هو في حالة ضيق وإفقار وحصار، وتملأ الدنيا ضجيجاً بألوان وأضواء لا تقيم اعتباراً لمن لا تطالها يداه في هذا العالم الموحش، الذي يفيض في هذا الوقت من كل عام وعوداً ببدايات جديدة.
"الشتا مش ليك"، تقول إحدى القصائد العامية للشاعر المصري هشام الجخ..
"شِتا إيه اللي بيتحَبّ فِ وسط الفقر ووسط صوابع إيد بردانة؟
المطرة عقارب بتقرّص في كعوب الناس الحفيانة
الشتا مش ليك
الشتا للناس الدفيانة
أما احنا الشتا بيجيبلنا هموم
حتجيب من فين حضن يدفيك وتجيب من فين للقلب هدوم؟"
عن الأمل والخرافة في واقع غزّة
04-12-2025
وكما الأعياد، يأتي الشتاء غير مبالٍ بشؤون البشر، كل عام. نرجوه أن ينسى أهل الخيام هذا العام فقط، لكن الطبيعة صمّاء، تتبع أنماطها وفقاً لنظامٍ كوني محايد. لا يبقى إلا أن نتغير نحن إذاً، البشر.
لم تنتهِ الإبادة في غزة، ونحن معنيّون بها: لا لإنهاء حالة الاحتجاج العالمي، ولا لسحب غزة من عناوين التداول، ولا للتوقف عن التبرعات والدعم بما أمكن، ولا للتوقف عن مقاومة البشاعة.
ليكن هذا وعد العام الجديد.



