الاحتفاء الكبير بأشياء بسيطة جداً، وتحويلها إلى "عمل عظيم"، يؤدي بشكلٍ ما، ومع الوقت، إلى تطبيع مع الواقع والمأساة، ويحوّلهما إلى "شيء مقبول"، يدفع العالم إلى التقليل من الضغوط المُطالِبة بالحقوق البسيطة للفلسطيني، من قبيل إعمار مدينته أو إدخال المُساعدات. يصلُ أحياناً الحديث إلى درجة عاطفيّة فجّة، تحوّل الصورة إلى شيءٍ آخر غير الذي نعرفه، فمنذ بدء الحرب الفظيعة، يعيش الناس في غزّة في واقعٍ لا يعرف عنهُ العالم إلا القليل، ولا يستطيع تخيّله.
بدأت المُفارقة حينما نشرَ البعض صوراً لأحد أقسام مستشفى الشفاء، الذي يظهر بأنه حديث وجميل. جرى تأهيل بعض تفاصيله الشكليّة، ودهانه وتجديد جدرانه الخارجية، مع بعض الإضاءة، وتحسين الأبواب والشبابيك، وهو ما نشر مرفقاً بعبارات "الأمل"، ولاقى تصفيقاً حاراً لهذه القدرة العجيبة على الخروج من الرماد، مستعيناً بعبارات الحمد والشُكر، التي نُشرت على نطاقٍ واسِع. فهذه هي غزّة بالنسبة إليهم، المدينة القوية التي تنتشلُ نفسها.
مشاهدٌ أخرى، مثلَ عودة التعليم في الجامعة الإسلامية، وهي عودة محدودة جداً في جامعة مُدمّرة ولم يبقَ من مبانيها إلا واحد أو اثنان، متضرّرة بالشظايا وبلا شبابيك. إلّا أن المشهد أُرفق بعباراتٍ صادمة، تتحدّث عن "عودة الحياة إلى طبيعتها" في غزّة، مؤكداً استمرار الناس في الصمود.
غزّة.. أكلها الذئب
25-10-2025
العديد من المطاعم في غزّة افتتحت أبوابها مؤخراً، وبموازاة ذلك يقوم أصحابها بتأهيل مساحة صغيرة من الشارع، بالإضاءة وبالتنظيف وإزالة بعضِ الرُّكام، قبلَ أن ينشرَ مشاهد عودته إلى العمل وإقبال الناس عليه، عبر صفحات "السوشيال ميديا"، وهو ما يجري تداوله بشكلٍ ما، في السياق السابق نفسه، "غزّة تنهض من الرُّكام".
بينما واقع غزّة إلى حالة الانهيار الشامل في المنظومة الحياتيّة، بدءاً من تدمير الحيّز المكاني بالكامل، لا كمجرّد جُدران بل بإنهاء الوجود البشري من أساسه في المكان، وهو ما هدفَ الاحتلال إلى تطبيقه في كلّ مراحل العدوان خلال عاميْن كامليْن، إذ يتعمّد إزالة أيّ أساس للوجود، من قبيل تدمير الصرف الصحي، الكهرباء، تخريب الطرقات وتجريفها. ولذلك تجد في بعض الشوارع حُفرةً كبيرة، تزيد عن 10 أمتار في قلب الأرض، وفي أحد أكثر المفارق شهرةً بالمدينة.
تداول صور مستشفى الشفاء مع عبارات تتحدّث عن "إعادة التأهيل وعودة العمل"، ينطوي على مغالطة كبيرة، ومحاولة غريبة وصادمة من البعض للترويج لشيء غير موجود، بل هو يصل إلى الإساءة إلى واقع الشعب الفلسطيني ومعاناته.
هل من مخرج لفلسطين من الإبادة نحو السيادة؟
28-07-2025
جرى ترميم قسم أو قسميْن من المستشفى، وهي أقسام في الأصل لم تُمسّ ولم تتعرّض إلّا لضرر قليل، مثل الأقسام الغربية وقسم الولادة، والترميم المذكور هنا بسيط جداً، وبالتالي ترويج صورة التأهيل بمعناها الواسع، تبدو غير معقولة. ففي الجهة الشمالية من المُستشفى، والمكان المركزي منه، يظهر ما تحوّل إلى "مدينة أشباح"، حيث جرى حرق وتدمير كلّ ما فيها من أقسام ومباني، هي الأكبر والأشهر، بما فيها أقسام الاستقبال والطوارئ، وأقسام العمليات والقلب، وهي الأكثر حاجةً في غزّة اليوم. أمّا ما تبقى من أقسام رُمّمت، فإنها لا تتسع إلا لعدد محدود وبسيط جداً من المرضى. الواقع كذلك في باقي مستشفيات غزّة، التي تفتقر إلى الكهرباء مع نقص الوقود، وتعيش دماراً واسعاً في مبانيها.
نحن نفقد كلّ يوم عدداً آخر من المرضى والجرحى. تُشير الإحصائيات إلى وفاة 900 مريض على الأقل، بسبب المعاناة الطبية ونقص الإمكانيات والمنع من السفر. كُلّهم ضحايا هذا الاستهداف المُمنهج للمنظومة الطبيّة.
كلّ ذلك يجعل من عملية إعادة الإعمار المطلوبة غزياً، لا مجرد إعادة للبناء، بقدر ما هي حاجة إلى إعادة تأسيس للوجود البشري، فقد انهارت الخدمات الحيوية بالكامل، بدءاً من المنظومتيْن الصحيّة والتعليمية، وحتى كلّ الجوانب الحياتيّة الأخرى: الاقتصاد والشركات، المصانع، الزراعة. حتى المهن والخدمات من مثل المواصلات، التي لم تعُد موجودة بشكلها الطبيعي.
أما "التأهيل" الذي نُريده للمستشفيات والمراكز الصحيّة، فهو بناء مشافٍ جديدة، ودعم الموجودة والقائمة بأبسط الإمكانيات، من أسرّة وأجهزة وموارد طبيّة أحرقها الاحتلال ودمّرها جنوده، وإدخال الأدوية بشكلٍ عاجل في ظلّ النقص الحاد فيها، وما يجعل الحصول على "حبة مُسكّن" للصداع، خطوةً صعبة.
شتاء غزّة.. حينَ نستجدي الخيمة!
19-11-2025
الرواية العاطفية لا تُفيدنا، ففي عصر "السوشيال ميديا" الذي تتحول فيه الكارثة إلى محتوى، تُصبح هذه المشاهد من أكبر عوامل جذب التفاعل، وهو ما يحوّل المنصات إلى "سوق لبيع الأمل"، يروّج صورة "البطل" الغزّي الذي يزيد الجمهور الخارجي في طلبه، يتفاعل معه، يصفّق، ويدعم هذه "القوّة الخارقة"، بينما يغرق المواطن مع المنخفضات الجويّة داخل خيمته، ويُعاني المرضى في مرافق صحيّة ضعيفة، جرى الترويج أنّها "إعادة تأهيل كبرى".
هذا فعندما ننشر عن تأهيل مستشفى، يظهر كأننا تعافينا، ويصوّر للعالم أننا لدينا من الإمكانيات المميزة ومواد البناء ما يُسهم في إعمار البلد.
علينا جميعاً مواجهة هذه الرواية التي، على الرغم من براءتها في كثير من الأحيان، إلا أنها كارثيّة، وفي أحيانٍ أُخرى تكون رواية موجّهة ومقصودة، لترويج صورة "الإنسان الخارق". يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي: "نحن بحاجة إلى تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة"، لذلك يجب أن تُدرك عقولنا الواقع وتفهمه على مأساويته، لا أن تنفصل عنه. علينا ألّا نُحوِّلَ الأمل المطلوب إلى مُخدّر.. والأمل إذا لم يرتبِط بالواقع، فإنه يبدو خُرافة.




