"سودان، يا غالي".. هتافات قطعها أزيز الرصاص

"ولقد صبرنا مثل أيوب، وواقعنا أمرّ. فالوضع في السودان مزرٍ، وحالنا يُبكي الحجر. لم يسمعوا صوت الحشود. أولم يروا دمّاً هُدر؟"... يكادُ من يشاهد ويسمع كلمات هؤلاء الثوار أن يسمع خفقَ قلوبهم في صدورهم مع كلّ كلمة. لكن بعد ستة أسابيع من اعتصامهم وعصيانهم، وفي أوائل حزيران/ يونيو 2019، أطلق العسكر النار على المتظاهرين للمرة الأولى، مرتكباً مجزرة هزّت كيان المتظاهرين، وإن لم تسكتهم"...
2025-12-04

شارك
لقطة من فيلم "سودان، يا غالي".
إعداد وتحرير: صباح جلّول

أربعة ناشطين سودانيين في مقتبل العمر، أحلامهم، حناجرهم، وشوارع مدينتهم. هذا ما يتبعه فيلم "سودان، يا غالي" (اسمه بالانجليزية Sudan, Remember Us – "تذكرنا أيها السودان"، إنتاج عام 2024)، على مدار 57 يوماً تظاهر فيها شعب السودان، شاباته وشبابه بشكل خاص، مطالبين بفرصة لتشكيل سودانٍ يؤمنون به لكلّ أبنائه: لا للعسكر ولا للعمائم ولا للنظام البائد. سودان تكون "الردة فيه مستحيلة".

في نيسان/ أبريل 2019، نفّذ الجيش انقلاباً في السودان، مُطيحاً بنظام عمر البشير الذي حكم البلاد لمدة 30 عاماً. لم ينتظر الشباب، فخرجوا إلى شوارع الخرطوم خوفاً من ضياع البلاد من بين أيديهم وانتقالها من ديكتاتورية إلى أخرى. طالبوا بسودان ديمقراطي مدني جديد يشبه أجمل أحلامهم.

في ذروة نشوة تلك الأحلام وطاقة تلك الأيام الواعِدة، كانت كاميرا المخرجة التونسية-الفرنسية هند المؤدب تجول في شوارع الخرطوم الثائرة. التقت بشابات وشبان منهم شجن ومها ومزمّل وخطّاب، وآخرين كانوا للذهاب إلى حدّ المخاطرة بحياتهم من أجل ما آمنوا به.

"لا تستطيع قتل الروح، فالروح لا تفنى، والفكرة خالدة"، على لافتة تحملها إحدى المتظاهرات في لقطة من الفيلم.
اعتذار من المنتفضين على قطع الطريق. (لقطة من الفيلم)

يمشي الفيلم على نبض الشارع. يكاد من يشاهد ويسمع كلمات هؤلاء الثوار أن يسمع خفقَ قلوبهم في صدورهم مع كلّ كلمة. لكن بعد ستة أسابيع من اعتصامهم وعصيانهم، وفي أوائل حزيران/ يونيو 2019، أطلق الجيش السوداني النار على المتظاهرين للمرة الأولى، مرتكباً مجزرة هزّت طمأنينة الشارع وكيان المتظاهرين، وإن لم تسكتهم...

"أرأيت محصولاً بلا حصّاد؟
أرأيت مسجونا بلا أوصاد؟
أرأيت شعبا لاجئا وممزقاً
في داره وبدون دار؟
ما الحل؟
هم قالوا "اصبروا"
فالصبر مفتاح الخلاص
الصبر مفتاح الظفر
إن كان شعبي أنبياء
عقدان أيوب صبر
لم يستطع حمل الهموم
وأضاره حجم الكدر
فدعا مناجٍ ربّه
"يا ربّ مسنيَ الضرر"
فاستجاب له الكريم
وبالنعيم له أمر
ولقد صبرنا مثل أيوب
وواقعنا أمرّ
فالوضع في السودان مزرٍ
وحالنا يًبكي الحجر
لم يسمعوا صوت الحشود
أولم يروا دمّاً هُدر؟
يستمرئون فجورهم
وكأنهم من دون سمعٍ أو بصر!"

يتناوَب شابان في بداية العشرين في إلقاء أبيات هذه القصيدة للشاعر الشاب شيخون، بيتاً فبيت. تتصاعد نبرتهم، تنفعل حناجرهم، ويتحوّل بيت الشعر إلى هتافٍ يردده آخرون.

عند كلّ مفصل من مفاصل الحلم والانكسار والخوف والأمل، تخرج حنجرة جديدة بأبيات جديدة. لكن، بعد المجزرة، اختلفت نبرة الشباب. لقد باغتتهم القيادة العامة في الليلة الأخيرة من شهر رمضان، الموافقة للثالث من حزيران/يونيو 2019، وفيما هم يستعدون للاحتفال بالعيد المنتظر صباح اليوم التالي. نزل العساكر مدججين بالسلاح إلى خيم الاعتصام، بدعم من قوات الدعم السريع.

تقول إحدى الشابات الناشطات في الفيلم أن الشبان ماتوا حرقاً في خيامهم وهم نيام... أنّ الجثث طفت على نهر النيل الذي سال فيه دمٌ أحمر. تقول صبيّة أخرى أنها سمعت الرصاص يقترب واعتقدت أن الأمر مزحة. لا يمكن أن يحدث هذا... لكنه حدث.

كانوا سلميين تماماً، حالمين وباذلين للنفس في سبيل بلادهم، وقتلوهم عزّلاً. انتهت المجزرة إلى 66 شهيداً من المتظاهرين ومئات الجرحى، وسط تعتيم إعلامي شديد وقطع للانترنت من كل العاصمة الخرطوم.

"ما كنتُ أبغيه الرحيل
ما كنتُ أنويه الفراق
أحلامنا كانت كنيل
ودماؤنا أضحت تُراق
والدرب أحيانا طويل
والحب أبلغه العناق
فالروح للوطن العليل
حقُّ وإن شقّ المذاق
أتراه يذكرني الجميل؟
أتراه محبوبي يُشاق؟
ولوصلهم، هل مِن سبيل؟
أشتاقهم، كلَّ الرفاق."

ألقى شاب متظاهر قصيدة مهداة إلى شهداء تلك الليلة الليلاء، تنتهي على لسان الشهيد بالوصيّة:

"مزّقت كل مخاوفي، حطّمتها،
وخرجت كالطوفان والإعصار.
ورسمت أحلامي على تلك الحواط
فاحفظوا ما قد رسمت على الجدار."

شابات وشبان يعملون على جداريات الشهداء لتكريمهم. (لقطة من الفيلم)

الجدارُ هو الآخر عنصرُ متكرر في هذا الوثائقي. عليه كُتبت أبيات الشعراء ولُوّنت رسوم الثوار، وهو الذي استضاف وجوه شهداء الثورة في نهاية المطاف، في مجهود دافعه الحب من رفاقهم الباقين الذين حرصوا على تخليد ذكراهم جميعاً على جدران الخرطوم التي كانت مسكنهم الأخير.

أيّ سودان؟

تقول هند المؤدب، مخرجة هذا الفيلم إنها أثناء تصويرها فيلماً سابقاً لها (بعنوان "باريس ستالينغراد") حول موضوع اللاجئين السودانيين الذين يعيشون ظروفاً صعبة في باريس، تعرفت إلى عدة سودانيين أضحوا أصدقاء لها. في حينها، كات الثورة في السودان في بداياتها، وكان هؤلاء اللاجئون آسفون لعدم قدرتهم على العودة إلى السودان للمشاركة في ثورتهم التي تحمسوا لها. اقترح أحدهم أن تذهب المخرجة لتكون عيونهم على الأرض. تقول هند المؤدب إنها شعرت أنها تعرفت إلى السودان من خلال عيون هؤلاء الأصدقاء، ولذلك ذهبت بدون خطة واضحة، مسلّحة بالطبع بجنسية فرنسية تجعل منها أقدر على التحرك بالكاميرا من مواطنة سودانية تؤذى في بلدها للأسف!

من هناك، قاد لقاء إلى لقاء، وأفضى شارعٌ إلى شارع. وجدت المخرجة نفسها وسط ثورة الشباب، تسلط الضوء على قصص غير مروية، ترى حضورالنساء القوي وهتافاتهنّ، ويبهرها شِعر شباب وشابات عشرينيين، وتتورط عاطفياً مع ثورة بلدٍ ليس بلدها، لكنها رأته امتداداً لتونس، كأن رابطاً خفياً يجمع بين هؤلاء الثوار من سيدي بوزيد التي أشعلت ثورة تونس، إلى الخرطوم، فبيروت وبغداد اللتين كانتا تشهدان انتفاضات شعبية بالتزامن مع السودان في عام 2019.

لا تحبّ المؤدب أن يعلق أحدهم "إن ثوراتكم كلها فشلت". في لقاء مع تلفزيون العربي، تذكّر أن الثورة الفرنسية تطلبت أكثر من 150 سنة لتقود إلى الحصول على الديمقراطية، وأن كل الثورات تتطلب وقتاً، وأن الشباب على امتداد البلدان العربية لديهم دافع للتغيير ويحاولون باستمرار.

ملصق للفيلم.

لكنّ مسار الفيلم نفسه وانتهاء شخصياته الأساسية جميعها إلى الهجرة بعيداً من الحرب، يجعل القلب مثقلاً محمّلاً بالشك، يصارعه كل حين أمل صغير يطلع من أصوات هؤلاء الشباب وأغانيهم وهتافاتهم.

لا شكّ أن هذا الفيلم هو عن طاقة الشعر التثويرية أيضاً، رغم أنه لا يتقصّد ذلك غالباً. والشعر بمثالياته وصوره وانفعالياته يبدو على تناقض شديد، بل صادم، مع المشاهد التي يعرضها الفيلم من مقاطع فيديو متناقلة عبر تطبيق واتساب لهجوم العسكر على الآمنين والقصف والرعب المرافق. فكيف يحتوي المشهد هذين المتناقضين تماماً؟ وأي سودانٍ منهما سيغلب؟

باختصار..

"السعودية والامارات يتركونا بحالنا"

"نحن مش محتاجين ليهم، هم محتاجين لينا"

"عندنا ثروة زراعية، عندنا الذهب واليورانيوم"

"هجومهم الغرض منه أكثر من فض الاعتصام: إنك ترعب الشعب. يخلّوك تبعد عن الحاجة هذي. تبعد، تبعد نهائي"...

هذه بعض الجمل التي قالها أحد المتظاهرين مرافِعاً عن ثورته. بعبارات واضحة، حادة، متأنية، ومليئة بالغضب. يتساءل المُشاهد عن مصير هذا الشاب... ترى أين يكون الآن؟

مها لجأت إلى بورتسودان، تتنظر فيزا للهجرة إلى الامارات، شجن تركت السودان مع عائلتها إلى مصر، ثم إلى الإمارات حيث تعمل وتعيش الآن. مزمّل وعائلته هاجروا إلى القاهرة، ومن هناك غادر إلى الهند لدراسة برمجة الكمبيوتر. خطّاب صمد لستة أشهر تحت القصف، قبل أن يغادر إلى مصر ليعيش في القاهرة. هذا ما تخبرنا به الشاشة آخر الفيلم، بالإضافة إلى إحصاء: 150 الف قتيل و12.7 مليون نازح منذ بداية الحرب اللعينة.

النيل ما زال يجري بمهابة في بلد اسمه السودان، بلد النور كما تقول الأغنية التي تمايلوا عليها في المركب فوق صفحة النيل، ينتظر عودة أبنائه. وما زالت قصيدة تلك الشابة التي أدمعت رفيقاتها تتردد:

"لإن قاتلوكم، قاوموا
لا تيأسوا، لا تقنطوا.
أنتم على حقٍّ، وهم نفس الجناة
أوصيكمُ يا إخوتي أن تلعنوا كلّ الطغاة
وكلَّ تفكير الطغاة،
وكلّ تكفير الطغاة.
أرواحكم تسعى وتعطينا اليقين
وتراقبون مسيرنا من فوق جنّات النعيم
وتشعلون الثور الغضّة بأنوارِ الجبين
تهدوننا فوق الحياةِ كذا حياة
لا، لن نخون أمانة الشهداء.
لا، لن تضيع دماؤهم عبثاً هباء..."

مقالات من السودان

التغريبة السودانية: عن رحلات العودة بين ضفتي النيل

رباب عزام 2025-11-08

تستمر "التغريبة السودانية" في رسم مصير العائدين، الذين يغادرون القاهرة مثقَلين بضغوط الغلاء والأزمات الاقتصادية، ليواجهوا وطناً لا تزال ملامحه غير واضحة، بين سيطرة واستعادة. وبينما تحرِّكهم دوافع اقتصادية قاهرة...