مجلة "نقد"، عدد خاص
يصدر هذا العدد الخاص من دورية "نقد" ضمن استمرارية العمل النقدي الذي دأبت عليه المجلة منذ تأسيسها: التأمل في العمق التاريخي للأحداث الراهنة، ومساءلة الكيفية التي تكشف بها بنى العالم. لا يتعلق الأمر بعدد فرضه سياق ظرْفي، بل هو فضاء جماعي للتفكير في المعاني التاريخية والسياسية والأخلاقية للحرب على غزة، وما تقوله عن عصرنا وعن حال العالم: استدامة الاستعمار، ومركزية العنف الامبريالي، ومقاومة الشعوب الرافضة للاندثار.
غزة مرآة الاستعمار في القرن الحادي والعشرين
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 تصب السلطة الاستعمارية الإسرائيلية، التي تحظى بدعم مطلق من القوى الغربية، وابلاً من الوحشية غير المسبوقة على أهل غزة. سنتين كاملتين من القصف والتجويع المنظّم والتدمير الممنهج، ومع ذلك، لم تنطفئ شعلة المقاومة.
يُظهِر هذا العدد أن الحرب على غزة ليست حرباً محلية، بل أطول صراع ضد الاستعمار في القرن الحادي والعشرين، طرفاه شعب يواجه كياناً استعمارياً أقيم على أرض فلسطين.
وتضع تحليلات ناصر قنديل ومحمد جهاد إسماعيل هذه المواجهة في إطار استمرارية النضال الذي انطلق في عام 1948، أي قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بكثير.
انهيار الحلف الغربي
إزاء هذه الإبادة التي تُبَث مباشرة إلى العالم، انهارت أيضاً جبهة أخرى، وهي الحلف الغربي حامل مشروع النظام العالمي الجديد الموروث من فترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في سنة 1945. هذا الحلف الذي سوَّق نفسه كفعلٍ مؤسِّس لعالم "حر" بعد سقوط النازية، استُخدم في الواقع لتبرير إنشاء دولة "لليهود" في فلسطين، مما سمح للغرب بتبييض صفحته من الجرائم المعادية للسامية، ومفتتحاً في الوقت نفسه عصر جديد من الهيمنة الاستعمارية في الشرق الأوسط.
لماذا يدعمُ الغرب جرائم إسرائيل في غزّة؟
18-10-2023
عبر دعمها غير المشروط لإسرائيل، تميط القوى الغربية اللثام عن المنطق الحقيقي لهذا الحلف: التطبيع مع الإبادة. الحروب التي استهدفت لبنان والعراق وسوريا وليبيا واليمن وأفغانستان ليست استثناءات، بل حلقات متتالية من الحرب "الحضارية" ذاتها التي تُشَن ضد التعددية في الشرق الأوسط، وضد أي شكل من الاستقلالية السياسية في الجنوب الشامل (العالمي).
وتُظهِر النصوص الواردة في هذا العدد الخاص أن الحلف الغربي لا يتصدع بتأثير القنابل الملقاة على رؤوس الناس فقط، بل كذلك تحت ضغط ضمائر ملايين المواطنين والمثقفين والصحافيين والشباب في مختلف أرجاء العالم، الذين يرفضون تزييف حقيقة الإبادة الجماعية بقناع "الحق في الدفاع عن النفس".
تقاطع جيو-استراتيجي وتواطؤ أيديولوجي
يتتبع المقال المخصَّص للعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، منذ عهد بوش وصولاً إلى فترة رئاسة بايدن، مسيرة هذا التحالف الاستراتيجي في داخل النظام الإمبريالي. فمنذ قدوم المحافظين الجدد في عهد رونالد ريغان حتى عودة ورثتهم مع إدارة بايدن ثم ترمب، غذّت الأيديولوجيا الصهيونية وعقيدة الهيمنة الأمريكية بعضهما البعض.
وتمظهر هذا التحالف تحت حكم ترمب الأول في التسليع البارد والمستفِز للقضية الفلسطينية عبر "الاتفاقيات الابراهيمية". أما في عهد بايدن، فقد ترسخ في شكل أكثر وضوحاً وصراحة كمشروع حضاري مشترك بين أمريكا الامبريالية وإسرائيل الاستعمارية.
هنا تصبح غزة مختبراً للسيطرة على الشعوب المتمرِدة، وفضاء تجريبي لتكنولوجيات الحرب والمراقبة والإمحاء.. مرآة للعالم الذي تريد القوى المهيمنة فرضه.
حرب غزة والعنصرية الشاملة الجديدة
نص آخر من العدد يسائل الأساسات العرقية لهذه الحرب. العنصرية الجديدة التي تعبر عن نفسها ضد الفلسطينيين ليست انحرافاً عرضياً بل الإرث المباشر للعنصرية الاستعمارية الأوروبية بعد إعادة تفعيلها ورقمنتها الكترونياً.
خطط وعد بلفور، منذ سنة 1917، لعملية إحلال وتهجير تقوم على تراتبية عرقية: شعب أوروبي "متحضِر" أتى "لجلب الحداثة" إلى نطاق جغرافي يُفترض أنه خلاء أو متخلِّف.
العبودية الجديدة
06-10-2025
تطورت هذه العنصرية البنيوية، ولم تعد تتمظهر عبر الخطاب الاستعماري الكلاسيكي فقط، بل كذلك عبر مفردات حقوق الإنسان، والأمن، والحرب على "الإرهاب". تكشف المقاومة الفلسطينية ان هذه المفردات أصبحت القناع الأخلاقي لمشروع الإبادة: مشروع عنصري جديد متطابق مع الأشكال الجديدة للرأسمالية العالمية.
افريقيا وإعادة خلق التضامن
يُختَتم هذا العدد الخاص بتفكير جوهري حول دور أفريقيا في تحرير فلسطين، وإعادة تعريف حركات التضامن العالمية. تذكِّرنا أفريقيا، بالذاكرة الحية للنضالات المناهِضة للاستعمار، وبأن استعمار فلسطين هو حد من بين حدود أخرى على الخارطة العالمية للعنف الامبريالي.
من كوامي نكروما إلى نلسون ماندلا، ومروراً بباتريس لومومبا واميلكار كابرال، لطالما أكد الزعماء الأفارقة على أن معركة التحرير ليست قومية ابداً، بل هي دائماً شاملة وكونية. تعيد غزة اليوم تفعيل هذه الحقيقة، فالكفاح الفلسطيني هو معركة كل الشعوب التي ترفض العيش في ظل النظام الاستعماري الجديد، والقواعد العسكرية، والديون، والنهب، والانتزاع.
هذا التضامن ليس بحثاً عن المعنى، أو حاجة روحانية، ولا موقفاً أخلاقياً، بل شرط القطيعة مع النظام العالمي الذي يدمِّر الحياة والبشرية. الحركات الاجتماعية، والفنانون والمثقفون والمواطنون الأفارقة الذين ينتفضون اليوم من أجل غزة يحيون تقاليد ومبادئ "باندونغ" العابرة للقارات الثلاث (أفريقيا/ آسيا/ أمريكا الجنوبية)، والمدافعة عن عالم غير منحاز، وخال من الاستعمار، وذي سيادة، ومتضامِن.
حرب الضمير العالمية
تدافع كل المساهمات الواردة في هذا العدد عن فكرة واضحة: الحرب على غزة حرب عالمية - عسكرية، وإعلامية، وأيديولوجية. لكنها أيضاً حرب ضمير في مواجهة تدمير الوجود الإنساني، والقتل الجماعي، والإعدامات الميدانية للصحافيين والفنانين والمفكِّرين الفلسطينيين، والمواطنين العاديين الذين يقدِّمون شهاداتهم من قلب الإبادة الجماعية. تُقوِّض أصواتهم المخترِقة للحصار احتكار الغرب للسردية، وتفتح مقاومتهم آفاقاً لعالم آخر، وللغة أخرى للحقيقة.
ما يدافع عنه هذا العدد
يدافع هذا العدد الخاص عن رؤية مناهِضة للاستعمار ونقدية صارمة، وهو:
- يقطع مع السرديات الغربية عن "الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني".
- يعيد وضع غزة في سياق التاريخ الطويل للاستعمار والرأسمالية المعولمة.
- يُظهِر أن المقاومة الفلسطينية نضال كوني، يُعيد إحياء التقاليد المناهضة للاستعمار في أفريقيا والعالم العربي والعالم الثالث.
- ينادي بتضامن فعال، سياسي وفكري، قائم على القطيعة والذاكرة والكرامة.
غزة فوق العالم
09-09-2025
هذا العدد فعل سياسي وفكري، يؤكد أن المعركة في غزة هي معركة العالم بأسره، وأن الإبادة الجماعية هي التعبير النهائي لنظام آفل، وأن النقد الهادف لتصفية الاستعمار يبقى سلاحنا الوحيد في مواجهة اعتياد جرائم القتل الاستعمارية، والتطبيع معها.
غزة اليوم هي عدسة يُقرأ من خلالها العالم، وحدود تُخترع فيها، مرة أخرى، إمكانية تحرر الإنسانية من الاستعمار.
______________________
- ألقت هذا النص سناء ياسمين حريرش، الكاتبة والمترجِمة في دورية "نقد"، في افتتاح الندوة السنوية الثالثة والثلاثون لشبكة "يوروزين".
______________________
يمكنكم اقتناء نسخة ورقية من هذا العدد عبر هذا الرابط: commandes@cairn.info
