إعداد وتحرير: صباح جلّول
يندر أن يجد المرء عملاً جماعياً منظماً، عابراً للدول والانتماءات والهويات الضيقة، على هذا القدر من الصدق والإيثار. لقد أعاد أسطول الصمود الاعتبار لفكرة تجهد الحكومات والمؤسسات والقوى المتسلطة على حياة البشر على إبعادها عن وعينا، ألا وهي أن بإمكاننا أن نأخذ الأمور على عاتقنا ونتصرف كأفراد وشعوب، بصفتنا مهتمين بشأن أي إنسان مقهور، أينما كان. غزّة حرّكت شيئاً من هذا الوعي، لهول ما فعل الصهاينة الإباديون بأهلها أولاً، ولوقاحة العالَم وأقويائه في التغاضي عن الجريمة، بل مدّها بالدعم والأعذار والمورد الأهم لانجازها: الوقت. لم يكن كافياً ملء الشوارع بالمتظاهرين ولا الصراخ بأعلى الأصوات ولا مطالبة الحكومات بالتحرك، كان على الناس أن يفعلوا شيئاً.
يُبحرون ومعهم وجدان كلّ حرّ في العالَم
04-09-2025
أحد قوارب أسطول الصمود اسمه بيسياس!
18-09-2025
لم يكن الاحتلال ليسمح بنجاح مثل هذا النموذج إذاً، فهو عكس كل ما يريد هذا الاحتلال أن يُفهِمه للناس. لو تركَ لمركبٍ واحد الوصول، لانفجر الأمل في المزيد من الناس الذين فاضت قلوبهم غضباً وألماً لغزّة، ولربما عُمّم هذا النموذج من المبادرات المقاوِمة الشعبية التي تسهم في تنكيد الاحتلال وإحداث ولو القليل من الضغط. لهذا، كان الاحتلال عازماً على اعتراض مراكب أسطول الصمود كلها، واختطاف من على متنها كلهم، ورأينا بالفعل كيف اعتُرضت المراكب الأسبوع الماضي، الواحد تلو الآخر، بواسطة جنود أصلاف مدججين بالسلاح دخلوا على ناشطين سلميين يحملون علب الطعام والمعدات الطبية الأولية للقطاع المحاصَر.


"أسطول الصمود شغل بَحْرية العدوّ، فتمكّن أهل القطاع من الصيد بحريّة"! كان هذا عنوان أحد مقاطع الفيديو الذي يُظهِر صيادين على شاطئ غزة يسحبون معاً شبك صيدٍ ينوء بثقل أسماكه، لأول مرة منذ زمن بعيد، إذ عمد جيش الإبادة إلى منع الغزيين من الصيد، وقصف الصيادين وقنصهم، مانعاً إياهم من خيرات أرضهم وبحرهم. لم يصل الأسطول، ولم ينجز هدفه الأساس، لكنّ أحداً شغَل الوحش وحرف نظره ليوم أو اثنين.
لكن فيما كان شاطئ غزة يترقب علامة تلوح في الأفق، كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلن ورقته المفترضة "لوقف الحرب" (ما لم يحصل بعد سوى إعلامياً)، وكان جيش الاحتلال يستمر في قصفه غزة ويغزو مراكب الصمود في المياه الدولية ضارباً بالحائط القوانين الدولية، مختطِفاً كل من كانوا على متن المراكب. اقتيدوا إلى أشدود، وخاضوا أسراً قصيراً، خرجوا من بعده بمواقف "أوضح من قبل".
تصويب: "لسنا مركز الخبر"
"أنتم أبطال!"، تصرخ فتاة من المرحِبين بوصول الناشطين المرحلين من كيان الاحتلال إلى مطار أثينا يوم الاثنين في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 2025.
"لا! لا! لسنا أبطالاً. لسنا أبطالاً. نحن نفعل الحدّ الأدنى"، تردّ عليها الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ.
عمال المرافئ الإيطاليون: العرقلة سلاح الشعوب
02-10-2025
كان عدّة ناشطين ممن اختُطِفوا ثمّ أطلِقوا قبل ثونبرغ صرّحوا للإعلام بعد خروجهم بأنهم شاهدوا غريتا البالغة من العمر 22 عاماً تتعرض لمعاملة مهينة بشكل خاص، بغرض إذلالها ومعاقبتها على دورها في الترويج للأسطول ودعمها لغزة. عدد منهم شهدوا بأن غريتا تعرضت للشدّ من شعرها والضرب وأُجبرت على الزحف على الأرض، وتم لفّها بعلم إسرائيلي أُجبرت على تقبيله، بالإضافة للإهانات اللفظية والتحقيرية.
غزّة حرّكت شيئاً من هذا الوعي، لهول ما فعل الصهاينة الإباديون بأهلها أولاً، ولوقاحة العالَم وأقويائه في التغاضي عن الجريمة، بل مدّها بالدعم والأعذار والمورد الأهم لانجازها: الوقت. لم يكن كافياً ملء الشوارع بالمتظاهرين ولا الصراخ بأعلى الأصوات ولا مطالبة الحكومات بالتحرك، كان على الناس أن يفعلوا شيئاً.
كان عدد من الناشطين أكدوا منع الماء عنهم لأكثر من 35 ساعة، وقطع الأدوية الضرورية عن عدد من المشاركين، ومنعهم من النوم عبر الأصوات العالية والطرْق على الزنازين. كما تمّ استعراضهم أمام وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الذي حاول استخدامهم لعمل فيديو بروباغندوي يتهمهم فيه بالإرهاب.

في المؤتمر الصحافي بعد وصولها أثينا، قالت غريتا ثونبرغ: "لن أستطيع أن أفهم أبداً كيف للبشر أن يكونوا على هذا القدر من الشرّ. إنهم يُجوِّعون عمداً ملايين البشر المحاصَرين تحت حصار غير قانوني، استمراراً لعقود من القمع والفصل العنصري..." أضافت: "لا أريد مشاركة ما تعرضتُ له شخصياً، لأنني لا أريد أن يتصدّر ذلك عناوين الأخبار، وأن يُقال إن غريتا تعرضت للتعذيب، لأن القصة ليست هنا (...) فما تعرضنا له نحن ليس شيئاً بالمقارنة مع ما يتعرض له أهل غزة يومياً... أستطيع التحدث مطولاً عن سوء معاملتنا والانتهاكات التي تعرضنا لها في سجننا، صدقوني، لكن القصة ليست هنا. ثمة إبادة جماعية تجري أمام أعيننا، تُبثّ بالمباشِر".
في مقطع فيديو طويل نشرته على حسابها على إنستغرام، قالت ثوبيرغ إن إسرائيل انتهكت القانون الدولي بعرقلة دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وأشارت إلى حكومات دول المشارِكين في الأسطول: "إن احتجازنا من قبل إسرائيل هو نتيجة مباشرة لأفعال حكوماتنا... فعلى الدول الوفاء بالتزاماتها القانونية بإنهاء تواطؤها في الإبادة الجماعية، كي لا تفلت إسرائيل من العقاب".
وكما أعادت غريتا ثونبرغ تصويب وجهة النظر ومركز الاهتمام: غزة ووقف الإبادة فيها – كذلك فعل الناشط البرازيلي تياغو آفيلا، قائلاً: "لم تكتمل مهمتنا. ما زال لدينا عمل كثير".
شهادات تونسية: "تفاجأنا بجبنهم"
"اكتشفنا أن صورة إسرائيل هي مجرد بعبع. كانوا مدججين بالسلاح ولكنهم كانوا على قدر من الجبن والضعف شكّل لنا صدمة". هذا أوّل ما لحظه أحد قباطنة مراكب أسطول الصمود التونسيين. " الجنود الإسرائيليون كانوا جبناء. هم فعلاً أهون من بيت العنكبوت، لكن لعلّ صهاينة العرب هم من كرسوا هذه الصورة"، قال في مقابلة مع التلفزيون العربي. قبطان مركب الكاتالا، التونسي زياد جاب الله، قال ما يشبه ذلك: "هم من أضعف ما يكون. اكتشفنا أنهم ليسوا أقوى منا، وصلنا إلى مكان قريب. 60 كلم لنصل إلى غزة. طلع الإرهابيون إلى المركب وخربوا الكاميرات وكابل الانترنت ليعزلونا عن العالم... كي لا نوصِل مساعدات لأطفال غزة"... واعِداً: "سنعود".
أما الناشط حمزة بو زويدة، فشارك تجربته في مقابلة مع إذاعة "راديو ديوان" التونسية: "ليس مهمّاً إذا ضُربنا أم لا، نحن أمام كيان يقتل الأبرياء والأطفال منذ عامين والإحصاءات توقفت عند 100 ألف (والأعداد أكبر). الضرب لا شيء أمام هذا، وهو شرف لنا، فهو يعني أننا ما زلنا نضاربه وما زلنا نقاومه. شرف أن نبقى واقفين أمامهم، شرف أن يحاول بن غفير المجرم إهانتنا. هو وقف مقابلنا نصف ساعة ولم يستطع قول شيء. بعدها قال عنا إرهابيين أمام الكاميرا في الفيديو الذي انتشر". ويلحظ بو زويدة: "لكن نحن مجموعة من حوالي 500 شخص. تنتفي الأعراق والأديان والقوميات، ولا يبقى إلا الهدف الذي يجمعنا، وهو كسر الحصار اللا-قانوني على الشعب الفلسطيني ووقف الإبادة الجماعية".
كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟
04-01-2024
أثناء الاعتقال، كانت المجموعة التونسية أعلنت إضرابهم جميعاً عن الطعام لحين إطلاقهم، في حين تعرضوا لمعاملة أسوأ من الناشطين من مواطني دول الشمال. لكنّ أسطول الصمود المغاربي لكسر الحصار عن غزة أعلن يوم الثلاثاء في 7 تشرين الأول/ أكتوبر تسلّم السلطات الأردنية المجموعة الأخيرة من المشاركين التونسيين، بالإضافة الى مشاركين من الجزائر، والمغرب، والكويت، وليبيا، والأردن، وباكستان، والبحرين، وتركيا، وسلطنة عُمان. كما بقي حتى تاريخه اثنان من الناشطين المغاربة وثلاثة ناشطين أرجنتيين وناشط نيجيري.

الصور عن صفحة "أسطول الصمود المغاربي" على انستغرام.
تلت ذلك كله موجة اختطاف ثانية، حيث اعترض جيش الاحتلال فجر الأربعاء في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر، سُفناً تابعة لأسطول الحرية، تضمّ سفينة "الضمير" وثمانية قوارب تابعة لمبادرة "آلاف المادلينات" – وهي أساطيل رديفة لأسطول الصمود كانت ما تزال تبحر نحو غزّة. اعتقل الاحتلال 145 ناشطاً وناشطة كانوا على متن هذه المراكب، وذلك في المياه الدولية. من بين المعتقلين المناضل التونسي علي كنيس، الذي شارك في قافلة الصمود البرّية من قبل، وكان من منسقي أسطول الصمود في المغرب. يدعو جميع المناضلين وناشطي أسطول الصمود المغربي إلى المطالبة بالأسرى المختطفين الذين ما زالوا في سجون الاحتلال، وإلى استمرار كلّ محاولات كسر الحصار عن غزة وإنهاء الإبادة.