في بلد يشهد ارتفاعاً ملحوظاً في نسب الإدمان والاضطرابات النفسية، جاء قرار وزارة الصحة الأخير في مصر برفع أسعار الخدمات العلاجية في مستشفيات الصحة النفسية، ليزيد الأعباء على الفئات الأضعف، مهدداً قدرة شريحة واسعة من المرضى على تلقي العلاج.
أعلن وزير الصحة في آب/ أغسطس 2025 عن لائحة جديدة، رفعت الأسعار بشكل كبير، إذ تراوحت تكلفة الإقامة فقط لليوم الواحد بين 150 جنيهاً في القسم الاقتصادي و550 جنيهاً في الأجنحة الخاصة، غير شاملة تكاليف الخدمات الطبية الأخرى، بالإضافة إلى زيادة كبيرة، في تكاليف جلسات الدعم النفسي والفحوصات الطبية.
ووفقاً للمصادر الرسمية، فإن الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، التابعة لوزارة الصحة والسكان في مصر، تدير 24 مستشفى ومركزاً متخصصاً في مجال الصحة النفسية وعلاج الإدمان على مستوى الجمهورية. من بين هذه المؤسسات، يُعد مستشفى "العباسية للصحة النفسية" واحدة من أقدم وأهم المنشآت العلاجية في مصر. وقد تأسس عام 1883 في قلب القاهرة، ويُعتبر من أكبر المستشفيات التي تقدِّم خدماتها للمرضى بأسعار رمزية أو مجانية. كما يستقبل المستشفى الحالات الصعبة والمعقدة، من مثل حالات مرضى الذُهان، الذين يشكلون تهديداً على أنفسهم أو على الآخرين، ما يجعلها ملاذاً للعائلات التي تواجه صعوبات في توفير الرعاية المنزلية لهؤلاء المرضى. وهي تواجه تحديات كبيرة، أبرزها الاكتظاظ الشديد، وقلة الموارد، وفترات الانتظار الطويلة للقبول، التي قد تصل إلى عدة أشهر.
مستشفى "العباسية" كمثال بارز، قد يفقد دوره الحيوي نتيجة هذه الإجراءات، التي تحمل انعكاسات خطيرة على من يعتمدون على الخدمة الحكومية كخيار أساسي للعلاج النفسي، وبشكل خاص المرضى الذين لا تملك أسرهم القدرة على دفع مبالغ مرتفعة. ومع تراجع إمكانية الوصول إلى العلاج بسبب التكلفة، يزداد احتمال بقاء هؤلاء المرضى بدون دعم طبي، وهو ما ينذر بتفاقم حالاتهم، وانتشار مشكلات اجتماعية غير محسوبة.
الفقراء.. ضحايا الرسوم الجديدة
بموجب القرار الوزاري رقم 220 لعام 2025 الذي أقر اللائحة المالية الجديدة، المقدمة تحت لافتة "تحسين الخدمة"، ارتفعت رسوم جلسات الدعم النفسي لمرضى الإدمان إلى 100 جنيه لكل جلسة، وجلسات المتابعة الشهرية إلى 400 جنيه. طالت الزيادة أيضاً أسعار التحاليل الطبية والفحوصات الأساسية. إذ حُددت أسعار تحاليل وظائف الكلى والكبد والسكري وصورة الدم بـ 400 جنيه، وفحص النخاع بـ 1500 جنيه، ورسم المخ بـ 200 جنيه، ورسم القلب بـ 40 جنيهاً، فضلاً عن جلسات العلاج الكهربائي، التي تتراوح تكلفتها بين 200 و400 جنيه.
ولم تَسلم الخدمات الموجهة إلى الأطفال من هذه الزيادة، إذ ارتفع سعر كشف التخاطب إلى 50 جنيهاً، وجلسة التخاطب إلى 40 جنيهاً، وجلسة تعديل السلوك إلى 45 جنيهاً، بينما بلغ سعر جلسة الرعاية النهارية 60 جنيهاً، وجلسة العلاج النفسي للأطفال والمراهقين 30 جنيهاً. وحتى الاختبارات المتخصصة مثل اختبار الذكاء، ارتفع سعرها إلى 150 جنيهاً، في حين وصلت تكلفة إصدار الشهادات أو التقارير الطبية إلى 100 جنيه.
كمثال بارز، فمستشفى "العباسية" العريق الذي تأسس سنة 1883، قد يفقد دوره الحيوي نتيجة هذه الإجراءات، التي تحمل انعكاسات خطيرة على من يعتمدون على الخدمة الحكومية كخيار أساسي للعلاج النفسي، وبشكل خاص المرضى، الذين لا تملك أسرهم القدرة على دفع مبالغ مرتفعة.
هذه الأرقام، وإن بدت صغيرة نسبياً على الورق، فهي في الواقع عبء ثقيل على كاهل المرضى وعائلاتهم، في ظل سياق اقتصادي، يتسم بارتفاع تكاليف المعيشة، خاصةً إذا كان المريض يعاني من مرض مزمن يتطلب متابعة مستمرة.
العلاج على نفقة الدولة.. سند الغلابة في مصر
09-10-2019
علقت حملة "مصيرنا واحد" على القرار في بيان لها، ووصفته بالقرار الكارثي. الحملة حذّرت من أن تطبيق هذا القرار، الذي يتضمن زيادات كبيرة في رسوم الإقامة اليومية والخدمات العلاجية، سيحرم قطاعاً واسعاً من المرضى من حقهم في العلاج. كما رفضت تحميل المرضى أعباء مالية لتحقيق تحسينات في بيئة العمل أو أجور العاملين، واعتبرت ذلك تخلياً من الوزارة عن مسؤوليتها.
غياب التمييز بين الحجز الوجوبي والاختياري
في الطب النفسي، هناك فرق جوهري بين "الحجز الوجوبي" و"الحجز الاختياري". الأول يفرض على المريض عندما يشكل وجوده خارج المستشفى خطراً على نفسه أو على الآخرين، مثل حالات الاكتئاب الحاد المصحوبة بمحاولات انتحار، أو نوبات الهوس الحاد، أو حالات الهياج العنيف المرتبطة بالفصام. أما الثاني، فيكون برغبة المريض أو أهله، لتحسين فرص العلاج. لكن اللائحة الجديدة تعاملت مع النوعين بدون أي تمييز، فارضة الرسوم نفسها على الجميع.
أشارت الأمينة العامة لمستشفيات الصحة النفسية وعلاج الإدمان، في تصريحات منشورة عام 2024 إلى ارتفاع نسبة الإدمان، بين عامي 2020 و2023 من 2.4 في المئة إلى 5 في المئة، وزيادة معدل تعاطي المخدرات من 5.9 في المئة إلى 7.1 في المئة بين الأطفال فوق سن السابعة.
ربع المصريين، أي حوالي 25 في المئة من السكان، يعانون من أعراض أو اضطرابات نفسية متنوعة، مع تصدر اضطرابات المزاج، لا سيما الاكتئاب، قائمة أكثر الاضطرابات انتشاراً، بنسبة تقارب 44 في المئة من إجمالي المرضى. تليها اضطرابات تعاطي المخدرات، بنسبة تزيد على 30 في المئة، فيما تحتل اضطرابات القلق المرتبة الثالثة، بنسبة 25 في المئة.
في عام 2012، كان القرار الوزاري رقم 351 قد أقر إعفاء غير القادرين من رسم الدخول للعلاج في منشآت الصحة النفسية. لكن في عام 2020، ألغت وزيرة الصحة وقتها هذا الإعفاء، ليصبح رسم الدخول 100 جنيه عن كل حالة من دون استثناء، يتم تحصيله لصالح المجلس القومي للصحة النفسية.
هذا القرار بالإلغاء، إلى جانب اعتماد الحكومة مؤخراً اللائحة التنفيذية لصندوق تحسين الخدمة بمستشفيات ومراكز الصحة النفسية وعلاج الإدمان، جعل الاحتجاز للعلاج، سواء كان وجوبياً أو اختيارياً، مشروطاً بدفع رسوم، حتى في الحالات الحرجة.
الواقع يسبق الإحصاء بخطوات
حتى الآن، يُعد "المسح القومي للصحة النفسية لعام 2018" هو أحدث دراسة رسمية شاملة، صدرت عن وزارة الصحة والسكان. وقد كشف هذا المسح عن أن ربع المصريين، أي حوالي 25 في المئة من السكان، يعانون من أعراض أو اضطرابات نفسية متنوعة، مع تصدر اضطرابات المزاج، لا سيما الاكتئاب، قائمة أكثر الاضطرابات انتشاراً، بنسبة تقارب 44 في المئة من إجمالي المرضى. تليها اضطرابات تعاطي المخدرات بنسبة تزيد على 30 في المئة، فيما تحتل اضطرابات القلق المرتبة الثالثة، بنسبة 25 في المئة.
وتشير البيانات إلى فجوة حادة، بين عدد المرضى الذين يحتاجون إلى الرعاية الفعلية ونسبة الذين يصلون إلى العلاج، إذ لا يتلقى العلاج سوى 0.4 في المئة منهم. إلى جانب ذلك، تكشف الدراسة عن وجود تفاوت جغرافي في انتشار الأمراض النفسية، حيث ترتفع معدلاتها في المناطق الريفية مقارنة بالحضرية.
إلا أن هناك مؤشرات وتصريحات خلال السنوات الأخيرة، تشير إلى تغيرات ملحوظة في معدلات الإدمان وتعاطي المخدرات. إذ أشارت الأمانة العامة لمستشفيات الصحة النفسية وعلاج الإدمان في تصريحات منشورة عام 2024 إلى ارتفاع نسبة الإدمان بين عامي 2020 و2023 من 2.4 في المئة إلى 5 في المئة، وزيادة معدل تعاطي المخدرات من 5.9 في المئة إلى 7.1 في المئة بين الأطفال فوق سن السابعة.
نزيف صامت
في الأحياء الشعبية والمناطق الريفية، يختبئ المرض النفسي وراء قناع "التحمّل". البعض يسميه قوة، لكنه في الحقيقة صمت ثقيل يدفن الأعراض تحت ركام المسؤوليات اليومية. تؤكد "منظمة الصحة العالمية" أن أكثر من 80 في المئة من المصابين باضطرابات نفسية يعيشون في دول منخفضة ومتوسطة الدخل، إذ يرتبط تدهور الصحة النفسية بالفقر ارتباطاً وثيقاً، ويبدأ ذلك أحياناً قبل الولادة بسبب حرمان الأمهات من الموارد اللازمة. وبحسب التقرير، فإن الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية ويعيشون في فقر يكونون أكثر عرضة لفقدان الدخل، بسبب فقدان العمل أو ضعف الإنتاجية، إضافة إلى زيادة النفقات الصحية.
في مصر، تعيش مريضات الفصام واقعاً قاسياً يتسم بالعنف والإهمال، إذ تتحول المنازل أحياناً إلى سجون حقيقية، يحتجزن فيها بعيداً عن العالم، مع تعرضهن لتعذيب بدني ونفسي على أيدي أسرهن، تحت ذرائع الخجل والوصمة الاجتماعية.
داخل السجون المصرية، تدفع الظروف القاسية، وسوء المعاملة، والتعذيب البدني والنفسي عدداً من السجناء إلى محاولات يائسة لإنهاء حياتهم. وفقاً لما وثّقه تقرير بعنوان "ما لا يمكن تحمّله" الصادر عن "المفوضية المصرية للحقوق والحريات". كشف بيان مسرّب من داخل سجن "بدر 3" في شباط/ فبراير 2023 عن كارثة إنسانية تمثلت في مجاعة قاتلة، وحرمان المرضى وكبار السن والحالات الحرجة من أدويتهم...
تتلازم بعض هذه الاضطرابات النفسية مع ارتفاع حدة العنف داخل المجتمع. فالمرضى غير المتلقين للعلاج قد يكونون عرضة للانخراط في سلوكيات عدوانية، أو أن يصيروا ضحايا للعنف المجتمعي. في مصر، تعيش مريضات الفصام واقعاً قاسياً يتسم بالعنف والإهمال، حيث تتحول المنازل أحياناً إلى سجون حقيقية، يحتجزن فيها بعيداً عن العالم، مع تعرضهن لتعذيب بدني ونفسي، على أيدي أسرهن، تحت ذرائع الخجل والوصمة الاجتماعية.
وثّق تقرير صادر عن مرصد جرائم العنف ضد النساء والفتيات، التابع لمؤسسة "إدراك للتنمية والمساواة" لعام 2024، وقوع 1195 جريمة عنف ضد النساء والفتيات خلال العام الماضي فقط، تنوعت بين جرائم: قتل، ضرب، اغتصاب، تحرش جنسي، ابتزاز إلكتروني، ومحاولات انتحار، منها 261 جريمة قتل نتيجة عنف أسري على يد أفراد الأسرة أو الشريك. بالإضافة إلى تسجيل 153 حالة اغتصاب، و182 حالة تحرش جنسي، في حين وثّق التقرير أيضاً 97 حالة انتحار، و33 محاولة انتحار.
في الوقت نفسه، تواجه المرأة العاملة في المجتمع المصري عبئاً بدنياً ونفسياً مضاعفاً، إذ تتحمل مسؤولية الموازنة بين العمل بأجر ومتطلبات الحياة الأسرية. هذا التداخل بين أعباء العمل الرسمي وأعباء العمل المنزلي، يضع المرأة في مواجهة ضغوط متواصلة، في ظل محدودية فرص الحصول على الدعم أو الرعاية الصحية. وتتعرض النساء إلى أشكال متنوعة من العنف النفسي، سواء في بيئة العمل من قبل الإدارات والزملاء، أو في محيط الأسرة من قبل الأزواج والأقارب. بفعل هذا العنف، تزداد حالات الإصابة بالاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة.
عن مروة عرفة... وآلاف المسجونين
21-08-2025
داخل السجون المصرية، حيث الواقع الصادم للصحة النفسية، تدفع الظروف القاسية، وسوء المعاملة، والتعذيب البدني والنفسي عدداً من السجناء إلى محاولات يائسة لإنهاء حياتهم. وفقاً لما وثّقه تقرير بعنوان "ما لا يمكن تحمّله"، صادر عن "المفوضية المصرية للحقوق والحريات"، كشف بيان مسرّب من داخل سجن "بدر 3" في شباط/ فبراير 2023 عن كارثة إنسانية تمثلت في مجاعة قاتلة، وحرمان المرضى وكبار السن والحالات الحرجة من أدويتهم، وسط تواتر صادم لحالات الانتحار التي بلغت 55 حالة، خلال عشرة أيام فقط، تنوعت بين الشنق، وقطع الشرايين، وابتلاع الأدوية.
يُركِّز التقرير على تحليل البنية المؤسسية للسجون، من الظروف المعيشية إلى ممارسات التعذيب وسوء المعاملة، ويرصد كيف أن هذه الظروف تتحول إلى عوامل محفِّزة لتدهور الصحة النفسية، من ظهور أعراض الاضطرابات النفسية مروراً بمحاولات الانتحار، وصولاً إلى معاملة المحتجَزين المصابين بأمراض نفسية بقسوة، وحرمانهم من العلاج.
وعلى ذلك، فإن الخروج من السجن لا يعني بالضرورة انتهاء الآثار النفسية للتجربة. فبالنسبة إلى المفرَج عنهم، تبقى جدران الزنازين حاضرة في ذاكرتهم، تتجسد في كوابيس ليلية، وفي خوف دائم من العودة إليها. فالأصوات العالية قد تستحضر لحظات التعذيب، والقيود البيروقراطية تحاكي أوامر الحراس، وأي احتكاك مع السلطات يعيد فتح جروح لم تلتئم. وهنا، لا يقتصر الضرر النفسي على السجين السابق وحده، بل يمتد إلى أسرته. الزوج أو الزوجة والأبناء قد يواجهون أزمة في فهم التحولات السلوكية الناتجة عن التجربة، وقد يضطرون إلى التعامل مع نوبات غضب أو انسحاب عاطفي.
لا يزال كثيرون ينظرون إلى المرض النفسي باعتباره "وصمة عار"، أكثر منه حالة صحية تحتاج إلى رعاية. هذه النظرة السلبية، قد تمنع المريض من طلب المساعدة الطبية خشية النبذ أو التنمر. حتى بعد تجاوز المريض خوفه الأول واللجوء إلى الطبيب، قد يواجه إحباطاً من ردود فعل المحيطين. تسهم الضغوط المجتمعية في إضعاف الالتزام بالخطة العلاجية، وتزيد من احتمالات الانتكاس. وبحسب تقديرات الأطباء، فإن نسب حدوث الانتكاسات، يتعرض لها حوالي 80 في المئة من مرضى الاكتئاب، و90 في المئة من المدمنين، و5 في المئة من مرضى الوسواس القهري.
تقليص المخصصات
لا توجد بيانات بشكل منفصل، توضح مقدار الإنفاق الحكومي المخصص تحديداً لخدمات الصحة النفسية. ومع ذلك، نُشرت دراسة في مجلة "International Review of Psychiatry" المتخصصة في مجال الطب النفسي عام 2024، أشار فيها الباحثون إلى أن الإنفاق الحكومي على الصحة النفسية في مصر يشكل حوالي 2 في المئة من إجمالي الإنفاق على الصحة. وتُخصص نسبة من هذا الإنفاق تصل إلى 59 في المئة، لتغطية تكاليف العلاج في المستشفيات الحكومية.
يبلغ إجمالي عدد الأطباء النفسيين 1106 أطباء فقط. وبالمقارنة مع حجم السكان، يمثِّل هذا الرقم فجوة كبيرة. أما هذا التوسع في عدد المنشآت فلم تقابله زيادة كافية في عدد الأطباء المؤهَّلين. وعلى الرغم من تزايد الحاجة إلى الخدمات النفسية، لا يزال توزيع الأطباء النفسيين غير متوازِن جغرافياً، مع تركيزهم في المدن الكبرى على حساب الأقاليم.
منذ عام 2016، حدث تصاعد كبير في استقالات الأطباء. إذ سجلت نقابة الأطباء حينها 1044 استقالة. ومع حلول عام 2023، بلغت الاستقالات ذروتها، إذ اقترب عددها من حوالي 7000 استقالة. وحتى مع غياب بيانات دقيقة حول استقالات الأطباء النفسيين، فمن المتوقع أن يكون هذا التخصص من بين الأكثر تأثراً، نظراً لندرة كوادره من الأساس.
بلغت مخصصات الصحة في بيان الموازنة العامة للعام المالي 2025-2026، 246 مليار جنيه، وهو ما يعادل 1.2 في المئة فقط من الناتج المحلي، وهو أقل من النسبة الدستورية المقررة التي تبلغ 3 في المئة. وكانت الأمم المتحدة قد انتقدت في تقرير لها أولويات الإنفاق العام في مصر، موضحة أن مخصصات خدمة الدين العام فاقت ما يُنفق على التعليم والصحة مجتمعين.
تحدد لائحة المستشفيات الحكومية نسباً من الأسرَّة المخصصة للعلاج المجاني، وهو أمر يضمن لبعض الفئات غير القادرة، الحصول على الرعاية من دون أعباء مالية. في التعديلات الأخيرة، التي أُجريت في مطلع العام السابق، خُصص 25 في المئة فقط من أسرة المستشفيات الحكومية للعلاج المجاني، على الرغم من أن اللائحة الأصلية كانت تحدد نسبة 60 في المئة. وعلى ما يبدو، فبعد إصدار القرار الجديد، كان هناك إلغاء كامل لهذه النسبة في مستشفيات الصحة النفسية، من دون أي إعلان رسمي أو قدَر من الشفافية. وهو ما يُعتبر تآكلاً تدريجياً لحق العلاج المجاني، الذي يكفله الدستور في مادته رقم 18.
عجز حاد في الأطباء
تُظهِر بيانات "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" أن عدد الأطباء النفسيين العاملين في مصر عام 2021 بلغ 1832 طبيباً. وبحسب بيان لوزارة الصحة عام 2024، فإن عدد الأخصائيين والاستشاريين المسجلين رسمياً في المجلس القومي للصحة النفسية بلغ 849 طبيباً، إلى جانب 187 طبيباً للتقييم الطبي المستقل، و70 طبيباً للتفتيش في المجالس الإقليمية، ليصبح إجمالي الأطباء النفسيين الذين يقدمون الخدمات النفسية 1106 أطباء فقط. وبالمقارنة مع حجم السكان، يمثِّل هذا الرقم فجوة كبيرة.
في الوقت نفسه، كشفت الوزارة عن وجود 223 منشأة صحية نفسية، بطاقة استيعابية تصل إلى 11628 سريراً، منها 4508 في القطاع الخاص، و1747 لعلاج الإدمان في القطاع الحكومي. هذا التوسع في عدد المنشآت لم تقابله زيادة كافية في عدد الأطباء المؤهَّلين. وعلى الرغم من تزايد الحاجة إلى الخدمات النفسية، لا يزال توزيع الأطباء النفسيين غير متوازِن جغرافياً، مع تركيزهم في المدن الكبرى على حساب الأقاليم.
في السنوات الأخيرة، ازدادت المعوقات التي تواجه الأطباء، من ارتفاع أعداد المرضى، ونقص الكوادر، إلى فجوة الأجور مقارنة بعبء العمل والمسؤوليات. ساعات العمل الطويلة، إضافة إلى محدودية الموارد داخل المستشفيات، تجعل بيئة العمل أقل جاذبية على المدى الطويل. هذه العوامل مجتمعة تدفع كثيرين إلى التفكير في الاستقالة، أو البحث عن فرص عمل في الخارج، بحثاً عن ظروف مهنية واقتصادية أفضل.
في عام 2016، كانت هذه البداية، ثم حدث تصاعد كبير في استقالات الأطباء. إذ سجلت نقابة الأطباء حينها 1044 استقالة، ومع حلول عام 2023، بلغت الاستقالات ذروتها، إذ اقترب عددها من حوالي 7000 استقالة. حتى مع غياب بيانات دقيقة حول استقالات الأطباء النفسيين، فمن المتوقع أن يكون هذا التخصص من بين الأكثر تأثراً، نظراً لندرة كوادره من الأساس.