في ظهيرة يوم عادي بوسط القاهرة، وقف محمد - مخرج وثائقي شاب - يحاول التقاط عدد من الصور لبنايات من الطراز البلجيكي في شارع عماد الدين، الذي سُمي قديماً بشارع الفن. كانت البنايات تشبه تلك التي يراها السائحون أثناء زيارة المدن الأوروبية. انبهر الشاب الصغير بحالة المبنى وطرازه المعماري الفريد، وقرر أن يبدأ في البحث والتقصي، لصناعة فيلم يسرد تاريخ المباني، وما آلت إليه في وسط القاهرة.
لم تمهله السلطة في مصر وقتاً لتنفيذ مشروعه، إذ أعلنت عن خطتها لتطوير المنطقة، والتي ربما تؤدي إلى تغيير وجهها المعماري والبصري. توقف المشروع قبل أن يبدأ، في انتظار ما تُسفر عنه خطة الحكومة غير المعلنة، وغير المطمئنة - حسب تعبيره.
في آذار/ مارس الماضي، التقى رئيس الحكومة مصطفى مدبولي ووزير الاستثمار والتجارة الخارجية المصري، وأعلن حينئذٍ عن بحث السلطة كيفية الاستفادة من القاهرة التاريخية كمنطقة جاذبة للاستثمار. بينما في نيسان/ إبريل الماضي، أعلن "مدبولي" عن طرح منطقة مربّع الوزارات بوسط القاهرة للاستثمار (تضم مبان ومنشآت خاصة بـ6 وزارات، إضافة إلى نحو 537 عقاراً بوسط القاهرة مُسّجلاً كطابع معماري تراثي). بحلول حزيران/ يونيو الفائت، وفي خطوة تالية، نشرت جريدة الوقائع المصرية الرسمية قرار وزير الإسكان والمَرافق والمجتمعات العمرانية رقم 598 لسنة 2025، بحذف عقارات في وسط القاهرة وعدد من المحافظات، من سجلات المباني ذات الطراز المعماري المميَّز. وفي حين تُسوَّق القرارات بوصفها مدخلاً لتنمية اقتصادية وتحسيناً للبيئة العمرانية والحضرية، تثار تساؤلات جذرية حول معنى "التنمية" حين تصطدم بمفهوم الذاكرة الحية للمدينة وسُكّانها. ويبرز المشهد بوصفه امتداداً لمسار من سياسات إعادة تشكيل المدينة، وإفراغها من مضمونها الرمزي والتاريخي، لصالح مستثمرين من دول الخليج العربي.
الخديوي السيسي بين عاصمتين
17-09-2014
القاهرة التاريخية، التي تمتد إلى منطقة وسط المدينة، أو كما هي معروفة شعبياً بـ"وسط البلد"، التي أسسها الخديوي إسماعيل في العام 1870، سُجلت كموقع تراث عالمي، حسب السجل الرسمي لمركز التراث العالمي التابع لليونسكو في العام 1979. ولا تمثّل عقاراتها مجرد طابع عمراني فريد، بل تُجسِّد طبقات من التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي المتشابك. لذا فإن إزالة هذا التصنيف عن بعض عقاراتها يمهّد لإعادة تشكيلها، هدمها أو تغيير واجهاتها بما يتلاءم مع رؤية المستثمِر الجديد. الأخطر من ذلك أن أي تغيير قد يحدث ربما يؤدي إلى خروج المنطقة من قوائم التراث العالمي، ما قد يفتح الباب أمام تحولات عمرانية جذرية، قد تُنفَّذ بدون رقابة أو مساءلة أو اتفاق مجتمعي.
ما الذي أدى الى ذلك المشهد؟
في أيلول/ سبتمبر من العام 2019، أعلنت السلطة في مصر عن بدء عمل لجنة مخصصة لحصر الأصول غير المستغَلة المملوكة للدولة، في خطوة اعتُبرت تمهيداً لإعادة هيكلة ملكية وإدارة الأصول العامة. وكشفت اللجنة حينذاك عن حصر 3692 أصلاً، جرى تسجيل 3273 منها ضمن سجلات رسمية تغطي 24 محافظة وخمس وزارات. وتتمثل وظيفتها في تهيئة الأصول للتصرف، سواء من خلال البيع المباشر، أو الإدراج في السوق المالية، أو إعادة توظيفها ضمن مشاريع استثمارية جديدة. ويعكس نص المادة السادسة من قانون صندوق مصر السيادي توجّهاً في إدارة الممتلكات العامة، إذ يمنح رئيس الجمهورية صلاحية نقل ملكية الأصول غير المستغَلة إلى الصندوق، أو إلى أي من الصناديق التابعة والمملوكة بالكامل له.
أظهر هذا التحول التشريعي والإداري توجهاً أوسع لدى السلطة نحو إسناد إدارة الأصول العامة إلى كيانات تبدو شبه مستقلة، وسط تساؤلات مُلحّة حول آليات الشفافية، وأثر ذلك على السيادة الاقتصادية للقاهرة، خصوصاً في ظل بدء الصندوق السيادي في طرح بعض تلك الأصول، بهدف تغطية جانب من الديون - خاصة إلى دول الخليج التي أعطت السيسي منحاً وتبرعات منذ العام 2014، وطالبت بتسويتها لاحقاً - أو عقد صفقات مقايضة بأصول أخرى (وفقا لتقرير حكومي مَطلع العام الجاري، يدير الصندوق أصولاً تقدر بنحو 1.5 مليار دولار، برأس مال مرخَّص يصل إلى نحو 200 مليار جنيه).
القاهرة التاريخية، التي تمتد إلى منطقة وسط المدينة، والمعروفة شعبياً بـ"وسط البلد"، التي أسسها الخديوي إسماعيل في العام 1870، سُجِّلت في العام 1979 كموقع تراث عالمي، حسب السجل الرسمي لليونسكو. ولا تمثّل عقاراتها مجرد طابع عمراني فريد، بل تُجسِّد طبقات من التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي المتشابك. لذا فإن إزالة هذا التصنيف عن بعض عقاراتها يمهّد لإعادة تشكيلها، هدمها أو تغيير واجهاتها بما يتلاءم مع رؤية المستثمِر الجديد.
وسط القاهرة ليس فراغاً عمرانيّاً يمكن تبديله أو تحديثه، بل نسيج تاريخي تتداخل فيه التأثيرات الأوروبية والإسلامية مع الروح المصرية المتوارَثة، ويختزل قروناً من التحولات الاجتماعية/ السياسية التي حملت دوماً جانباً هاماً من التاريخ المصري، مثل ثورة العام 1919، ومعركة تحرير المرأة المصرية، وامتدت الى التاريخ العربي المشترك حين احتضنت - على سبيل المثال - المبنى التاريخي لجامعة الدول العربية.
سابقاً، وفي كانون الثاني/ يناير من العام 2024، نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس الجمهورية رقم 13 لسنة 2024، بإزالة صفة النفع العام عن بعض أملاك الدولة، ونقل ملكية العقارات المنصوص عليها في القرار لصالح صندوق مصر السيادي للاستثمار والتنمية. وتَمثَّل القرار في إزالة الصفة عن مقرات 13 وزارة (نقلت جميع الوزارات إلى مقر العاصمة الإدارية الجديدة)، تقع في مناطق حيوية وهامة في وسط القاهرة، منها القصر التاريخي لوزارة التربية والتعليم المصرية الذي أسسه الخديوي إسماعيل لابنته في العام 1872، ومبنى وزارة الصحة الذي تأسس في العام 1936... ما يعني أنها مبان أثرية وتراثية مسجّلة، محمية بموجب القانون المحلي والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها القاهرة، ولا يجوز تغييرها.
وفي آذار/ مارس من العام 2023، عقد الصندوق السيادي اتفاقاً مع شركة "إيه لتطوير المشروعات العقارية"، يخص المقر التاريخي لوزارة الداخلية المصرية (يتكون من 7 مبان بمساحة بناء تبلغ نحو 39895 متر مربع)، بينما في آذار/ مارس من العام الفائت، انتهت السلطة إلى اتفاق لتحويل مقر مُجمَّع التحرير إلى مبنى فندقي، بتحالف إماراتي/ أمريكي، وتحويل مقر الحزب الوطني القديم على كورنيش النيل في وسط القاهرة إلى فندق مكون من 75 طابقاً بشراكة مصرية/ إماراتية.
وقد أعلن القائمون على الصندوق السيادي في آذار/ مارس من العام الجاري عن مشروع تطوير منطقة وسط البلد، لخلق مركز تجاري وسياحي، بعد توقيع عقد مع تحالف إماراتي/ مصري بقيمة 1.2 مليار دولار لتنفيذ المرحلة الأولى من المشروع، وتشمل تطوير 20 مبنىً تاريخياً. وحسب تقارير صحافية، فإن خطة التطوير الحكومية تشمل أيضاً 70 مقراً، يتم وضعها على أجندة الاستثمار، بنظام حق الانتفاع والشراكة.
نموذج "داون تاون دبي" يَلوح في الأفق
فوجئ محمد بتصريحات أشعلت الغضب في نفسه، إذ أنه، وفي شباط/ فبراير الماضي، أعلن رجل الأعمال الإماراتي، محمد العبّار، عن نيته في الاستحواذ على ملف تطوير منطقة وسط القاهرة، وتحويلها لنسخة شبيهة بـ "داون تاون دبي"، مشيراً إلى أن المشروع قد يستقطب "نصف سكان الكرة الأرضية". لكن ذلك فجّر موجة غاضبة وانتقادات من المختصين في التراث وسكان المنطقة، بل وحتى مرتاديها. فيما أكدت الحكومة المصرية أن تطوير المنطقة جزء من خطة "تصدير العقار" (أعلن عنها في العام 2018، وتستهدف تحقيق مبيعات تتراوح ما بين 2 و3 مليارات دولار سنوياً)، وتم بالفعل تكليف مكتب استشاري - دون إعلان اسمه - لوضع رؤية شاملة. أزعج هذا الأمر المُخرج الشاب، فقد أمضى العامين الماضيين في دراسة أنماط المعمار وتراث المباني في وسط القاهرة، التقى خلالهما بعشرات من المصريين والأجانب الذين أبدوا انبهارهم بذلك التراث المميَز، وبطبقات الزمن التي غطت تلك الأمكنة.

اختلف الخبراء والمختصون أيضاً في ردود أفعالهم تجاه استدعاء نموذج "داون تاون دبي" المعماري الحديث، ورأى بعضهم أن ذلك يحمل دلالة غير مُبشِّرة، خوفاً من أن تُفرَغ المنطقة من مضمونها الثقافي لصالح الشكل المُعولّم، فتفقد ما يميزها عن أي مدينة أخرى. فوسط القاهرة ليس فراغاً عمرانيّاً يمكن تبديله أو تحديثه، بل نسيج تاريخي تتداخل فيه التأثيرات الأوروبية والإسلامية مع الروح المصرية المتوارَثة، ويختزل قروناً من التحولات الاجتماعية/ السياسية التي حملت دوماً جانباً هاماً من التاريخ المصري، مثل ثورة العام 1919، ومعركة تحرير المرأة المصرية، وامتدت الى التاريخ العربي المشترك حين احتضنت - على سبيل المثال - المبنى التاريخي لجامعة الدول العربية.
نقل الوزارات والمؤسسات إلى العاصمة الإدارية الجديدة كان جزءاً من مشروع لإعادة هيكلة الجغرافيا السياسية للمدينة، وتحويل مركزها من فضاء احتجاج إلى منطقة استثمارية خالية من سكانها، خاصة من أبناء الطبقة الوسطى. وسط القاهرة مثّل دوماً حيّزاً للتداخل الطبقي: مقاهٍ شعبية مجاوِرة لصالات سينما تاريخية، بائعو الجرائد قرب المراكز الثقافية، سكان في شوارع خلفية من طبقات مهمَّشة، وغيرهم في شوارع رئيسية من طبقة وسطى أو نخبة مثقفة أو سياسية.
تُسوَّق القرارات بوصفها مدخلاً لتنمية اقتصادية وتحسيناً للبيئة العمرانية والحضرية، لكن تساؤلات جذرية تثار حول معنى "التنمية" حين تصطدم بمفهوم الذاكرة الحية للمدينة وسُكّانها. ويبرز المشهد بوصفه امتداداً لمسار من سياسات إعادة تشكيل المدينة، وإفراغها من مضمونها الرمزي والتاريخي، لصالح مستثمرين من دول الخليج العربي.
يتحدّث المعماريون أيضاً عن ضرورة أن يكون التطوير قائماً على دراسات دقيقة لترميم تلك المباني/ الأمكنة ذات القيمة التراثية. ويشككون في أن يكون ذلك قائماً، بفعل تسارع الخطوات في بعض المناطق، كما في قضية جبانات صحراء المماليك، وهي جزء من القاهرة التاريخية التي بدأت أعمال هدم كثير من مقابرها التراثية بالفعل، لصالح إنشاء كباري أو مدّ طرق جديدة. وحسب تعبيرهم فإن ما يُخشى منه هو أن يتحوّل الترميم إلى تجميل شكلي يُفقِد المباني هويتها الأصلية.
وفي الوقت الذي تسعى فيه السلطة لطرح المنطقة للاستثمار الأجنبي، يتساءل المختصون حول أسباب عدم إسناد مرحلة التطوير إلى شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري التي خاضت تجربة تُصنَّف بالناجحة في مسألة تطوير عقارات اشترتها في وسط القاهرة بغرض استخدامها تجارياً أو إدارياً، إذ تمتلك نحو 25 عقاراً تراثياً، وتسعى لزيادة محفظتها إلى نحو 70 عقاراً خلال السنوات المقبلة - حسب تصريحات مدير الشركة - بما فيها بعض العقارات المملوكة لصندوق مصر السيادي. الشركة التي تأسست في العام 2008، تنتهج ما يسمى "إعادة الاستخدام التكيّفي" في ترميم العقارات التراثية، لتمزج بين الحفاظ على الهوية التراثية للعقارات وتطويرها بما يتناسب مع الوضع الراهن، لكن دون الإخلال بهويتها وروحها، ما يعني أن هناك بديلاً محلياً ناجحاً.
تجربة "الإسماعيلية" نموذجاً مضاداً للهيمنة الخليجية
تنتهج شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري منذ تأسيسها مبدأ الترميم والتطوير لا الهدم، وتُعَد نموذجاً مضاداً، لأنها تتحدى المسار المهيمِن الذي تنتهجه الكثير من شركات التطوير العقاري في القاهرة، وهو مسار يقوم على الهدم، والاستبدال، ومحو الذاكرة المعمارية لصالح تصورات نمطية حديثة تحاكي مدناً أخرى لا تشبه المدينة الأصل.
نموذج "الإسماعيلية" في المقابل يقوم على ركائز مضادة بوضوح، أولها إعادة تأهيل المباني التاريخية مثل سينما راديو العريقة، وإعادة استخدامها كمركز ثقافي فني، وثانيها الدور المجتمعي التشاركي، إذ قدمت عدداً من المبادرات الفعالة مثل جولات وسط المدينة ("دي تور") والتي انطلقت منذ العام 2015، وهي جولة أسبوعية مجانية سيراً على الأقدام مع مرشدين محليين، لاستكشاف وسط المدينة وتاريخها، فيما أطلقت أرشيفاً ثقافياً يوثِّق تاريخ المباني والشخصيات والأحداث البارزة التي شهدتها المنطقة.
أيضاً، أسست الشركة مهرجان "دي-كاف" في العام 2012، ليصبح أول مهرجان للفنون المعاصرة في وسط المدينة، مخصص لجذب الفنانين المصريين والإقليميين والدوليين لمشاركة أعمالهم. ويضم نحو 90 فعالية، وهو منصة تفاعلية سنوية للمنتجين الدوليين لاكتشاف أعمال الفنانين العرب من جنسيات مختلفة. كما أُطلقت مبادرة "خطوط وسط البلد" في العام 2015 بالشراكة مع وكالة "جي والتر ثومبسون" للدعاية والإعلان، في إطار مشروع لإحياء فن الخط العربي في قلب القاهرة التاريخية. وقد هدفت المبادرة الى إعادة تصميم وتقديم الخطوط المستخدَمة في الحي بأسلوب عصري يحافظ على روح التراث بشكل محدَّث، ومشاركتها إلكترونياً مع الجمهور مجاناً.
في المقابل، اقترح رجل الأعمال الإماراتي، "العبّار"، على حكومة القاهرة الشروع في خطة تطوير عمراني شاملة تمتد على مساحة لا تقل عن 40 إلى 50 فداناً في وسط القاهرة، تشمل إعادة تصميم شبكات الشوارع وتأسيس فنادق ومطاعم عالمية، مشيراً إلى تجربة "سوليدير" في وسط بيروت، والتي كانت قد لاقت انتقادات واسعة بالفعل. في السياق نفسه، يسعى عبر شراكته مع السلطة في مصر إلى خلق نسخة مصرية متطورة من نموذج "داون تاون دبي" الحديث الذي يحمل طابعاً أمريكياً ومعمارياً حديثاً لا يتناسب والمدينة التاريخية، وذلك عبر مشروعات تجارية وسياحية تضيف بعداً استثمارياً وسياحياً، يراه مربحاً.
المدينة التي تعاد كتابتها بمعزل عن أهلها
تتجلى منذ صعود السيسي إلى الحكم في العام 2014، ملامح سلطة عمرانية تسعى إلى تفريغ قلب القاهرة القديمة من مضمونها السياسي والرمزي، نتيجة مخاوف واجهتها السلطة إبان ثورة العام 2011، إذ كان وسط القاهرة مركزاً مُحرِّكاً للأحداث، ونقطة لتجمع كافة المحتجين، الذين تلقوا دعماً هائلاً من سكان الشوارع الخلفية لساحة التحرير، والتي بدأت السلطة في معاقبتهم، عبر تهجيرهم القسري من مناطقهم، مثلما حدث في مثلث ماسبيرو.
نقل الوزارات والمؤسسات إلى العاصمة الإدارية الجديدة كان جزءاً من مشروع لإعادة هيكلة الجغرافيا السياسية للمدينة، وتحويل مركزها من فضاء احتجاج إلى منطقة استثمارية خالية من سكانها، خاصة من أبناء الطبقة الوسطى. ومن اللافت أن وسط القاهرة مثّل دوماً حيّزاً للتداخل الطبقي: مقاهٍ شعبية مجاورة لصالات سينما تاريخية، بائعو الجرائد قرب المراكز الثقافية، سكان في شوارع خلفية من طبقات مهمَّشة، وغيرهم في شوارع رئيسية من طبقة وسطى أو نخبة مثقفة أو سياسية.
أعلن رجل الأعمال الإماراتي، محمد العبّار، عن نيته الاستحواذ على ملف تطوير منطقة وسط القاهرة، وتحويلها لنسخة شبيهة بـ "داون تاون دبي". فجّر ذلك موجة انتقادات من المختصين في التراث وسكان المنطقة، بل وحتى مرتاديها، فيما أكدت الحكومة المصرية أن تطوير المنطقة جزء من خطة "تصدير العقار"، وتستهدف تحقيق مبيعات تتراوح ما بين 2 و3 مليارات دولار سنوياً. وكُلِّف مكتب استشاري - دون إعلان اسمه - بوضع رؤية شاملة.
هناك تجربة ناجحة لشركة مصرية - شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري – التي تنتهج منذ تأسيسها مبدأ الترميم والتطوير لا الهدم، وتُعَد نموذجاً مضاداً، لأنها تتحدى المسار المهيمِن الذي تنتهجه الكثير من شركات التطوير العقاري في القاهرة، وهو مسار يقوم على الهدم، والاستبدال، ومحو الذاكرة المعمارية لصالح تصورات نمطية حديثة تحاكي مدناً أخرى لا تشبه المدينة الأصل.
هذا التداخل شكّل نسيجاً اجتماعياً يصعب إعادة إنتاجه في مخططات التطوير التي تُقسِّم الأمكنة حسب منطق ربحي بحت، وتُقصي ما لا يُدرّ دخلاً. لذا فإن تحولات الاستثمار المعلَنة تعيد إنتاج الفضاء العام في المنطقة بمعايير الاستهلاك، حيث تصبح وظيفتها استقبال سائحين أو طبقات اقتصادية عليا. وهي تماثل سياسات رفع الإيجارات، إقصاء فئات من الساكنين، وتخلق هجرة غير معلنة لسكان وسط البلد الأصليين. وأما نقل الوزارات والهيئات السيادية من وسط القاهرة إلى العاصمة الإدارية، فلم يكن مجرد خطوة تنظيمية، بل فعل سلطوي يُعيد تشكيل خريطة النفوذ، ليتحول وسط القاهرة إلى حي تجاري متاح للاستثمار غير المشروط.
المختصين في حفظ التراث طالبوا مراراً بمشاركة مجتمعية مدروسة لكيفية التطوير، لكن السلطة لم تستمع لهم. يتشارك في تلك المخاوف كثير من التجار والسكان في الأحياء المختلفة المُشّكِّلة لوسط القاهرة، وحسب مقابلاتنا مع عدد منهم. فلديهم قلق متصاعِد من إخلائهم القسري تحت ذريعة التطوير، أو دخول عقاراتهم في حيز التنظيم الجديد للمدينة، ما يعني أنها ربما يتم هدمها لتوسعة الطرق أو إعادة استثمارها.
وعلى الرغم من أن المركز الإعلامي لرئاسة الوزراء قد نفى نية الحكومة إزالة المباني التاريخية، لكن يبقى السؤال مطروحاً عن الحق في المدينة، في الذاكرة، وفي السرد. فهل يُمكن كتابة حاضر لا يُقصي ماضيه؟ وهل يستطيع سكان المدينة أن يُعيدوا رسم ملامحها رغم التهديد بالمحو؟