الديار النابلسية بعيون سلافية: جنين ونابلس على عتبة القرن العشرين

وادي نابلس عبارة عن سهل زيتون متصِل، سواء عند مدخل المدينة أو عند بوابة الخروج منها، ويمتد كذلك من سفح جبل عيبال إلى سفح جبل الطور، ثم إلى أبعد من ذلك لعدة أميال. الزيتون هنا عمره آلاف السنين. يصعب أن تجد شجرة أكثر تميزاً من هذه في الشرق، بلونها الأخضر الرمادي الباهت، وجذوعها الغامقة العطرة. يبدو أن أشجار الزيتون في إيطاليا وجنوب شبه جزيرة القرم مختلفة تماماً عن هذه.
2025-06-19

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
مدينة نابلس بين جبلي الطور وعيبال (من كتاب إيفان يوفاتشيف)

نقلتْ ماكينة الترجمة والنشر السوفياتية الضخمة، آلاف العناوين بعشرات اللغات الحيّة حول العالم، والتحقت بها مؤسسات متخصصة بالترجمة والنشر في منظومة الدول الاشتراكية. فإذا كانت العقبة اللغوية قد حالت دون وصول المدونات السلافية عن بلادنا إلى القارئ العربي، فلماذا لم تذللها حركة الترجمة؟ تكمن المشكلة في أن الإدارة السوفياتية كانت انتقائية جداً في الأعمال التي اختارتها للترجمة، وفق معايير سياسية صارمة. كثيرة جداً هي الأعمال التي لا تقلُّ شأناً عن أعمال الأدباء المشهورين التي تُرجمت آنذاك، لكنّها لم تصل إلى القارئ العربي، بل اختفت واختفى أصحابها مع وصول البلاشفة إلى الحكم. أما بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية فلم تُستعد، لأن الترجمة الأدبية والنشر خضعا لمعايير السوق، فاتّبعت الرأسمالية المستجدة سياسة تسليع الكتاب، وبات معظم تلك المدونات منسياً. في إطار ضيق في الاتحاد الروسي، وتحت عنوان أدب الحج إلى الأراضي المقدسة، يعاد طبع بعض تلك الأعمال، وفق قواعد الإملاء الحديثة، وبات الاهتمام بها دينياً ومحصوراً بعدد قليل من الباحثين.

هنا نقدم مشاهدات الكاتبين يفغيني ماركوف وإيفان يوفاتشيف، اللذين زارا بلادنا في العقد الأخير من القرن التاسع عشر.

فلسطين: أرض الضيافة الأبوية

انحدر الكاتب والإثنوغرافي الروسي المتخصص بتاريخ القرم، يفغيني لفوفيتش ماركوف (1835-1903)، من عائلة نبيلة مقرّبة من البلاط. تخرج من "جامعة خاركوف الإمبراطورية" (الآن في أوكرانيا)، وقد لفتت إحدى مقالاته عن مدرسة الأديب الروسي ليف نيقولايفيتش تولستوي (1828-1910)، انتباه وزارة التعليم العام، فعرضت عليه منصباً في الهيئة التعليمية. تولى الإدارة العامة لمدارس مقاطعة تاوريدا (كانت تضم القرم وجوارها) سنة 1865، إلا أنه أُجبر على الاستقالة بعد خمس سنوات بسبب خلاف مع سياسة وزارة التعليم. عمل مديرَ فرع في "بنك أراضي النبلاء والفلاحين"، وكان كثير السفر إلى جميع أنحاء أوروبا والشرق.

الإدارة السوفياتية كانت انتقائية جداً في الأعمال التي اختارتها للترجمة، وفق معايير سياسية صارمة. كثيرة جداً هي الأعمال التي لم تصل إلى القارئ العربي، بل اختفت واختفى أصحابها مع وصول البلاشفة إلى الحكم. أما بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية فلم تُسْتعد، لأن الترجمة الأدبية والنشر خضعا لمعايير السوق، فاتّبعت الرأسمالية المستجِّدة سياسة تسليع الكتاب، وبات معظم تلك المدونات منسياً.

ترك ماركوف عشرات الكتب والبحوث، أما الكتاب الذي ضمّ رحلته إلى بلادنا فصدر في 515 صفحة عن "دار ستانوسلوفيتش" في العاصمة سان بطرسبورغ سنة 1891، وحمل عنوان "رحلة إلى الأماكن المقدسة: القدس وفلسطين، والجليل وضفاف آسيا الصغرى".

يفغيني لفوفيتش ماركوف

حال سببان دون أن تكون رحلة ماركوف إلى فلسطين مريحة، وهما مرض زوجته فجأة والتزامه بجدول مواعيد ضيّق، يقول: "كانت زوجتي تشعر بوعكة صحية شديدة فوق السرج، وكانت بحاجة إلى التوقف والراحة أكثر من أي منا، ولكنها كانت أكثرنا إصراراً على الركوب من دون توقف حتى وصلنا... كانت تعلم أنها ستصاب بمرض خطير، لكن فكرة احتجازها لمدة طويلة هنا، أخافتها أكثر من أي شيء آخر. علاوة على ذلك، فإن قضاء الليل للاستراحة من شأنه أن يدمِّر مسارنا بالكامل، وهو مسار محسوب بالساعة والدقيقة، وإلا سيكون علينا أن ننتظر أسبوعين آخرين حتى تصل الباخرة إلى حيفا، وهو ما كان مستحيلاً تماماً بالنسبة لنا لأسباب عديدة".

يقول وهو في طريقه إلى الناصرة:

استيقظنا قبل شروق الشمس، كما جرت العادة، لكننا تمكنا من نيل قسط وافر من الراحة قبل امتطاء خيولنا. رفض مضيفنا القسّ قبول ما عرضنا عليه من مال مقابل استضافتنا، وواجهنا صعوبة في جعله يقبل بالمبلغ هدية للمدرسة. أثّر فينا هذا العمل الذي قام به عامل الإيمان المخلص. في فلسطين، أرض الضيافة الأبوية، حتى خيمة البدو مفتوحة للغريب، ويعد ذلك أمراً عادياً. هنا انتهت حدود سلطة باشا القدس، وكنا قد ودعنا رجلي الدرك المرافقين لنا أمس، بعدما منحناهما مكافأة على ما قدماه. وبعدما تسلم باشا نابلس رسالة باشا القدس منا، أرسل ضابطاً يسأل عما إذا كنا في حاجة إلى أي شيء، وخصص لنا عسكرياً رشيقاً ذا خبرة كبيرة ليرافقنا. وقد تولى قيادة قافلتنا الصغيرة.

وادي نابلس عبارة عن سهل زيتون متصِل، سواء عند مدخل المدينة أو عند بوابة الخروج منها، ويمتد سهل الزيتون كذلك من سفح جبل عيبال إلى سفح جبل الطور، ثم إلى أبعد من ذلك لعدة أميال. الزيتون هنا عمره آلاف السنين. يصعب أن تجد شجرة أكثر تميزاً من هذه في الشرق، بلونها الأخضر الرمادي الباهت، وجذوعها الغامقة العطرة، الملتوية وكأنها حبال حديدية، تجاعيدها ذات الثقوب كالأبراج القديمة ذات النوافذ الضيقة. يبدو أن أشجار الزيتون في إيطاليا وجنوب شبه جزيرة القرم مختلفة تماماً عن هذه. تنقلنا طوال اليوم بين الأماكن المزهرة والمثمرة. كيفما نظرنا تقع أعيننا على البساتين والحقول، وفي كل مكان توجد أقنية للمياه وخزانات محفوظة من العصور القديمة. لا يوجد شيء مشترك بين لواء نابلس وبين البوادي القاحلة في جنوب فلسطين. هنا ترتفع مزارات الأولياء المسلمين ومساجدهم على كل تل، تبدو مثل قلاع ضفاف الراين. مظهرها يضيف الكثير من الجمال إلى المناظر الطبيعية، وتعيد كتابة التاريخ...

ينتشر الخير في كل زوايا هذه الأرض الريفية المليئة بجميع أنواع الخصوبة. الآبار وخزانات المياه متوفرة بكثرة. ولمنع حرارة الشمس من تجفيف احتياطيات المياه التي لا تقدر بثمن بالنسبة للمسافرين، تُخفى في مكان عميق في الصخر إلى جانب الطرق، وينزل الناس إليها كما لو أنهم يزورون محبسة راهب. من المرتفعات المحيطة بمدينة جنين، انكشفت فجأة أمامنا على مسافة بعيدة، معابد الناصرة ومنازلها البيض. بدت مرتفعة عالياً فوق السهل، بين الخضرة. إلى اليسار، حيث لا يزال الضباب كثيفاً، كان جبل الكرمل بالكاد مرئياً. بدا كنتوء منفصل عن جبال الجليل، يشبه الحصن فوق البحر.

نزلنا إلى وادي جنين عبر قرية قباطية الكبيرة الغنية، وبساتين الزيتون التي لا نهاية لها. الوادي مليء بالصبار الكثيف، وجميع أنواع الأشجار الجنوبية. جرى معنا جدول ماء مُبهج يروي هذه البساتين الرائعة. لم نستطع مقاومة الاستسلام للراحة قليلاً على العشب الحريري، في ظلال الأشجار العطرة، فوق هذا الجدول المتدفق المضياف، الذي أراد الجميع أن يشربوا منه حتى الارتواء.

مجموعة من الفلاحين العرب الفلسطينيين (أرشيف الجمعية الفلسطينية)

مدينة جنين بدت كأنها مدفونة بأشجار النخيل والصبار. منحت مجموعات باسقة من أشجار النخيل، التي تعد نادرة جداً هنا في المناطق الداخلية من البلاد، مظهراً مميزاً وخلاباً لهذه المدينة السورية الجميلة. يعكس مسجدها المتواضع الوحيد ذو القبة الحجرية المنخفضة بساطة العصور القديمة. الناس فيها خرجوا جميعاً إلى الشوارع، على الرغم من حرارة الظهيرة الحارقة. إن صخب السوق وضوضاءه بالنسبة إلى الشرقيين هو مثل الماء بالنسبة للأسماك. استغرق الأمر بعض الوقت حتى وجدنا مكاناً يمكننا أن نرتاح فيه قليلاً وأن نتناول الغداء. كانت الخانات التي أرسلونا إليها مليئة بالناس الصاخبين. بدت غير آمنة، ولم تبق فيها زاوية خالية. فكرنا أنه سيكون من المريح والممتع مئة مرة أن نبقى خارج المدينة، هناك في ظلال النخلات الباردة، بدلاً من التجول في هذه الأسواق المتْربة وسط الحشود الصاخبة تحت أشعة الشمس اللاسعة.

ينتشر الخير في كل زوايا هذه الأرض الريفية المليئة بجميع أنواع الخصوبة. الآبار وخزانات المياه متوفرة بكثرة. ولمنع حرارة الشمس من تجفيف احتياطيات المياه التي لا تقدر بثمن بالنسبة للمسافرين، تُخفى في مكان عميق في الصخر إلى جانب الطرق، وينزل الناس إليها كما لو أنهم يزورون محبسة راهب.

نزلنا إلى وادي جنين عبر قرية قباطية الكبيرة الغنية، وبساتين الزيتون التي لا نهاية لها. الوادي مليء بالصبار الكثيف، وجميع أنواع الأشجار الجنوبية. جرى معنا جدول ماء مُبهج يروي هذه البساتين الرائعة. لم نستطع مقاومة الاستسلام للراحة قليلاً في ظلال الأشجار العطِرة، فوق هذا الجدول المتدفق المضياف، الذي أراد الجميع أن يشربوا منه حتى الارتواء. مدينة جنين بدت كأنها مدفونة بأشجار النخيل والصبار. 

أخيراً، تمكنا بطريقة ما، بصعوبة بالغة، من العثور على مكان فقير للمبيت في فناء أحد الخانات. خصصوا لنا جناحاً فارغاً، بعيداً عن الخان نفسه. كان من الحكمة أن نتوقف عن السفر ليوم في جنين، لنمنح أنفسنا والخيول قسطاً من الراحة، وهو ما أصر عليه جميع الأدلّة المرافقين لنا. لكن الوضع كان مزعجاً والمكان يفتقر إلى النظافة لدرجة أنني أردت الخروج منه متى أمكنني ذلك. بدا لي أنه من المستحيل أن نشوي لحم العجل أو قطعة من الضأن. في السوق، لم نتمكن من الحصول على فخذ خروف واحدة. لكن، في الوقت نفسه، تُعتبر جنين نقطة تجارية مهمة للغاية في البلاد. انتظرنا الساعات الأكثر قسوة من الحر السوري، واستلقينا لبعض الوقت على الأرائك الضيقة، وانعشتنا القهوة الساخنة، وهي الإضافة الممتعة الوحيدة في مؤن سفرنا. كان مرافقونا العرب يخوضون في أحاديث ودية ويحتسون شراباً منعشاً منشِّطاً، وبدوا على النقيض منا، قد أخذوا معهم الانطباع الأكثر إرضاءً عن جنين ووسائل الراحة فيها.

يوفاتشيف: سعفة فلسطين المقدسة

هجر الكاتب الروسي إيفان بافلوفيتش يوفاشيف (1860-1940)، أفكاره الثورية المناهضة للقيصر، وترك حركة "إرادة الشعب" التي آمنت بالإرهاب سبيلاً لقلب النظام في روسيا، وقدّم مراجعة علنية لأفكاره، فقبلته الكنيسة. بعد هذا التحول الجذري، بات يعالج المسائل الدينية في مقالاته. ضمّ كتابه "الحج إلى القبر المقدس في فلسطين: مقالات عن رحلة إلى القسطنطينية وآسيا الصغرى وسوريا وفلسطين ومصر واليونان"، مذكرات رحلته المشرقية التي قام بها ربيع العام 1900، وكان قد نشر مادة كبيرة منها في الأعداد السبعة الأخيرة من دورية "النشرة التاريخية" سنة 1902. عملياً، انتظر إذن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أربع سنوات بعد الرحلة ليتمكن من نشر مذكراته في كتاب، وحدث ذلك في 25 نيسان/ فبراير 1904. أدرج في الكتاب 126 صورة ورسماً تطبيقياً، حصل عليها من مساعد رئيس "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" نيقولاي ميلفيتش أنيتشكوف (1844-1916).

رغب يوفاتشيف في تحديث دليل الحاج الروسي، أو كما قال وفق تعبيره: "لاستكمال صورة فلسطين، أعددتُ أوصافاً لجميع أماكن العبادة الرئيسة للحاج الروسي تقريباً، ولكن مع حذف العديد من التفاصيل والإشارات التاريخية الطويلة، والتي تتكرر كثيراً في الأعمال الموجودة المخصصة للأرض المقدسة. لكنني سمحت لنفسي أن أفسح بعض المجال للذكريات الكتابية المتعلقة بالأماكن التي يمرّ بها الحجاج... باختصار، حاولت أن أعبِّر في مقالاتي بشكل رئيسي عن انطباعاتي الشخصية، ودونتُ ما رأيته بعيني وسمعته بأذني خلال شهرَي الرحلة في الشرق".

إيفان بافلوفيتش يوفاتشيف

في الطريق من الناصرة إلى القدس، وبعد عبوره مرج بني عامر، في الأسبوع الأخير من آذار/ مارس 1900، يقول يوفاتشيف:

"وصلنا إلى قرية برقين، حيث كانت توجد كنيسة أرثوذكسية صغيرة... بالقرب من مدينة جنين، التي تقع أيضاً على الطريق من الناصرة إلى القدس. قرية برقين على تلة فوق واد يتدفق فيه نهر جبلي صغير. حولنا غابة كثيفة من جميع الجهات. وتظهر الحبوب غير المحصودة، وأشجار النخيل، وأشجار التين والزيتون. على الرغم من التعب الذي أصابني، إلا أنني شعرتُ برغبة في التجول في المنطقة. نزلت من الجبل إلى النهر. هناك وجدت نساء عربيات يسكبن الماء في جرارهن الطينية السود، ويضعنها فوق رؤوسهن بمهارة، ويدخلن إلى القرية. تحلَّق حولي الأطفال، وجاء أحد العرب يحمل حزمة من سعف النخيل، اشتريتُ منه سعفة طولها نحو قامتين. قطعت قسمها العلوي للحفاظ عليه، باعتباره سعفة من فلسطين، ومن طرفها السميك صنعت عصا أتكئ عليها".

استراحة قافلة الحجاج، مرج بني عامر، 1890 (أرشيف الجمعية الفلسطينية)

تجدر الإشارة إلى الأهمية الكبيرة لحمل الحاج السلافي العائد إلى بلاده سعفة من النخيل الفلسطيني، حيث غدا مصطلح حامل "سعفة فلسطين" مرادفاً للحاج، إذ يحتفظ الحاج العائد بهذه السعفة في منزله قرب أيقونة قدِّيسه، ليتبارك بها. وقد نظم لها أحد كبار الشعراء الروس، ميخائيل ليرمنتوف، في 20 شباط/ فبراير 1837، قصيدته الشهيرة "سعفة فلسطين"، يقول فيها: " قولي لي: أي يد ورعة حملتكِ إلى هذه الأرض؟/ أغرق صاحبها في الحزن وهو يحملك؟ أتختزنين أثر دموعه الحارقة؟...".

وصلنا إلى قرية برقين، حيث كانت توجد كنيسة أرثوذكسية صغيرة... بالقرب من مدينة جنين، التي تقع أيضاً على الطريق من الناصرة إلى القدس. قرية برقين على تلة فوق واد يتدفق فيه نهر جبلي صغير. حولنا غابة كثيفة من جميع الجهات. وتظهر الحبوب غير المحصودة، وأشجار النخيل، وأشجار التين والزيتون.

نابلس أكبر المدن على طول الطريق من الناصرة إلى القدس، وفيها العديد من مصانع الصابون وتجارة محترمة نسبياً... عبرنا المدينة بسلام، وصلنا سريعاً إلى منطقة مسيّجة تابعة لبطريركية الروم الأرثوذكس. هنا كانت بئر يعقوب القديمة، حيث استراح بالقرب منها يسوع المسيح وتَحدَّث مع المرأة السامرية... 

يتابع يوفاتشيف: كانت جميع المنازل والساحات الأقرب إلى الطريق مشغولة بالحجاج. عرض عليّ قسّ عربي محليّ منزلا أبيت فيه. المنزل عبارة عن كوخ ذي غرفة واحدة، فيه أسرّة من الطين على طول جدارين وأرضية ترابية وسقف خشبي. بدلاً من النافذة يوجد ثقب في جداره. لا زخارف فيه ولا أثاث سوى حصيرتين من القشّ أو ثلاث. وكان المالك، أي القسّ المسن المريض، يعيش في غرفة أخرى أكبر حجماً، وقد تجمهر حولها الكثير من الناس وباتوا هناك ليلتهم. اهتم بعض الناس الرحماء بالكاهن المريض وطلبتُ من القوّاس أن يبحث عن طبيبنا ويحضره ليكشف عليه. وفي تلك الأثناء، جاءتني نساء عربيات يعرضن عليّ طهو أو خبز شيء ما لأتناوله كعشاء. أظنّ أنهن من عائلة الكاهن. لقد صدمني فقر البيئة المحيطة. في فلسطين، جميع رجال الدين الريفيين هم من العرب المحليين، وهم فقراء ضعيفو التعليم أما رجال الدين المسيطرون، من البطاركة والمطارنة والأساقفة ورؤساء الرهبان، فهم من اليونانيين. اليونانيون متسلطون هنا، ويحصدون أموال الأماكن المقدسة، فيشترون لأنفسهم مناصب مميزة وألقاباً فخرية...

خرجتُ لمشاهدة الحياة الريفية للسكان. في الزقاق الأول صادفت أفران الخبز المحلي. الفرن عبارة عن حفرة طينية، فيها فتحة على شكل قوس، طول قاعدته أرشين ونصف [أرشين = 71 سم]. أولاً يقومون بتسخين الحجارة فيه، ثم يضعون رقاقات العجين، ويغلقون الفرن حتى تخبز داخله. انتشرت رائحة الخبز الطازج والدخان اللاذع في الشوارع. كان جميع الحجاج قد استقروا في أماكنهم، وها هم يتناولون العشاء. يمكن سماع محادثاتهم الحيوية في جميع أنحاء الساحات المسوَّرة، وفي محيط الكنيسة المحلية... حلّ الظلام فعدتُ إلى كوخي ذي الغرفة الواحدة وطلبت من المرأة العربية أن تحضّر لي شيئاً للعشاء...

وفي اليوم التالي، قبل الفجر بوقت طويل، استيقظ الحجاج وانطلق بعضهم على الفور في الظلام ليكونوا أوائل الواصلين إلى المحطة التالية. وغادر بقية الجماعة عند الفجر. الطريق يمر عبر سبسطية، حولها ينابيع ماء والخضرة في كل مكان. في بعض الأماكن، سرنا عبر حقول القمح التي نمت فيها السنابل، وفي أماكن أخرى بدأ الحصاد. كانت حميرنا وبغالنا وخيولنا متلهفة للوصول إلى القمح الناضج... من الصعب إرغام الحمار، هذا الحيوان العنيد، على السير في المسار المقصود وبالسرعة المطلوبة. بدلاً من البردعة (الجِلال)، يضع العرب الفقراء وسادة سميكة وواسعة على ظهر الحمار، وبالكاد يمكن للراكب لف ساقيه حولها. الرِكابان مرتفعان [الرِّكاب: حَلقة من حديد جهتها السفلى مفلطحة يضع فيها الراكب قدمه]، مما يجبرك على ثني ساقيك، وإذا ما قمت بتمديدهما، فأنت تخاطر بكسر الرِّكاب. لقد حدث لي هذا مرتين. لحسن الحظ، لم أسقط من ظهر الحمار...

يحمل الحاج السلافي العائد إلى بلاده سعفة من النخيل الفلسطيني، وقد غدا مصطلح حامل "سعفة فلسطين" مرادفاً للحاج، ويحتفظ بهذه السعفة في منزله قرب أيقونة قدِّيسه، ليتبارك بها. وقد نظم لها أحد كبار الشعراء الروس، ميخائيل ليرمنتوف، في 1837، قصيدته الشهيرة "سعفة فلسطين"، يقول فيها: "قولي لي: أي يد ورعة حملتكِ إلى هذه الأرض؟/ أغَرق صاحبها في الحزن وهو يحملكِ؟ أتختزنين أثر دموعه الحارقة؟...". 

سبقتُ القافلة متعمداً لمراقبة بيع الماء المغلي. هناك ثلاثة أو أربعة مراجل سود بالقرب من الطريق. بقربها نساء عربيات مع أطفالهن، بعضهم يجمع الحطب بجد، وبعضهم الآخر يحمل الماء. النيران تشتعل بلهيب هائل. ويأتي الحجاج الأوائل فيأخذون الماء المغلي بسرعة. فتملأ النساء على الفور حلل المراجل بالماء البارد. في هذه الأثناء، يقترب المزيد والمزيد من الحجاج، ويحيطون بالمراجل حاملين أباريقهم. لا يسألون إن كان الماء قد غلى أو لا، بل يأخذون الماء الساخن، ولا تستطيع النساء العربيات تلبية جميع طلباتهم. وهكذا، يشرب معظم الحجاج الماء غير المغلي، مما يؤدي إلى اضطراب عملية الهضم لديهم. لحسن الحظ، أنا لا أشرب الشاي، ولذلك لم أضطر إلى اللجوء إلى النساء العربيات للحصول على ذلك الماء غير المغلي. لكنني كنت أشرب الماء مباشرة من الينابيع والآبار والخزانات، إلا أنني لم أعانِ قط من أي مرض أثناء سفري في فلسطين...

يُقال إن المسافة من برقين إلى سبسطية تبلغ نحو خمسة وعشرين فرست. وقد أبلغ قادة القافلة الحجاج من أننا لن ندخلها. اليوم، 28 آذار/ مارس، هو يوم وقفة الأضحى، العيد الإسلامي الكبير، ولذلك قالوا إنه يجب علينا أن نسارع إلى محطتنا الليلية قبل حلول الظلام لتجنب مواجهة التعصب الإسلامي... على بعد عشرة أميال من نابلس، جمع قادة القافلة الحجاج كلهم، وطلبوا منهم عدم التفرق، حتى لا يتمكن سكان نابلس المسلمون من الإساءة إلى المتخلفين عن الركب. وطلبوا منا أيضاً عدم التوقف، حتى لو كان العرب يبيعون الطعام. انضم إلى قافلتنا جندي تركي على حصان عربي رشيق، ربما أرسلته الإدارة التركية. ولأن عيد الأضحى الإسلامي غداً، أرسل ممثلو الجمعية الفلسطينية برقية يطلبون فيها من السلطات التركية حماية الحجاج الروس من الإهانات المحتمِلة. يقال هنا إنه خلال الحرب الروسية-التركية الأخيرة، أرسلت مدينة نابلس فوجاً كاملاً، ويُفترض أنه لم يعد منه شخص واحد. ومنذ ذلك الحين، ما عاد سكان هذه المدينة ينظرون إلى الروس بلا مبالاة. وبالنظر إلى الحركات المضطربة لدى قائد القافلة ومساعديه، وهم لا يَثبتون في مكان، يمكن للمرء أن يستنتج أن مخاوفهم كانت جدية بالفعل. والحجاج، الذين لا يلتزمون عادة بالنظام على الطريق، ساروا هذه المرة في حشد متماسك، إذ لا يوجد سبيل آخر لمتابعة طريقنا إلا عبر مدينة نابلس، الواقعة بين جبلي الطور وعيبال. وبفضل البرقية، تمركزتْ القوة التركية على جانبي الطريق إلى المدينة. وكان لا بد من أن يخرج الناس بأعداد كبيرة لاستقبال القافلة، لكنهم لم يرموها الحجارة بل رافقوها بعبارات مهينة.

نابلس أكبر المدن على طول الطريق من الناصرة إلى القدس، وفيها العديد من مصانع الصابون وتجارة محترمة نسبياً... عبرنا المدينة بسلام، وصلنا سريعاً إلى منطقة مسيّجة تابعة لبطريركية الروم الأرثوذكس. هنا كانت بئر يعقوب القديمة، حيث استراح بالقرب منها يسوع المسيح وتَحدَّث مع المرأة السامرية...

مقالات من فلسطين

النار في تلّ أبيب

2025-06-19

ما اعتدنا رؤيته من نار وركام في قلب مدننا وقرانا، نراه في الأرض المحتلة. هذه النار في تل أبيب.. هذه صور للتاريخ..

أفراح الطحين.. ومصائده

استُشهد العشرات من منتظري المساعدات في المكان نفسه، قرب "دوار السودانيّة"، شمال غرب غزّة، بعد إعدامهم مباشرةً من جنود الاحتلال، حيث نُصبَ لهم كمينٌ، برمي كثيرٍ من أكياس الطحين في...

للكاتب نفسه

الرحلة السلافية إلى الديار النابلسية: في الطريق إلى الناصرة

فُرِضتْ الانجليزية والفرنسية على أهل بلدان المشرق بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب الكونية (1914-1918)، وقد اتخذ الاحتلال الإنكليزي–الفرنسي للبلاد طابع "الانتداب"، وكان ممهِّداً لاحتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية....

المشهد البيروتي قبل غزو 1941 وبعده

شكّلت الحرب تجربة قاسية للطبقات الوسطى غير التجارية، ولأصحاب المداخيل الثابتة (ملاّكون، موظفون في القطاعين الخاص والعام، أصحاب مهن حرة، متقاعدون...). ويرى الباحث جبرائيل منسى أن العمال، وعلى الرغم من...

الديار النابلسية بعيون سلافية (2)
فرانتيشيك كليمنت: أهل نابلس شديدو الغضب والتمرد

يرى "كليمنت" أن "الناس لا يقصدون فلسطين للترفيه عن أنفسهم، ولكن بهدف الاستكشاف والمعرفة، ونستثني من ذلك الحجاج المتدينين... وهو يرفض التوجه الصهيوني الرامي إلى استعمار فلسطين، يقول: "إن فكرة...