إعداد وتحرير: صباح جلّول
تابعنا جميعاً على امتداد الأسبوع الماضي مسار السفينة "مادلين" التابعة لتحالف أسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة، إلى أن اقتربَت من القطاع المحاصَر في المياه الدولية قبالة الشواطئ المصرية، حيث قُطع الطريق عليها من قبل زوارق إسرائيلية، اقتحم جنودها السفينة واختطفوا كل مَن عليها. جرّ الاحتلال السفينة قسراً إلى ميناء "أسدود" ورُحّل قسم من الناشطين الإثني عشر على متنها إلى بلدانهم، بينما يبقى 8 منهم محتجزين حتى اللحظة، لرفضهم التوقيع على أوامر الترحيل التي تدّعي زوراً دخولهم بشكل غير شرعي إلى المياه "الإسرائيلية"، وهو كذب كامل من جهة الاحتلال الذي بادر هو بخرق القوانين الدولية بشكل فاضح، مهاجِماً السفينة في المياه الدولية، ما يعد جريمة دولية. وقد حذّر مركز "عدالة" القانوني صباح يوم 11 حزيران/يونيو من أن الناشطين الباقين قد يواجهون حبساً غير قانوني لمدة تمتد لشهر، وأن لا أساس لأي من الادعاءات الإسرائيلية ضدهم.
"مادلين" تتحدى الحصار
07-06-2025
هذا هو الوضع الآن، في لحظة كتابة هذه السطور... ربّما كان الأسطول حلماً صعبَ التحقق مع وجود كيانٍ متوحش لا يقيم اعتباراً للقانون الدولي، لكن عدم المحاولة إطلاقاً وإفقاد الناس الأمل بأية محاولة هي شيء كالجريمة، في ظلّ المقتلة المرعبة المستمرة في غزة. وهكذا، لم يكن مصير السفينة "مادلين" ليثني محاولات أخرى انطلقت في الفترة ذاتها، وإن بدون تنسيق مسبَق بين هذه الجهات، لكن بروحية مشابهة، لا تدّعي القدرة على "إنقاذ" غزة، لكنها تدعي القدرة على "المحاولة": محاولة إيصال المعونة على الأقل لشعبٍ مجوّع محاصَر، ومحاولة تحدي فِكرة الحصار نفسها، لتشجيع كسره على مستوياتٍ أخرى والتجرّؤ عليه. فها هي قافلة "الصمود" تنطلق من دول مغاربية متجهة برّاًـ بالآلاف- إلى غزّة.

وُلدت فكرة القافلة منذ حوالي ثلاثة أشهر من قبل عدة ناشطين مستقلين، يساريين وغيرهم من المتضامنين، وقد كان كثر يعتبرونها حتى أسابيع قليلة "مشروعاً غير واقعي"، لكن إصرار النواة المؤسِسة للمجموعة - أي المشرفين على "تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين"- جعل من الأمر ممكناً، مع ازدياد الإصرار على تحقيقها بشكل خاص بعد تعثر أغلب المبادرات الشعبية العربية والعالمية لكسر الحصار وقصف سفينة "الضمير" التابعة لأسطول الحرية.

انطلقت القافلة الإنسانية الضخمة من العاصمة التونسية في صباح الاثنين 9 حزيران/ يونيو الجاري، في اتجاه قطاع غزة، في مبادرة مدنية شعبية غير مسبوقة على المستوى المغاربي. وكانت القافلة قد بدأت كمبادرة تونسية، قبل أن تنضم إليها "التنسيقية الجزائرية الشعبية لنصرة فلسطين"، لتتحول إلى قافلة تونسية-جزائرية، وتكتسب بعداً مغاربياً أوسع مع انضمام مشاركين من ليبيا وموريتانيا، بل وحتى من الجاليات المغاربية المقيمة في أوروبا التي حجز بعض أبنائها بطاقات سفر لملاقاة القافلة.
كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟
04-01-2024
قافلة الصمود هي مبادرة قاعدية مستقلة، لا تتبع جهة سياسية بعينها، بل تحظى بدعم واسع من منظمات نقابية وحقوقية ومهنية، إلى جانب تأييد شعبي هائل، عبّرت عنه الحشود التي استقبلت القافلة على طول مسارها داخل الأراضي التونسية بالهتاف والدموع والانضمام إلى صفوفها. ويبدو أن السلطات الرسمية أمنت بعض التسهيلات اللوجستىة والأمنية رغم أنها لا تتبنّى هذه المبادرة، مما ساهم في نجاحها العابر للحدود.
يشارك في القافلة 1500 شخص، على متن 14 حافلة و100 سيارة تقريباً، حسب المتحدث باسم القافلة غسان الهنشيري. وقد التحقت القافلة الجزائرية بالتونسية في الأراضي تونسية عشيّة انطلاق القافلة، لتبدأ الرحلة الكبرى في صباح يوم الاثنين من العاصمة تونس، مروراً بمحافظات سوسة، صفاقس، قابس، ومدنين، وصولاً إلى المعبر الحدودي "رأس جدير" مع ليبيا، مساء الاثنين.


دخلت القافلة الأراضي الليبية فجر الثلاثاء 10 حزيران/يونيو، حيث يُنتظر أن تمر بعدّة مدن ليبية باتجاه الحدود الليبية-المصرية. تتيح القافلة كذلك تتبع مسارها على رابط على موقعها الإلكتروني. وهي تأمل التوجه بعد ليبيا نحو مصر، فمعبر رفح، بوابة غزة - إذا سمحت السلطات المصرية بذلك، وهو ما يبدو احتمالاً مستبعَداً في ظلّ التطورات الأخيرة. فقد بدأت السلطات المصرية بالفعل بعرقلة مسار القافلة قبل وصولها الأراضي المصرية حتى، بتوقيف المشاركين والناشطين القادمين بالطائرات من دول العالم للالتحاق بزملائهم القادمين براً. في مطار القاهرة، احتُجز عدد من الأجانب الواصلين إلى مطار القاهرة يوم الأربعاء 11 حزيران/يونيو لأكثر من 3 ساعات، ومن ضمنهم وفد من محامين جزائريين وناشطين من الجنسيات المغربية والتونسية والألمانية والفرنسية والتركية والأسترالية، قبل أن يُرحّلوا رغم حصولهم على التأشيرات اللازمة لدخول الأراضي المصرية، ورغم عدم بدء مشاركتهم في أي عمل سياسي أصلاً. في مطار القاهرة، هتف بعض الموقوفين المغاربة "يا للعار، يا للعار، باعوا غزّة بالدولار" و"كلنا فِدا فِدا، غزة غزة صامِدة"، وذلك أمام توقيفات وترحيلات بأعداد كبيرة، عُرف منها حتى الآن 40 جزائرياً، والبعثة النسائية التونسية، وعدد كبير من المغاربة الحاصلين على تأشيرات سياحية، بالإضافة إلى مشاركين من جنسيات أخرى. لم تكتفِ السلطات بذلك فحسب، بل قبضت على وفد البعثة الفرنسية من فندق "داونتاون"، حسب موقع "بلاست" الإخباري، وتواردت أخبار عن عمل شبيه في فندق آخر وسط القاهرة، حيث ألقي القبض على بعض المواطنين الأتراك الذي كانوا يحملون علماً فلسطينياً، بحسب شهود عيان.
أصدرت الخارجية المصرية بياناً مساء يوم الأربعاء، قالت فيه إن مصر ترحب "بالمواقف الدولية والإقليمية، الرسمية والشعبية، الداعمة للحقوق الفلسطينية والرافضة للحصار والتجويع والانتهاكات الإسرائيلية السافرة والممنهجة بحق الشعب الفلسطيني بقطاع غزة"، قبل أن يتذرع البيان بما سماه "الضوابط التنظيمية والآلية المتبعة منذ بدء الحرب على غزة، وهي التقدم بطلب رسمي للسفارات المصرية في الخارج أو من خلال الطلبات المقدمة من السفارات الأجنبية بالقاهرة أو ممثلي المنظمات إلى وزارة الخارجية"، وذلك "لدقة الأوضاع في تلك المنطقة الحدودية" منذ ما سمّاه "بداية الأزمة في غزة" – مع العلم أن جميع من أوقِفوا ورُحلوا من حملة التأشيرات النظامية اللازمة.


خريطة مسار القافلة في ليبيا، ومحطة القافلة يوم الثلاثاء في 10 حزيران/يونيو 2025 في منطقة الزاوية في ليبيا، حيث رحب بها الأهالي بحفاوة (الصور عن صفحة "التنسيقية الجزائرية الشعبية لنصرة فلسطين" على فيسبوك).
أمّا نيّة القافلة في حال عبورها من مصر بالفعل، فهي التوجه في مسيرة على الأقدام نحو العريش، ومن ثم إقامة اعتصام مفتوح والضغط لفتح المعبر وإدخال المساعدات. وقد نظمت القافلة حملة تبرعات عينية خلال الأسابيع الماضية لغزة، بينما تم تمويل الاستعدادات اللوجستية عبر مساهمات ذاتية ودعم شعبي. ومن بين أبرز المشاركين في هذه القافلة بهشتي إسماعيل سونغور، رئيس جمعية "مافي مرمرة" التركية، والذي كان ضمن الطاقم المسؤول عن سفينة "الضمير" التي تعرضت لهجوم بالمسيّرات من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ أقلّ من شهر.
تصب هذه القوافل في جهود مبادرة عالمية تنظم نفسها منذ أسابيع عدة تحت عنوان المسيرة العالمية إلى غزة.
"ضمير العالَم" تحت القصف الإسرائيلي
08-05-2025
يقدّر أن عدد المشاركين فيها قد جاوز 3200 مشارك من 54 دولة حول العالم. لا تُدار هذه المبادرات، التي قد تبدو للمراقِب مستحيلة، بالأوهامِ والتمني. إنها إعلانُ إنسانية أريد لها التبدد والانشغال بذاتها الفردية حصراً، في عالم يطبّع التوحش والبربرية. إنها علامة بليغة جداً عن معنى أن تكون إنساناً يهتم بإنسان لم يلتقه قطّ، وافتعال المحاولات من أجله ومن أجل نفسك، دون ادعاء بطولات. كما قالت غريتا ثونبرغ سابقاً أثناء رحلة السفينة "مادلين"، فإن عدم المحاولة والتفرج على الإبادة مباشرة هي أكثر خطورة من المحاولة، وأكثر خطورة من الذهاب في رحلة – براً أو بحراً - لفك الحصار.