إعداد وتحرير: صباح جلّول
"في اللحظة التي نتوقّف فيها عن المحاولة، نكون قد خسرنا إنسانيتنا. ومهما بلغت خطورة مهمّتنا، فهي لا تقارب خطورة أن يصمت العالم بأسره عن إبادة جماعية تُبثّ بشكل حيّ". هكذا قالت المناضلة والناشطة المناخية السويدية البالغة من العمر 22 عاماً، غريتا ثونبرغ، في المؤتمر الصحافي السابق لإطلاق أسطول الحرية لرحلة سفينة "مادلين" الهادفة إلى كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة. كانت الغصة في صوتها واضحةٌ وضوح ثقل المسؤولية التي يحملها المتطوعون الإثني عشر الذين ركبوا البحر في مهمّة متحدية للغطرسة الإسرائيلية – مهمّة كسر الحصار وإيصال الطعام والمعدات الطبية والصحية إلى قطاع يُباد أهله.
مقاوَمات.. لإنهاء الحصار والإبادة
22-05-2025
يعرف كلّ من على متن السفينة أن ما يحملونه ليس كافياً بأي شكل من الأشكال لإطعام وإغاثة كامل غزّة، لكنهم يريدونها بداية لسلسلة رحلات إغاثية، ولإثبات أن هذه المحاولات ضرورية أمام القمع المطلَق لأي جهود إغاثية حقيقية، سوى تلك المهينة والمجرِمة، و"السايكوباتية" (المختلة نفسياً)، التي تديرها الشركات الأميركية الخاصة في نقاط توزيع الطعام القصيّة، والتي يذهب ضحيتها الغزيون الجوعى بين شهيد وجريح...



في هذه الشروط الإسرائيلية-الأميركية التي تتجاوز بالفعل أكثر المخيلات السادية تطرفاً، أبحرت يوم الأحد في الأول من حزيران/يونيو الحالي سفينةٌ واحدة عليها 12 شخصاً فقط، من ميناء كاتانيا في جزيرة صقلية الإيطالية. سارت في الأفق المفتوح، تحيطها زرقة البحر والسماء... وهدير المسيرات! فقد بلّغ ركاب السفينة جميع الجهات المعنية مساء الثلاثاء عن ملاحقة مسيّرة لهم في الجو (ادعت السلطات اليونانية في وقت لاحق أنها مسيرة يونانية، غير أن الناشطين يعتقدون أنها قد تكون إسرائيلية أُطلقت من اليونان). واتخذ أعضاء المهمة إجراءات السلامة اللازمة تخوفاً من هجوم إسرائيلي واردٍ جداً، مع العلم أنه وقبل شهر تقريباً، حدث ذلك بالفعل مع سفينة "الضمير" التي انطلقت إلى غزّة وقُصفت من مسيرتَين قرب مالطا، مما أدى إلى ثقب في المركب وتعريض حياة ركابه إلى الخطر- وهو عدوانٌ إرهابي لم تعترف به دولة الاحتلال حتى اللحظة.
"ضمير العالَم" تحت القصف الإسرائيلي
08-05-2025
لا ينسى تحالُف أسطول الحرية أيضاً كيف هاجم الاحتلال الإسرائيلي، منذ 15 عاماً، سفينة "مافي مرمرة"، إحدى سفن أسطول كسر الحصار عن قطاع غزّة، وقتل 10 من المناضلين الأتراك على متنها. مذاك، فالسياسة الإسرائيلية تجاه الجهود السلمية لكسر الحصار واضحة: إغاثة غزّة ممنوعة، والجهود السلمية والإغاثية هدفٌ إسرائيلي لا يتردد الاحتلال في سحقه بشتى الأساليب العنفية.
لكن ذلك لم يمنع رحلة جديدة – محاولة ضرورية جديدة. في صقلية، تجمّع الناس لدعم المناضلين الذاهبين على متن السفينة "مادلين"، وأنشدوا مشجِّعين "الحرية لفلسطين".
في الطريق إلى غزّة
أتاح تحالف أسطول الحرية إمكانية تتبع مسار السفينة "مادلين" لحظة بلحظة عبر رابط إلكتروني، وهو ما سمح للمتابِعين ملاحظة تغير مسارها المفاجئ يوم الأربعاء في 4 حزيران/يونيو. ثمّ اتضح سريعاً سبب هذا الانحراف في المسار. فقد تلقّت السفينة "مادلين" نداء استغاثة عبر طائرة مسيّرة تابعة للوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل، حول قارب منكوب، تبين أنه قارب مطاطي لمهاجرين في عرض البحر، يفرغ من الهواء بشكل سريع يهدد حياة من عليه، مما دفع السفينة إلى التدخل وتغيير مسارها، انسجاماً مع مبادئ كلّ مَن عليها، كما عبّر الناشطون.
مع حضور خفر السواحل الليبي، ازدادت المخاوف من إعادة اللاجئين إلى ليبيا قسراً (وهو ما يُعدّ انتهاكاً للقانون الدولي). وساهم طاقم السفينة "مادلين" بإنقاذ 4 من اللاجئين السودانيين الذين قفزوا في البحر عند رؤيتهم للسلطات الليبية، قبل أن يتواصل مع منظمات البحث والإنقاذ غير الحكومية لتقديم المعونة للمهاجرين.
وأثناء معاودة السفينة التوجه إلى مسارها الأصلي، نشرت عضو البرلمان الأوروبي، والناشطة الفرنسية من أصول فلسطينية، ريما حسن - وهي إحدى المتطوعات على السفينة المتجهة إلى غزّة - رسالة مصوّرة على انستغرام، قالت فيها إنّ الجيش الإسرائيلي هدَّد السفينة بمركب كوماندوس متجه نحوها لاعتقالهم أو إيقافهم، وطالبت دول كل من المواطنين المتواجدين على السفينة التدخل فوراً لضمان المرور الآمن للسفينة إلى غزة، كما ناشدت مواطني هذه الدول الضغط على حكوماتهم عبر حملة واسعة لتوجيه رسائل إلكترونية تطالب ممثِليهم في الجهات المعنية بالضغط لتأمين مسارها...
تُبحر "مادلين" الآن في عرض البحر، وقد أُعطِيت اسم مادلين كُلّاب، ابنة غزّة، الصيادة المحترِفة الأصغر في العالم، والصيادة الفلسطينية الوحيدة، التي صارت رمزاً لصلابة أهالي غزّة وسعيهم الدائم للحياة. تُبحر "مادلين" وعلى متنها أجيال جديدة تكمل طريقَ مَن سبقوا، ومَن عرّضوا حياتهم للخطر لأنّ ثمّة ما هو أعظم من أن يُسكَت عليه. وهي تحمل ناشطين وأطباء وصحافيين، مهمتهم إيصال الغذاء والدواء إلى غزة لكسر الحصار والتجويع الممنهج – أحد أدوات الإبادة الصهيونية الرهيبة، لأنهم أخذوا على عاتقهم مهمة مساندة الذين بقوا وحدهم في مواجهة العالم، في عراء كامل تحت النار، وفي جوعٍ وألم وإبادة.

مناضلة، لا أيقونة
تتعامل وسائل الإعلام في هذه الأثناء مع غريتا ثونبرغ كنجمة الأسطول، هي التي حازت إعجاب العالَم في ثورتها على سياسات تدمير المناخ على كوكبنا، أوضحت غير مرّة كيف أن هذه النضالات من أجل عالمٍ أكثر عدلاً هي نضالات مترابطة ومتشابكة. لكن الناشطة التي صارت من أشهر الشخصيات المؤثِّرة في العالَم، واجهت سيلاً من الشتائم ورسائل الكراهية بعد أن اتسع كلامها عن المناخ ليشمل بشكل واضحٍ مقاومة الاستعمار ومحاربة الرأسمالية، كأنّ العالم أرادها أيقونة أوروبية فارغة، تشرح للصغار عن تدوير البلاستيك، دون أن تتطرق إلى مسببات الحالة المزرية التي وصل إليها عالمنا، فرفضت أن تكون ذلك..

على صفحتها الرسمية على انستغرام، كتبت غريتا:
"إنّ مهمة أسطول الحرية الإغاثي هي دعم مقاومة الفلسطينيين وتحدي الحصار الإسرائيلي والإبادة الجماعية في ظل تقاعس حكوماتنا المتواطئة عن التدخل. بعد شهر من قصف سفينة "الضمير" خلال محاولتنا الأخيرة للإبحار إلى غزة وكسر الحصار وفتح ممر إنساني، أبحرنا مجدداً نحو غزة - لا نحمل أسلحة، بل مواد غذائية وطبية. إن التجويع الممنهج والحرمان من الاحتياجات الأساسية هما جزء من أساليب الحرب العديدة التي تستخدمها إسرائيل ضد الفلسطينيين. هذه المهمة ليست سوى جزء من حركة عالمية من أجل العدالة الاجتماعية والمناخية، والتحرر، وإنهاء الاستعمار، بقيادة الفئات المهمَشة. إذا أردنا أن نقف على الجانب الصحيح من التاريخ، وهو من واجبنا، وقد حان الوقت للانضمام إلى هذه الحركة. فلسطين حرة".
لهيب غزّة الذي يلسع العالم..
29-05-2025
على منصة "إكس"، جاء ردّ السيناتور الأميركي ليندسي غراهام على المهمّة الإنسانية السامية كما يلي: "أتمنى أن تكون غريتا ورفاقها يعرفون السباحة"... "أوه، انظروا إلى الجهادية الصغيرة غريتا ثونبرغ وهي تحاول دخول غزّة لدعم حماس. كم سيكون الأمر محزناً لو أن أمراً ما حدث لأسطولهم..."، كتب محامي "حقوق الإنسان"، الصهيوني المعروف، أرسن أوستروفسكي... من جهته أضاف السياسي الأميركي المحافِظ ويل تشامبرلاين: "يمكن للإسرائيليين أن يقوموا الآن بأطرف أمرٍ على الإطلاق..". هذه جملٌ حقيقية قالها أشخاص يشغلون مناصب كبيرة "مسؤولة"، ولديهم مئات آلاف المتابعين على المنصات.

على المقلب الآخر من هذه النفوس المريضة، رأينا خلال الأسبوع الماضي فقط كيف ماتت أمٌّ أمام عيون أطفالها محاوِلة الوصول إلى كيس المساعدات، كيف مات رجلٌ بدون أن يصل إلى الطعام أصلاً، ووجدوا في جيبه كيساً أسود به حفنة أرزّ وعدس لا تكفي شخصاً واحداً، كيف احترق طفل في تدافع أمام نقطة توزيع طعام، لأن الأواني التي تحتوي حساء ساخناً انقلبت عليه.. وكيف وكيف.. كل هذا، ويُسمح للمجرمين لا أن يرتكبوا إجرامهم فقط، بل أن يُجرِّموا الساعين لأية إغاثة صغيرة أو كبيرة. لكلّ هذا، وفي ظل استمرار الإبادة وعدم التوصل لوقف إطلاق نار، نبقي العيون شاخصة إلى "مادلين"[1] وأسطول الحرية.
-
يتيح موقع تحالف أسطول الحرية متابعة حية لمسار سفينة "مادلين" في البحر على الرابط:
https://freedomflotilla.org/ffc-tracker/ ↑