الرحلة السلافية إلى الديار النابلسية: في الطريق إلى الناصرة

فُرِضتْ الانجليزية والفرنسية على أهل بلدان المشرق بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب الكونية (1914-1918)، وقد اتخذ الاحتلال الإنكليزي–الفرنسي للبلاد طابع "الانتداب"، وكان ممهِّداً لاحتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية. وتبرز بين المدونات الغربية، وعددها بالمئات، نماذج ذات أهداف محددة، تختلف بطبيعتها عن المدونات السلافية، التي كانت استكشافية أو دينية (رحلة حج) بشكل عام، من دون انكار ما فيها من ترّهات أو من الصور النمطية المتوارَثة عن العرب.
2025-05-29

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
مدينة نابلس في نيسان 1862. محفوظات متحف الأديان في بطرسبورغ

بعكس تلك السلافية، تعتبر مدونات البريطانيين والفرنسيين بمتناول القارئ العربي إن رغب في الاطلاع عليها، لكون اللغتين الاستعماريتين فُرِضتا على أهل بلدان المشرق بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب الكونية (1914-1918)، حين اتخذ الاحتلال الإنكليزي–الفرنسي للبلاد طابع "الانتداب"، وكان ممهداً لاحتلال فلسطين من قبل العصابات الصهيونية. وتبرز بين المدونات الغربية، وعددها بالمئات، نماذج ذات أهداف محددة، تختلف بطبيعتها عن المدونات السلافية، التي كانت استكشافية أو دينية (رحلة حج) بشكل عام. نعرّج هنا على نموذجين غربيين، فرنسي وبريطاني، تحدثا عن لواء نابلس:

الأول، رحلة المؤرخ والناشر الفرنسي جوزف فرانسوا ميشو (1767-1839) ومساعِده الصحافي والمؤرخ جان جوزف فرانسوا بوجولا (1808-1880)، اللذين دوّنا مشاهداتهما في كتاب "مراسلات من الشرق" (باريس، 1833-1835، في 7 مجلدات). وكان الهدف الأول من الرحلة "إعادة رسم خريطة الحروب الصليبية". وفي السياق نفسه كانت رحلة المؤرخ بابتستيان بوجولا (1809-1864)، سنة 1836، التي صدرت في كتاب "رحلة إلى آسيا الصغرى وبلاد ما بين النهرين وتدمر وسوريا وفلسطين ومصر" (باريس، 1840-1841، في مجلدين). والكتاب عبارة عن الرسائل التي كان يرسلها بابتستيان إلى شقيقه الأكبر جان جوزف فرانسوا بوجولا وآخرين، وتعتبر الرحلة الثانية مكملة للأولى.

الثاني، نصوص الكاتب البريطاني جون مايلّز (1812-1837)، الذي زار نابلس مرتين بين عامي 1855 و1860. وصف رحلته وسرد آراءه في كتاب "ثلاثة أشهر من الإقامة في نابلس" (لندن، 1860)، وخصص معظم صفحاته الـ 335 للطائفة السامرية. فنرى أن مايلز - الذي أصدر كتابه في مرحلة إنشاء "صندوق استكشاف فلسطين" البريطاني، المُمهّد لاستعمار بلادنا بدوافع توراتية - لم يكتب باستعلاء عن العرب فحسب، بل صبّ في كتابه أفكاراً متوارثة معادية لأهل المدينة تتضمن افتراءات مستهجَنة، وأصدر الكتاب مذيلاً برأي الصحافة اليهودية في لندن.

بطبيعة الحال، لا ندَّعي أن المدونات السلافية خلت من الترّهات أو الصور النمطية المتوارثة عن العرب، أهل البلاد، أو أنها خفّفت من الحشو التوراتي المستنسَخ من الكتب السابقة. لكن لهذه المدونات خاصية سردية ذات طابع اجتماعي، فهي بنسبة كبيرة منها لا تتضمن تحاملاً على أهل البلاد بشكل عام، ويبحث كاتبها أحياناً عن الدافع وراء تصرف شخص ما صادفه...

ونختار منها ما دوّنه سياسيان روسيان قيصريان، هما أفرام نوروف ودميتري سميشليايف، في طريقهما من القدس إلى الناصرة مروراً بنابلس وجنين.

نوروف في ضيافة حسن كمال

انتقل الكاتب أفرام سيرغيفيتش نوروف (1795-1869) من الجيش إلى السياسة، فعُرف كرجل دولة بعدما شارك في الحرب الوطنية العظمى سنة 1812 وحاز على وسام بطل الحرب، ثم غدا وزيراً للتعليم العام (1853-1858) ومستشار الإمبراطورة الخاص. ويعتبره الباحثون مؤسس علم الآثار التوراتي الروسي، حيث تجنب وصف الأماكن التي زارها الحجاج الآخرون وكتبوا عنها، وحاول ربط آيات من أسفار العهد القديم بكل مكان يزوره في بلادنا، مسترسلاً في قصص تَفرّد ببعضها. زار فلسطين في رحلتيه نحو الأماكن المقدسة في الشرق، الأولى سنة 1834 والثانية التي وصفها في كتابه "القدس وسيناء: الرحلة الثانية إلى الشرق" سنة 1861، وصدر بعد وفاته. أما الكتاب الذي سنورد منه مشاهدات نوروف فحمل عنوان "رحلة إلى الأرض المقدسة في العام 1835"، وصدر في العاصمة سان بطرسبورغ في مجلدين سنة 1838. وهو كتاب نادر، أرفقه الكاتب بعدد من الرسومات التوضيحية، فحظي بعناية خاصة من رجال الدين الأرثوذكسيين في روسيا القيصرية، ولا يزال يشكل مرجعاً للباحثين حتى اليوم.

أفرام نوروف

وصل نوروف إلى بلادنا في آب/ أغسطس 1834، يقول عن رحلته في الديار النابلسية:

"كانت الشمس تغرب وظهر القمر فوق جبال نابلس، بينما كنت أقترب من المدينة تحت مظلات كثيفة شكلتها فروع أشجار الزيتون المعمّرة. فوجئت عندما اقتربت من بوابة المدينة، فإذا بأحد النابلسيين، واسمه حسن كمال، يطلب مني أن أقبل المبيت في منزله ليستضيفني، وكان جمع أمتعتي ونقلها إلى داره. وبعدما علمت أن حسن كمال صديق لأحد معارفي، وافقت على اقتراحه. استقبلني مضيفي بطريقة ودية في مضافة داره، وأظهر الكثير من السرور لرؤيتي في منزله. منحني المضيف أريكته المريحة، فيما شغلت الأرائك المنخفضة جدران المضافة الأربعة. أرض الغرفة مفروشة بالسجاد ونوافذها مغطاة بستائر سميكة. في المضافة باقات كثيفة من الزنابق البيض تقف في مزهريات زجاجية طويلة ذات أعناق ضيقة. امتزج عبير الزهور الحلو برائحة أشجار البرتقال، التي تحملها إلينا نسمات الهواء عبر النوافذ الشبكية. أضاء نور فانوس كبير خافت أعلى الغرفة، وهو منبعث من فتيلة مبتلة بالزيت. هكذا كان المسكن الفاخر الذي أعده حسن للحاج المتعب. غرقتُ في الوسائد الناعمة فوق الأريكة وكان ذلك ممتعاً جداً. قدّم لي بعض الخدم مشروبات عطرية وغليوناً مملوءاً بالتبغ اللاذقي. انضم إلينا عدد من أصدقاء حسن، وهم يرتدون ملابس فاخرة، وجلسوا على الأرائك على مسافة منا، وتناولوا الحلويات واحتسوا القهوة. وكانوا أثناء توجههم بالحديث إليّ يؤدون بعض إشارات الاحترام، وفق عاداتهم المحلية، وذلك عبر وضع اليد اليمنى على الصدر ناحية القلب ثم رفعها إلى الجبهة. جلس الترجمان أمامنا ونقل أحاديثنا، واستمرت المحادثة لمدة طويلة جداً. لاحظ ربّ المنزل تعبي فأصدر إشارة لمن حوله فتركنا الجميع، وبقي معي وحدي ليشرف على إعداد سريري. وبعد قليل جلب الخدم العديد من المراتب الناعمة، التي وضعوا بعضها فوق بعض في منتصف الغرفة وغُطيت بالشراشف. فوقها وضعوا وسائد مغطاة بشاش مطرز مذهب. أضاء حسن مصباح الليل وخرج...

زار الكاتب البريطاني جون مايلّز (1812 - 1873) نابلس مرتين، فوصف رحلته وسرد آراءه في كتاب "ثلاثة أشهر من الإقامة في نابلس" (1860)، مخصِّصاً معظم صفحاته للطائفة السامرية. صدر الكتاب في مرحلة إنشاء "صندوق استكشاف فلسطين" البريطاني، المُمهِّد لاستعمار بلادنا بدوافع توراتية. لم يكتب مايلز عن العرب باستعلاء فحسب، بل صبّ في كتابه أفكاراً متوارَثة، وافتراءات مستهجَنة، وأصدر الكتاب مذيَّلاً برأي الصحافة اليهودية في لندن.

يقدر عدد سكان نابلس ما بين 9 آلاف و10 آلاف نسمة، ولكن هذا العدد يشمل، كما أعتقد، القرى المحيطة بها. وبسبب خصوبة الأرض، فإن السكان يعيشون حياة مزدهرة للغاية. في المدينة، ترتفع العديد من المآذن وقباب الحمامات فوق سطوح المنازل. الشارعان الرئيسيان يمران عبر المدينة في اتجاهين متوازيين تقريباً، وهما صاخبان للغاية، ومعبّدان بحجارة كبيرة، وتوجد أرصفة على جوانبهما. السوق ليس كبيراً، لكنه مليء بالبضائع. التجارة الرئيسية لمدينة نابلس هي مع دمشق ويافا. تصنع نابلس المنتجات الورقية بشكل خاص، وتنتشر في الحقول زراعة القمح والزيتون والقطن وأشجار التوت. يدافع العرب في نابلس، المحاطة بالجبال، مثل سكان لبنان، عن حقوقهم وممتلكاتهم بشجاعة... في المدينة عدد قليل جداً من اليونانيين، وينتمي اليهود المحليون إلى الطائفة السامرية، ويصل عددهم إلى نحو خمسمئة نسمة، وهم يشغلون شارعاً هادئاً إلى حد ما، يسمونه الشارع الأخضر...

سارت بنا الخيول لمدة تزيد عن ساعة على طول وادي صانور، ثم بدأنا في تسلق الجبال. وعندما وصلتُ إلى القمة الأولى، انكشف أمام عيني فجاًة منظر رائع لجبال الجليل، التي ترتفع من بعيد كأكوام زرق ضخمة. إلى اليسار، تنحدر الجبال تدريجياً نحو شاطئ البحر. أمامنا، في واد جميل، بين أشجار الزيتون، كانت تقع قرية قباطية التي قادنا إليها منحدر حاد. كنا بحاجة إلى الراحة فاخترنا الاستقرار في ظلال أشجار التين والرمان الواسعة وكانت الأخيرة مليئة بباقات من الزهر الأحمر، فمكثنا نحو ساعة هناك. غادرنا قباطية، ومع وصولنا إلى التلة الأولى انكشفت أمامنا جبال الجليل مرة أخرى. الجبال عارية مكتسية باللون الأصفر. وسرعان ما دخلنا مساراً ضيقاً، وهناك لاحظتُ أنقاض برج على ارتفاع قريب، وبئراً أسفله. وبعد مغادرة الوادي، رأينا مقصدنا، أي مدينة جنين. وصلنا إليها بعد أكثر من ساعة ركوباً من قباطية. ترتفع فوق مدينة جنين أشجار النخيل الباسقة، وتنمو شجيرات الصبار الرائعة في كل مكان بكثرة. يصل عدد سكان جنين إلى نحو ألفي نسمة. سوقها فيه الكثير من النشاط، وفيها مسجد، وخانان للمسافرين، والعديد من المقاهي، وأطلال العمارة القوطية...".

سميشليايف: ربيع فلسطين الرائع

شغل المؤرخ الروسي دميتري دميترييفيتش سميشليايف (1828-1893)، منصب رئيس الحكومة المحلية في مقاطعة بيرم، وعاش في القدس بين سنتي 1885 و1889، حيث عُيِّن في منصب المفوض الأول للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في المدينة. هناك، وبفضل جهوده، بُني مجمع سيرغي الكنسي للحجاج الروس، الذي اعتُبر جزءاً من "فلسطين الروسية". بعد عودته إلى بلاده تفرَّغ لدراسة تاريخ مقاطعة بيرم، وترك عدداً من الدراسات. 

انتقل الكاتب الروسي أفرام سيرغيفيتش نوروف (1795-1869) من الجيش إلى السياسة، فعُرف كرجل دولة بعدما شارك في الحرب الوطنية العظمى سنة 1812، وحاز على وسام بطل الحرب، ثم غدا وزيراً للتعليم العام (1853-1858) ومستشار الإمبراطورة الخاص. ويعتبره الباحثون مؤسس علم الآثار التوراتي الروسي.

يقول نوروف: "كانت الشمس تغرب وظهر القمر فوق جبال نابلس، بينما كنتُ أقترب من المدينة تحت مظلات كثيفة شكّلتها فروع أشجار الزيتون المعمّرة. فوجئت عندما اقتربت من بوابة المدينة، بأحد النابلسيين، واسمه حسن كمال، يطلب مني أن أقبل المبيت في منزله ليستضيفني، وكان جمع أمتعتي ونقلها إلى داره. كان حسن كمال صديق لأحد معارفي، فوافقتُ على اقتراحه. استقبلني مضيفي بطريقة ودية في مضافة داره".

دوّن سميشليايف انطباعاته ومشاهداته في فلسطين أثناء رحلته الإولى في كتابه "سيناء وفلسطين: من مذكرات رحلة 1865"، وصدر في مدينة بيرم سنة 1877. يقع الكتاب في 287 صفحة، فإذا ما أزلنا الحشو التوراتي وأقول المؤرخين المختلفين الذي استنسخه سميشليايف من كتّاب آخرين، نقف على نحو 60 صفحة من المشاهدات والحوارات، ونلاحظ من النصّ أن الكاتب حاول استخدام لغة منمّقة كثيرة المجازات، كما أنه كان غاضباً منزعجاً طوال الوقت، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنه زار فلسطين بعد وفاة زوجته ماريا بتروفنا فاسيليفا، التي قصدت برلين للعلاج فماتت فيها سنة 1864، وكان له منها طفلان توفيا قبل رحيلها.

دميتري سيمشليايف

أثناء الرحلة في النصف الثاني من آذار/ مارس 1865، ينبهر سميشليايف بطبيعة نابلس الساحرة، يقول:

"يدور الطريق حول جبل الطور وينعطف يساراً في واد جميل يقع بين جبلي الطور وعيبال. لدى الأول منحدرات ذهبية شبه عمودية، ترتفع مثل سنابل عملاقة، والثاني سفوحه مغطاة بالعشب الأخضر، مع فجوات عند سفحه هي مداخل العديد من الكهوف. الجداران يحدَّان وادياً رائعاً، في وسطه يتدفق جدول صافٍ، يغذي الغطاء النباتي القوي. التربة مكسوة بسجادة فاخرة، تنتشر أمام الخلفية الخضراء الزاهية أنواع متعددة من الزهور الخلابة، التي لا يمكن رؤيتها في فلسطين إلا خلال ربيعها الرائع. تزداد كثافة أشجار الزيتون والجوز المعمّرة البهيّة كلما اقتربت من نابلس لتتحول إلى غابة حقيقية".

هنا يمكن رؤية المساجد وأسطح مباني المدينة. تحت الأشجار، في بعض الأماكن، تتحلق مجموعات متنوعة من المسلمين، يجلسون على سجادات ووسائد مع نراجيلهم (الشيشة)، ويثبتون مباسمها بأسنانهم. هنا يتنفسون هواء الريف النقي. عند بوابة المدينة، أوقفنا جندي جمركي وفتش أمتعتنا، ثم انطلقنا في شارع طويل يعج بالأنشطة غير المعتادة في فلسطين. على جانبي الطريق أشخاص يهرولون، ويعملون بجهد. فوق الجمال والخيول والبغال، وبطريقة ما، تمكنا من شق طريقنا عبر الحشد إلى الحي السامري.

عبرنا العديد من الشوارع المغطاة، وكان يتعين علينا في بعض الأحيان أن ننحني تحت أقواسها التي تنخفض إلى مستوى عنق الحصان تقريباً. استقبلنا رجلٌ محترمٌ على باب البيت الذي قادنا إليه مرشدنا. قدم نفسه باسم يعقوب شلبي، وهو صاحب المنزل الذي كنا نبحث عنه".

يقدَّر عدد سكان نابلس ما بين 9 آلاف و10 آلاف نسمة. وبسبب خصوبة الأرض، فإن السكان يعيشون حياة مزدهرة للغاية. في المدينة، ترتفع العديد من المآذن وقباب الحمَّامات فوق سطوح المنازل. الشارعان الرئيسيان يمران عبر المدينة في اتجاهين متوازيين تقريباً، وهما صاخبان للغاية، ومعبَّدان بحجارة كبيرة، وتوجد أرصفة على جوانبهما. السوق ليس كبيراً، لكنه مليء بالبضائع. والتجارة الرئيسية لمدينة نابلس هي مع دمشق ويافا.

تصنع نابلس المنتجات الورقية بشكل خاص، وتنتشر في الحقول زراعة القمح والزيتون والقطن وأشجار التوت. يدافع العرب في نابلس، المحاطة بالجبال، مثل سكان لبنان، عن حقوقهم وممتلكاتهم بشجاعة... في المدينة عدد قليل جداً من اليونانيين، وينتمي اليهود المحليون إلى الطائفة السامرية، ويصل عددهم إلى نحو خمسمئة نسمة، وهم يشغلون شارعاً هادئاً إلى حد ما، يسمونه الشارع الأخضر.

يكشف لنا سميشليايف كيف خدع أحد اليهود الروس الأقلية السامرية في المدينة، يضيف:

"يتركز اهتمام المسافر هنا بشكل رئيسي على السامريين [وفق توجيه القنصلية الروسية في القدس]... بحسب مضيفي يعقوب شلبي، يبلغ عدد السامريين جميعهم، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، مئة وثمانية وثلاثين نسمة، منهم تسعون رجلاً. إن نقص النساء هو مصيبتهم الرئيسية، لأن شريعتهم تمنعهم بشدة من الزواج من غير ملّتهم، حتى من النساء اليهوديات. لكن مؤخراً برز لهم شعاع أمل في هذا الصدد، لكن من دون جدوى. وصل إلى العالم القرائي الشهير فيركوفيتش. والقرائيون أقرب إلى السامريين في دينهم من اليهود، ولذلك قرر السامريون الانحراف عن شريعتهم، وخططوا للدخول في علاقات عائلية مع القرائيين، وطلبوا من فيركوفيتش وهم يذرفون الدموع أن يرسل لهم العدد المطلوب من النساء من شبه جزيرة القرم".

والطائفة المذكورة تتألف من أحفاد الخزر والترك الكومان الذين تهوّدوا، ويسمون بالقريميين، وهم يرفضون اليوم نسبتهم إلى اليهود. أما الشخص المقصود فهو المؤرخ وعالم الآثار أبراهام سامويلوفيتش فيركوفيتش (1786-1874)، الذي زار فلسطين والقسطنطينية سنة 1830-1831، وكان هدف زيارته جمع الآثار المكتوبة بشتى الطرق، وتمكن من اقتناء مجموعة غنية من المخطوطات والقطع الأثرية المختلفة.

يتابع شلبي سميشليايف: "كان فيركوفيتش مهتماً بالمخطوطات السامرية، وقد وعد بتحقيق تلك الرغبة، ولكن بعدما حصل على مراده نسي وعده. وتجدد حزن العزاب السامريين على عدم تمكنهم من الزواج آنذاك [حين أعاد شلبي على مسامعهم ما جرى]، إذ تملكهم الفضول وهم يسألونني عن فيركوفيتش، خاصة عندما أخبرتهم أنه بحسب قنصل القدس، يجب أن يكون في دمشق".

عاش دميتري دميترييفيتش سميشليايف (1828-1893) في القدس بين سنتي 1885 و1889، حيث عُيِّن في منصب المفوض الأول للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في المدينة. دوَّن انطباعاته ومشاهداته في فلسطين أثناء رحلته الإولى في كتابه "سيناء وفلسطين: من مذكرات رحلة 1865.

يتابع سميشليايف طريقه إلى جنين، يقول:

في الثاني والعشرين من شهر آذار/ مارس، نحو التاسعة صباحاً، غادرت نابلس باتجاه سبسطية. وبعد نحو ثلاث ساعات، ظهرت أطلال ضخمة على الجبل في وسط قرية فقيرة. تغطي أشجار الزيتون هذا الجبل، وبشكل عام فإن طبيعة المنطقة كلها غنية وخلابة. الطريق من سبسطية إلى جنين هو طريق رائع للغاية ويمتد بين الجبال. في المساء دخلنا إلى مضيق بري جميل وأخضر. واصلنا السير على طول الممر بشكل متعرج لمدة طويلة حتى وصلنا أخيراً نهر بالكاد يمكن رؤيته في الظلام.

لم أتمكن حتى من رؤية الطريق، وقاد الدليل حصاني من اللجام. تردد وقع خطواته على الأرض الصخرية عالياً بين الجبال، كاسراً صمت الليل مترافقاً وخرير النهر الهادئ. كان هناك شيء مهيب ومخيف بشكل ممتع في هذا الصمت والظلام. كانت أذناي متيقظتين بشدة لأي صوت غامض، وأمسكتْ يدي بالمسدس من دون قصد مني حين سمعت فجأة صفارة حادة في الجبال، وسمعت صفارة مماثلة رداً عليها من الجانب الآخر... سخر الدليل العربي من القلق الذي ساورنا، أنا ومرافقي سامويل أبراموفيتش، فطلبت من مرافقي أن يهدأ ويتوقف عن طرح الأسئلة. واصلنا الركوب، ولم نر شيئاً أمامنا، ولم نسمع سوى صوت حوافر الخيول في الظلام الدامس...

وبعد مرور ما لا يقل عن ساعة على الصافرة التي أزعجتنا، رأينا ضوءاً من بعيد، ثم ظهر ضوء آخر... كانت قناديل قافلة متأخرة. عندما اقتربنا منها سألنا كم تبعد جنين؟ أجابونا: "إنها هنا". لكنني لم أكن متأكداً من ذلك حتى أوقف الدليل الحصان وقال إنه حان وقت النزول. حينذاك فقط لاحظت شيئاً يشبه الجدار. صرخ الدليل بأعلى صوته فخرج رجل مرهق يرتدي طربوشاً أحمر ويحمل فانوساً في يده. كان إيطالياً يؤجر غرفاً للمسافرين المتأخرين ليلاً. كنت متعباً للغاية، ولذلك لم يكن لدي وقت للبحث عن مأوى في منازل اليونانيين، الذين يعيش عدد قليل منهم هنا ويرحبون بالمسافرين عن طيب خاطر. تبعتُ مضيفي وكنت سعيداً لأنني تمكنت على الأقل من التحدث معه من دون مساعدة المترجم.

قادني الإيطالي عبر فناء صغير إلى حظيرة مليئة بالفحم والأغصان. قرب الحظيرة قبو كبير، وجدت فيه أربعة من المسافرين الذين التقيت بهم قرب نهر الأردن. وكان هناك بولندي يتحدث الروسية جيداً، ويرتدي ملابس نظيفة، مقارنة برفاقه، ويبدو أنه لم يكن معتاداً على التواجد بين هؤلاء الحجاج البسطاء... كانوا ينامون على مراتب منتشرة على الأرض. أيقظهم المالك وطلب منهم إفساح المجال للوافدين الجدد. جلس الحجاج الفقراء على مراتبهم، إذ كانوا سقطوا في نوم ثقيل من التعب بعد مسيرة طويلة، غدوا يعركون عيونهم النائمة ويحكّون وجوههم، وهم لا يفهمون ما الذي يريده المضيف منهم. خرج الإيطالي ثم عاد حاملاً فراشاً لي، فرأى أنهم لم يتحركوا من أمكانهم، بل سقط أحدهم فوق حقيبة سفر وكان غارقاً في النوم، فصرخ عليهم بشكل غير لائق، ودفع الحاج النائم مبعداً إياه من طريقه. بغض النظر عن مدى أسفي عليهم، لكنني كنت متعباً وجائعاً لدرجة ووجدت تصرف المالك هو المعيار الوحيد الممكن في هذه الظروف... غادرتُ جنين في الساعة السابعة صباحاً، وسرعان ما تمكنت من اللحاق بالحجاج الذين قضيت معهم الليلة السابقة. تلوا صلوات ترددت أصدؤها بعيداً عبر مرج بني عامر الشاسع والجميل.

مقالات من فلسطين

لهيب غزّة الذي يلسع العالم..

2025-05-29

هنا يتوقف الكلام. كلّ إضافةٍ تبدو فائضة، وربما وقحة.. لا شيءَ يُضاف إلى الأهوال التي تقولها صورة الطفلة ورد وهي تعبر خلال ألسنة اللهب – تلكَ الكافية لإحراق عيون الكوكب.

التغيُّر الديموغرافي القسري في فلسطين من النظرية الى التطبيق

الهندسة الاستعماريّة بتجليّاتها المختلفة، الشوارع، والحدود، والبنية التحتية، والطرق الالتفافية... هدفها إزالة الفلسطيني بشكل تدريجي. فبينما تتوسع البؤر الاستيطانية (enclaves) لتصبح مدناً تحيط بالمناطق الفلسطينية المجاورة (exclaves) وتحاصرها، يُصبح الشعب...

للكاتب نفسه

المشهد البيروتي قبل غزو 1941 وبعده

شكّلت الحرب تجربة قاسية للطبقات الوسطى غير التجارية، ولأصحاب المداخيل الثابتة (ملاّكون، موظفون في القطاعين الخاص والعام، أصحاب مهن حرة، متقاعدون...). ويرى الباحث جبرائيل منسى أن العمال، وعلى الرغم من...

الديار النابلسية بعيون سلافية (2)
فرانتيشيك كليمنت: أهل نابلس شديدو الغضب والتمرد

يرى "كليمنت" أن "الناس لا يقصدون فلسطين للترفيه عن أنفسهم، ولكن بهدف الاستكشاف والمعرفة، ونستثني من ذلك الحجاج المتدينين... وهو يرفض التوجه الصهيوني الرامي إلى استعمار فلسطين، يقول: "إن فكرة...

الديار النابلسية بعيون سلافية (1)
ألكسي سوفورين في ضيافة أبناء جنين ونابلس

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين، ترك عدد كبير من الرحالة والحجاج السْلاف نصوصاً عن "الديار النابلسية"، مليئة بالملحوظات الاجتماعية والمشاهدات، وكتباً ومذكرات، إلى...