صار الطبيب الشاب في مصر أمام خيارين لا ثالث لهما: الهجرة، أو الاستنزاف الداخلي. فخلال سنوات قليلة، تضاعفت أعداد الاستقالات بشكل صادم، مدفوعة بتدهور بيئة العمل، وضعف الأجور، والانتهاكات اليومية بحق الأطباء في المستشفيات العامة. أحدث فصول الأزمة انفجر في مستشفيات "جامعة الإسكندرية" و"معهد البحوث الطبية"، مع الإعلان عن خلو 117 وظيفة، بحسب بيان رسمي لإدارة مستشفيات الجامعة.
تَصدّر تخصص التخدير والعناية المركّزة الجراحية قائمة الوظائف الطبية الشاغرة، بواقع 28 وظيفة خالية، يليه تخصص طب الطوارئ والإصابات بـ 26 وظيفة، إلى جانب شواغر أخرى في مجالات الجراحة العامة، الجهاز الهضمي، طب الأطفال، الأسنان...
منذ عام 2016، حين سجلت نقابة الأطباء 1044 استقالة، بدأت موجة النزيف تتسارع بلا هوادة. وخلال خمس سنوات فقط، تضاعف العدد أربع مرات، ليصل إلى 4127 استقالة مع نهاية 2021. ولم تهدأ الوتيرة، فسُجلت 4261 استقالة في عام 2022. ومع حلول عام 2023، وصلت الأزمة إلى ذروتها مع تسجيل ما يقرب من 7 آلاف استقالة. كما أشار الدكتور "خالد أمين"، الأمين العام المساعد لنقابة الأطباء، إلى أن النقابة تستقبل كل يوم حوالي 12 طلب استقالة، في رحلة خروج جماعية من المشهد الطبي، إما صوب العمل الحر وإما إلى خارج حدود الوطن.
العلاج على نفقة الدولة.. سند الغلابة في مصر
09-10-2019
تكشف أرقام نقابة الأطباء عن أزمة عميقة تهدد مستقبل المنظومة الصحية في مصر، إذ يبلغ عدد الأطباء المسجلين في النقابة حوالي 260 ألف طبيب، لا يعمل منهم داخل مصر سوى ما بين 110 إلى 120 ألف طبيب فقط، ما يعني أن أكثر من نصف الكوادر الطبية إما يعملون في الخارج وإما اتجهوا إلى العمل الحر بعد الاستقالة من مؤسسات الدولة. بينما أظهر أحدث رصد، صادر عن "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء"، انخفاض أعداد الأطباء العاملين في البلاد إلى 97.4 ألف طبيب خلال عام 2022، مقارنة بـ100.7 ألف طبيب في عام 2021، بنسبة تراجع بلغت 3.3 في المئة. وتعكس هذه الأرقام عجزاً خطيراً في الكوادر الطبية، حيث تسجِّل مصر طبيباً واحداً لكل 1162 مواطناً، بينما يبلغ المعدل العالمي بحسب "منظمة الصحة العالمية" طبيباً واحداً لكل 434 شخصاً فقط.
فجوة الرواتب تسرّع الهجرة
تُعد الرواتب المنخفضة واحداً من أبرز دوافع هجرة الأطباء المصريين إلى الخارج، في ظل الفجوة الشاسعة بين ما يتقاضونه محلياً وما يمكن أن يحصلوا عليه في دول أخرى. ففي حين يضطر الطبيب الحكومي في مصر للعمل ساعات طويلة، تحت ضغط جسدي ونفسي هائل، مع تحمل مسؤوليات ثقيلة في بيئات مكتظة بالمرضى وبإمكانيات محدودة، يجد أن المقابل المادي لا يرتقي إلى حجم الجهد المبذول ولا إلى حجم مسؤولياته المتزايدة.
يدفع هذا الواقع العديد من الأطباء، سواء حديثو التخرج أو ذوو الخبرة، إلى البحث عن فرص أفضل خارج حدود الوطن، خاصة مع الإغراءات المالية الكبيرة التي تقدمها دول مثل السعودية والإمارات وكندا، حيث تتجاوز الرواتب أضعاف ما يحصل عليه الطبيب في مصر. ولا يقتصر هذا النزيف على الأطباء الشباب، بل يمتد ليشمل خبرات طبية عريقة، كان من المفترض أن تُسهم في تطوير المنظومة الصحية المحلية.
فبينما يبدأ متوسط راتب الطبيب المقيم في المستشفيات الحكومية المصرية من حوالي 5 آلاف إلى 8 آلاف جنيه مصري شهرياً بحسب التخصص، مع زيادات طفيفة مع تقدم الخبرة، تقدِّم دول الخليج العربي رواتب تفوق هذه الأرقام بأضعاف مضاعفة.
منذ عام 2016، سجلت نقابة الأطباء 1044 استقالة، ثم بدأت موجة النزيف تتسارع بلا هوادة. وخلال خمس سنوات فقط، تضاعف العدد أربع مرات، ليصل إلى 4127 استقالة مع نهاية 2021. ولم تهدأ الوتيرة، فسُجلت 4261 استقالة في عام 2022. ومع حلول عام 2023، وصلت الأزمة إلى ذروتها مع تسجيل ما يقرب من 7 آلاف استقالة.
في السعودية، على سبيل المثال، يتقاضى الطبيب المقيم راتباً يبدأ من حوالي 4600 ريال سعودي شهرياً، أي ما يعادل حوالي 60 ألف جنيه مصري، فيما يصل راتب الطبيب الاستشاري إلى أكثر من 22 ألف ريال سعودي، بما يعادل حوالي 290 ألف جنيه مصري شهرياً.
كما أن الفوارق الكبيرة بين الرواتب في القطاعين الحكومي والخاص تبدو عاملاً حاسماً. فالطبيب الحكومي في مصر يتقاضى راتباً ثابتاً وفق الهيكل الوظيفي المعتمد من وزارة الصحة، ويستفيد من بعض المزايا مثل التأمين الصحي، والأمان الوظيفي، وحقوق التقاعد. إلا أن هذه الرواتب تظل متواضعة مقارنة بالجهد المبذول وحجم المسؤوليات.
في المقابل، يتيح القطاع الخاص للأطباء فرصاً مالية أعلى بكثير، إذ يتحدد الدخل غالباً بناءً على سمعة الطبيب وعدد المرضى الذين يستقبلهم يومياً. وقد يتراوح راتب الطبيب الجراح في القطاع الخاص بين 15 و30 ألف جنيه مصري شهرياً، بحسب حجم العيادة أو المستشفى الخاص الذي يعمل فيه، فيما تتراوح رواتب أطباء الأطفال والباطنة بين 10 و20 ألف جنيه مصري شهرياً.
وعلى الرغم من أن القطاع الخاص يقدم مميزات مالية مغرية، إلا أن العمل في القطاع الحكومي يظل له بعد اجتماعي مهم، إذ يتيح للأطباء الإسهام في تقديم الرعاية الصحية للفئات الأقل قدرة على تحمل تكاليف العلاج. وعلى ذلك، يستمر تفضيل كثير من الأطباء للقطاع الخاص أو التفكير في الهجرة إلى الخارج، نظراً للفارق الكبير في العائد المالي ومستوى الدخل الذي لا يستطيع النظام الصحي الحكومي مجاراته حتى الآن.
قانون المسؤولية الطبية: تغلغل الفكر العقابي
13-01-2025
بموجب قانون المساءلة الطبية، الذي أقره البرلمان في آذار/ مارس 2025، صار الطبيب يواجه عقوبات جنائية حتى في حال ارتكاب خطأ طبي بسيط أو وارد، حيث تُفرض عليه غرامة تصل إلى 100 ألف جنيه مصري، تُسدَّد لصالح خزينة الدولة، وليس للمريض أو لذويه. وإنْ عجز الطبيب عن سداد الغرامة، فإنه يواجه خطر السجن، قبل أن يُتاح للمريض أو أسرته رفع دعوى مدنية إضافية للمطالبة بالتعويض المالي. وتبقى القيمة عبئاً ثقيلاً لا يستطيع معظم الأطباء تحمله، حتى بعد تخفيض مجلس النواب الحد الأقصى للغرامة من مليون جنيه إلى 100 ألف جنيه.
مواجهة القمع الإداري
في مشهد يكشف عن تصاعد حدة الضغوط الواقعة على الأطباء الشباب في مصر، أصدرت إدارة مستشفى "القصر العيني" في جامعة القاهرة، في 17 نيسان/ أبريل 2025، قراراً بإيقاف 8 أطباء امتياز عن العمل وإحالتهم إلى التحقيق، عقب نشرهم تدوينات على موقع "فيسبوك" تضمنت شكاوى من تدني الأجور، وسوء بيئة العمل، والإجراءات الإدارية المرهقة، مثل طوابير البصمة اليومية، بالإضافة إلى غياب برامج التدريب الطبي الفعال.
الأطباء اقتصروا في منشوراتهم على سرد واقعهم من دون تجاوزات أو إساءات شخصية، ومع ذلك تعاملت إدارة المستشفى مع الأمر باعتباره خرقاً يستوجب العقاب، في مؤشر خطير على التضييق على حرية التعبير حتى في حدود المطالبة بالحقوق المشروعة.
فيما يفترض قانونياً أن يتواجد أطباء الامتياز بغرض "التعلم"، إلا أن واقعهم العملي يجعلهم يؤدون كافة المهام الإدارية والطبية البسيطة. هذا الجهد المبذول تقابله مكافأة شهرية هزيلة لا تتجاوز 2800 جنيه، تُسْتقطع منها الضرائب والتأمينات الاجتماعية، وفي بعض الجامعات تُصرف كل ثلاثة أشهر، على الرغم من أن القانون ينص على أن مكافأتهم يجب أن تعادل 80 في المئة من أجر النائب المقيم، وهو ما لم يتم تحديثه بالتوازي مع زيادات رواتب الأطباء المقيمين أنفسهم.
عنف يومي داخل المستشفيات الحكومية
تسجِّل معدلات العنف ضد العاملين في القطاع الصحي المصري أعلى مستوياتها في القارة الإفريقية، خاصة في أقسام الاستقبال والطوارئ. كشفت استطلاعات ميدانية أجريت في 13 محافظة عن أن 88 في المئة من الأطباء تعرضوا للعنف اللفظي، و42 في المئة للعنف الجسدي، و13.2 في المئة للتحرش الجنسي، بينما تعرض 30.5 في المئة منهم لأكثر من خمس حوادث عنف خلال عام واحد. وعلى الرغم من ذلك، لم يَتخذ سوى 14.3 في المئة من الأطباء إجراءات قانونية.
أغلب حوادث العنف ضد الأطباء تقع خلال المناوبات الليلية، حيث تزداد الأوضاع سوءاً بسبب ضعف التجهيزات الطبية، والازدحام الناتج عن نقص الكوادر الطبية مقابل تزايد أعداد المرضى. إذ تصبح أقسام الطوارئ بؤراً قابلة للاشتعال مع كل لحظة تأخير أو نقص في الخدمة المقدمة.
نقابة الأطباء كانت قد طالبت بضرورة اتخاذ خطوات تشريعية وتنفيذية حاسمة لضمان حماية الأطقم الطبية وتأمين بيئة عملهم. وترى النقابة أن استمرار التعامل مع الاعتداءات على الأطباء كجرائم جنائية عادية من دون تمييز لطبيعة مهنتهم وموقعهم أثناء أداء الخدمة، يُسهم في تفاقم الأزمة، ويزيد من حالة الخوف وعدم الأمان داخل القطاع الصحي.
كما شددت النقابة، عبر تحركاتها التي تبعت حادثة الاعتداء على طبيب في "مستشفى سوهاج التعليمي" العام 2024، على ضرورة أن يتم تحرير المحاضر باسم المنشآت الطبية وليس الأطباء بشكل شخصي، حفاظاً على قوة الموقف القانوني. ودعت النقابة الأطباء إلى عدم القبول بأية ضغوط للتنازل أو التصالح في قضايا الاعتداءات، مؤكدة أن التهاون في هذه القضايا لا يهدد فقط سلامة الطبيب، بل يُضعف من قدرة المستشفيات على أداء دورها الحيوي في خدمة المرضى.
"الصحة" خارج أولويات الإنفاق
لا تزال مخصصات الصحة في الموازنة العامة المصرية بعيدة كل البعد عن الاستحقاق الدستوري. إذ نصت المادة رقم 18 من الدستور على تخصيص 3 في المئة على الأقل من الناتج القومي الإجمالي للإنفاق على الصحة. إلا أن مشروع موازنة 2025/2024 كشف عن تخصيص 200.1 مليار جنيه للقطاع، بنسبة لا تتجاوز 1.17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 17.1 تريليون جنيه.
يبدأ متوسط راتب الطبيب المقيم في المستشفيات الحكومية المصرية من حوالي 5 آلاف إلى 8 آلاف جنيه مصري شهرياً بحسب التخصص، مع زيادات طفيفة مع تقدم الخبرة، تقدِّم دول الخليج العربي رواتب تفوق هذه الأرقام بأضعاف مضاعفة. في السعودية، على سبيل المثال، يتقاضى الطبيب المقيم راتباً يبدأ من حوالي 4600 ريال سعودي شهرياً، أي ما يعادل حوالي 60 ألف جنيه مصري، فيما يصل راتب الطبيب الاستشاري إلى أكثر من 22 ألف ريال سعودي، بما يعادل حوالي 290 ألف جنيه مصري شهرياً.
تسجِّل معدلات العنف ضد العاملين في القطاع الصحي المصري أعلى مستوياتها في القارة الإفريقية، خاصة في أقسام الاستقبال والطوارئ. كشفت استطلاعات ميدانية أجريت في 13 محافظة أن 88 في المئة من الأطباء تعرضوا للعنف اللفظي، و42 في المئة للعنف الجسدي، و13.2 في المئة للتحرش الجنسي، بينما تعرض 30.5 في المئة منهم لأكثر من خمس حوادث عنف خلال عام واحد.
يتضح من "البيان التحليلي" لمشروع الموازنة أن الجزء الأكبر من مخصصات قطاع الصحة، يُخصص للأجور وتعويضات العاملين بقيمة 95.3 مليار جنيه، تليه الاستثمارات بـ49.7 مليار جنيه، ثم شراء السلع والخدمات بمبلغ 40.5 مليار جنيه، وأخيراً الدعم والمنح التي خُصص لها 10.4 مليار جنيه.
ويفاقم هذا القصور المالي تحذيرات دولية حديثة. فقد انتقد تقرير الأمم المتحدة حول "الوضع الاقتصادي العالمي وآفاقه حتى عام 2025"، إنفاق مصر على خدمة الدين العام بما يفوق مخصصات التعليم والصحة معاً، مشيراً إلى أن فوائد الديون تستنزف أكثر من 70 في المئة من عائدات الدولة.
دعوات برلمانية وإعلامية لمنع الهجرة
أثار مقترح برلماني مصري بمنع سفر خريجي كليات الطب لمدة تتراوح بين ثلاث إلى خمس سنوات بعد التخرج، موجة واسعة من الغضب بين الأطباء، الذين اعتبروا أن هذه الطروحات تعكس تجاهلاً متعمداً للأسباب الحقيقية وراء ظاهرة الهجرة. ففي ظل أزمة نقص الكوادر الطبية الحادة التي تعانيها المستشفيات الحكومية، اقترح أحد النواب فرض قيود على حرية تنقل الأطباء أو إلزامهم بسداد رسوم تعويضية مقابل تعليمهم الجامعي. وتصاعد الجدل بعد تداول هذه الأفكار إعلامياً، خاصة عقب تصريحات الإعلامي "عمرو أديب" التي طالب فيها بإعادة النظر في مجانية التعليم، قبل أن يعود لاحقاً ليعتذر.
في المقابل، عبرت نقابة الأطباء عن رفضها التام لهذه المقترحات، وأكدت في بيان رسمي أن الحق في السفر مكفول دستورياً، ولا يجوز المساس به تحت أية ذريعة، داعية إلى معالجة حقيقية لأزمة الهجرة بدلاً من الالتفاف عليها بأفكار وصفتها بأنها "غير دستورية وغير عملية".
لا تزال مخصصات الصحة في الموازنة العامة المصرية بعيدة كل البعد عن الاستحقاق الدستوري. إذ نصت المادة رقم 18 من الدستور على تخصيص 3 في المئة على الأقل من الناتج القومي الإجمالي للإنفاق على الصحة. إلا أن مشروع موازنة 2025/2024 كشف عن تخصيص 200.1 مليار جنيه للقطاع، بنسبة لا تتجاوز 1.17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 17.1 تريليون جنيه.
انتقد تقرير الأمم المتحدة حول "الوضع الاقتصادي العالمي وآفاقه حتى عام 2025"، إنفاق مصر على خدمة الدين العام بشكل يفوق مخصصات التعليم والصحة معاً، مشيراً إلى أن فوائد الديون تستنزف أكثر من 70 في المئة من عائدات الدولة.
إضافة إلى ذلك، وصف رئيس الوزراء هجرة الأطباء بأنها "أمر مشرِّف". وأوضح أن كليات الطب كانت تخرِّج حوالي 9 آلاف طالب سنوياً، ومع سياسة التوسع في إنشاء الكليات الطبية، ارتفع العدد إلى 15 ألف متخرّج، ومن المتوقع أن يصل إلى 29 ألف طبيب سنوياً خلال السنوات الست المقبلة.
وأشار رئيس الوزراء إلى أن عمل الأطباء المصريين في الخارج يصب في مصلحة الدولة، سواء عبر اكتسابهم خبرات مهنية متقدمة، أو من خلال إسهامهم في جلب العملة الصعبة إلى الاقتصاد الوطني، مؤكداً أنه لا يرى أية مشكلة حتى لو هاجر 10 آلاف طبيب سنوياً.