"الكل ذاهب إلى هناك حيث لا فراق"
آخر ما قالته الشهيدة المصوِّرة فاطمة حسونة
التي استشهدت اليوم ، مع عشرة من أفراد عائلتها، على أرض بلدها، غزة، في قصف اسرائيلي على حي التفاح.
الأربعاء 16 نيسان / أبريل 2025
***
كتبَ إبراهيم نصر الله رواية كاملة اسمُها "سيرة عين"، حكى فيها عن أوّل مصوِّرة في فلسطين، كانت كريمة عبّود. رأى نصرالله أنها "عين فلسطين".
اليوم فقدنا "عينُ غزّة". هذه العين، هي الشهيدة فاطمة حسّونة. كانت عينُ الشارع، صورة الناس، مرآةُ الأطفال إلى العالم. تعكسُ ابتساماتهم، فرحهُم الصغير بالتفاصيل اليوميّة تحتَ الحصار، وفي قلب المجاعة.
فنّانات غزّة وأديباتّها الشهيدات
27-11-2023
مدرسة إعلاميّي غزّة: وترٌ وحيدٌ.. يُقاوِم
26-10-2023
فاطمة التي آمنت بأن أيّ عمل صحافي، لا ينسلِخ بتاتاً عن أصل الصحافي، عن إنسانيّته. كانت عضواً في فريق "حملة الإحسان التطوعيّة"، وأوّل ما فعلتهُ في فعاليات الفريق، التصوير. فجأة رأيناها تبحث في معارض الملابس عن ضحكات الأطفال، توثّق فرحهم، تَلحق البلالين وتلتقطُ الصور لحامليها. كذلك خلال الحرب لم تنسَ رسالتها، كانت على تواصلٍ دائم معي وأنا في الجنوب، تُرسل لي أسماءَ أشخاصٍ إما يُريدون التبرّع أو يحتاجون المُساعدة.
فاطمة الإنسانة، المصوِّرة، الكاتبة. فاطمة التي سنعرِّفُها منذ الآن بـ"عين غزّة"، رحلت سريعاً وفجأةً. لكن رحيلها، لن يكون هادئاً. سيكون صاخباً كما أرادتْ، فهي التي قالت عن الموت: "أنا إذا مِتُّ.. أريد موتاً مدوياً، لا أريدني في خبرٍ عاجل ولا في رقمٍ مع مجموعة، أريدُ موتاً يسمعُ به العالم، وأثراً يظلُّ مدى الدهر، وصوراً خالدة لا يدفنها الزمان ولا المكان.
اذكروها، ولا تنسوا ملامحها في الصور التي كانت تلتقطها. كانت تلكَ حكايتها، كانت هُناك أيامها وتفاصيلها الصغيرة!

***
لا أعرف فاطمة،
لكنني رأيت ظلّها يمرّ هذا الصباح في الضوء.
كان خفيفًا، كأنها ما زالت تعدّ الفطور،
تُسرّح شعرها،
وتغنّي لفَيْروز وهي تزرع ريحانًا على نافذة الغيب.
لا أعرف فاطمة،
لكنني سمعت ضحكتها في شقوق الغيم،
ورأيت كتابًا مفتوحًا على طاولةٍ مكسورة،
تحت كلمتين:
"الحياة حلوة".
أعرف التراب الذي سيتّسع لها الآن،
سيُفسِح مكانًا بين الجذور،
وسيخبّئ قلبها كما تُخبّأ التفاحات الناضجة في السلال.
أعرف الغيمة التي ستبكيها دون أن تمطر،
لا لأن البكاء عيب،
لكن، لأن فاطمة كانت تضحك،
وتقول: "كلّ شيء سيكون بخير".
كانت أغنيةً تُغنّى على سطحٍ في غزة.
صارت أغنيات في قلوب الأصدقاء.
فاطمة،
شبح القصيدة الذي ظلّ يهرب،
القصيدة التي كتبت نفسها مرّة واحدة،
بدمها،
ثم انتقلت إلى الأغصان،
وما زالت هناك،
تزهر!
***
أوصتني فاطم بنعيها، وهذه مهمة ثقيلة، لا توفيها كل النصوص.
لا أصدق رحيل فاطم، ولا أن هذه المدينة ستفقد صوتاً من أصواتها الواضحة.
لا أصدق، لأنها تليق بالحياة أكثر، وبأحلامها التي ترسمها خطوةً خطوة، صورةً صورةً، قصيدةً قصيدة، أغنية أغنية، نعم، كانت هي الصورة والقصيدة، وصوت عصفورة تطل من الصباح.
لا أصدق، وأتذكر يوم التقينا في الإبادة بعد مدة طويلة، وحديثنا عن غزة التي نحبها بلا سبب، بلا مبرر، ودون أن نفهم، لماذا نحب مدينة نُقتل فيها كل يوم.
مشينا في سوق "الصحابة" مع أحد الأصدقاء، وقالت تمازح "صار عندك وكيلة أدبية يا حيدر، بدنا التحلاية" ولم أجد حينها إلا أن نشرب البرّاد، كنا في مجاعة، فوقنا طائرة، نشرب البراد، ونمشي كأننا نمتلك العالم.
أتذكر يوم زارت بيتنا في الإبادة لتصوّر قصةً صحفية عني، جلست في بيتنا، جلست مع أمي طويلاً، ثم وعدتني أنها لن تكون الزيارة الوحيدة، "فاطم" لا زلتُ أنتظركِ.
لا أصدق رحيل "فاطم"، أقلّب حديثنا الذي يأخذ معانٍ جديدة، وجدتُ رسالةً تدعو لي فيها: "يارب اشوفك فوق فوق واحكي لولادي عنك واقللهم كونوا مثل حيدرا"
لم يكن مهماً أن يكونوا مثلي، حدقت طويلاً في كلمة "أولادي" ورأيت أماً تعلّم ابنها الحياة، تحبّ أن تلتقط له صوراً استثنائية، لعيد ميلاده الأول، وخطوته الأولى.
تحب أن تصوّر الأيادي ولذلك متأكد أنها ستصور يده وهي تعانق يدها في الطريق.
أحدّق في كلمة أولادي، وأتخيل كم سيكون الهواء أخضر بضحكتها وهي أم، كم سيكون قلبها سعيداً مع خطيبها والحب الذي لم تسمح الإبادة له أن يكتمل، أتخيل كم سنظلم فاطمة حين لا نعتبر رحيلها بحد ذاته، بكل ثقله، بكل جروحه، بأطفالها الذين لن يجيئوا، وبحبها الذي انكسر، لا أتخيل كم سنظلم فاطمة حين لا نعتبر رحيلها بحد ذاته مجزرة.
عيون شهداء غزّة.. نافذةٌ على جمالها
12-11-2023
فاطمة جزء من جيل كبير في غزة يودّع نفسه، صنعته الحياةُ على مهل، ويعرف ما يريد جيداً، لم يسمع صوت طائرة إلا لتقصفه، ولم يعرف معنى أن يسافر سوى أن يغمض عينيه أمام البحر، فينا الشاعر والفنان والمصور والمغني، نملكُ طاقة تبني جمالاً وفيراً لعالم لم يكن عليه إلا أن يلتفت، ليرى كم أننا نشبهه.
هناك من تعرفونه وهناك من لا تعرفونه وأعدكم أنني لن أنتظر رحيلهم حتى تتعرفوا عليهم_
الأرضُ تخذلنا، تقتل الأحلام فينا، فنكتب الوصايا كما لم يفكر ستيني في مكان آخر من هذا العالم. ونقول ما تقوله فاطم: "ربما تكون النجاة في ألا ننجو يا حيدرا"
قتل الاحتلال الإسرائيلي فاطمة وعشرة أفراد من عائلتها، بطريقةٍ وحشيةٍ، لأنها تحلم، لأنها تضحك، لأنها حقيقية، لأنها تصوّر، وتكتب وتغني، ليس إلّا.