الصحافة السودانية في ظـلّ الحرب

تسود "حالة من الإظلام الإعلامي" للحرب في السودان، وانتشار للمعلومات المضلِّلة، بسبب السيطرة والتحكم من طرفي الصراع في المعلومات المنشورة، بما يجعل من الصعب التحقّق من صحتها أو دقتها، وعن عدم قدرة الصحافيين في السودان على التغطية المباشرة أو استخدام الكاميرا، حيث يجري استهدافهم بالقتل أو الاعتقال أو مصادرة الهواتف والكاميرات، مما يؤدي إلى عدم توثيق الجرائم والانتهاكات، ومن ثمّ إفلات مرتكبيها من العقاب.
2025-03-24

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
الصحافيان إيمان فضل ووليد النور في نقابة الصحافيين المصريين في القاهرة

تدخل الحرب في السودان منتصف الشهر المقبل عامها الثالث، بما لها من آثار مروّعة على الشعب السوداني، من قتل واعتداءات جنسية ونهب وتشريد.. وقد تعرّض الصحافيون السودانيون بدورهم لمخاطرَ وانتهاكات لم يُوثّق سوى بعضها، مع صعوبات الحركة والتنقل بين المناطق، وانقطاع الاتصالات أو ضعفها، بما حدّ كثيراً من قدرتهم على التغطية الميدانية للحرب. وفي ظل توقّف شبه كامل لوسائل الإعلام المحلية، ومن ثم عدم وجود جهات نشر، يمكن أن تستوعب عملهم، ومع ضرورات إعالة ذويهم، اضطُّر كثير منهم إلى ترك مهنة الصحافة وممارسة مهن أخرى، كما اضطُّروا للنزوح إلى الولايات الآمنة، أو الهجرة إلى دول الجوار وبينها مصر، لأولويات سلامتهم وسلامة أسرهم، حيث واجهوا أيضاً هناك عدداً من التحديات.

كانت الصحافة والصحافيون في السودان يعانون من قبَل الحرب، وفي ظل نظام "البشير"، من تضييقٍ وتدخلات أمنية وانتهاكات، لتتجه أوضاعهم بعد اندلاعها إلى الأسوء. وانعكست التطورات والانقسامات السياسية في البلاد على التمثيل المؤسسي للصحافيين السودانيين، ما بين الاتجاهات الثورية، والمؤسسات المنتمية إلى عهد النظام السابق.

في ندوة عُقدت في شهر شباط/ فبراير الفائت، في نقابة الصحافيين المصريين في القاهرة، بخصوص التحديات التي تواجه صحافيي الحروب، واستضافت صحافيين من غزة وسوريا واليمن والسودان.. تحدّثت الصحافية السودانية "إيمان فضل السِّيد"، التي تشغل منصب سكرتيرة الحريات في "نقابة الصحافيين السودانيين" عن "حالة من الإظلام الإعلامي" للحرب في السودان، وانتشار للمعلومات المضلِّلة، بسبب السيطرة والتحكم من طرفي الصراع في المعلومات المنشورة، بما يجعل من الصعب التحقّق من صحتها أو دقتها، وعن عدم قدرة الصحافيين في السودان على التغطية المباشرة أو استخدام الكاميرا، حيث يجري استهدافهم بالقتل أو الاعتقال أو مصادرة الهواتف والكاميرات، مما يؤدي إلى عدم توثيق الجرائم والانتهاكات، ومن ثمّ إفلات مرتكبيها من العقاب.

20 صحافياً فقدوا حياتهم خلال الحرب

وفقاً لتقارير "نقابة الصحافيين السودانيين" لرصد الانتهاكات بحقّ الصحافيين، لا سيّما خلال الحرب، بلغ عدد الصحافيين السودانيين، الذين فقدوا حياتهم منذ اندلاع الحرب حتى نهاية العام 2024، 20 صحافياً بينهم خمس صحافيات. منهم: المصوّر "عصام حسن"، وهو - كما يذكر التقرير - أحد أبرز المصوّرين في تلفزيون السودان، وقد وُجد ميتاً في منزله في "أم درمان". ووفقاً لرواية ابنه "حسن" التي ينقلها التقرير، فإنه قُتل في تموز/ يوليو 2023 برصاصتين إحداهما في الرأس، على يد مجموعة من "قوات الدعم السريع"، بعد أن رفض إخلاء منزله، ودُفن في فناء المنزل. والصحافية "سماهر عبد الشافع"، من إذاعة "زالنجي" في وسط "دارفور"، بقذيفة سقطت على معسكر "الحصاحيصا" للنازحين، الذي كانت قد نزحت إليه عام (2023). و"خالد بلل"، الذي قُتِل على يد مجموعة مسلحة اقتحمت منزله ليلاً بمدينة "الفاشر" في "ولاية شمال دارفور" (آذار/ مارس 2024). و"إبراهيم عبد الله" (شو تايم) وهو ناشط إعلامي مستقل، قُتل بقذيفة سقطت على منزله بمدينة "الفاشر" أيضاً، (2024)، وكانت المنطقة تحت سيطرة قوات الجيش والقوات المشتركة (قوات الحركات المسلحة الدارفورية، وهي تقاتل إلى جانب الجيش). و"حنان آدم" من "صحيفة الميدان"، التي اقتُحم منزلها في منطقة "ود العشا" بمحلية جنوب الجزيرة، وقُتلت هي وشقيقها من قبل "قوات الدعم السريع"، في كانون الأول/ ديسمبر 2024. و"بخيتة آدم مسعود" من الإذاعة السودانية، نتيجة إصابتها بشظايا من الاشتباكات الدائرة بين طرفي الصراع في "الخرطوم بحري" (كانون الأول/ ديسمبر 2024)، وقد كُتِب في خانة جهة الاعتداء "غير معلومة".

وهناك صحافيون لقوا حتفهم وهم قيد الاعتقال في معتقلات "قوات الدعم السريع"، كصحافيي "قناة الخرطوم" في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون: "مكي عبد الوهاب"، و"هشام الخاتمي"، و"منتصر علي"، منهم من تعرّض للتعذيب، وجاءت وفاته بسبب مضاعفات مرضية وعدم توفير العلاج له، وفي الحالات الثلاث، كما يشير التقرير "لا يوجد تاريخ دقيق للوفاة، ولا يعلم أهله المكان الذي دُفن فيه".

إلى جانب حالات الإصابة، والاعتداء والتحرش الجنسي كالذي تعرضت له الصحافية "فاطمة علي سعيد" على يد "قوات الدعم السريع"، في منزل عائلتها في "أم درمان".

إخفاء قسري واعتقال واحتجاز

بلغ العدد الكلي لهذه الحالات 69 حالة، بينهم 13 صحافية، بما في ذلك من توفوا أثناء الاعتقال، ومن أطلق سراحهم لاحقاً في فترات متفاوتة. وتضمّنت هذه الحوادث تفتيش الهواتف ومسح الصور والتقارير، ومصادرة الهواتف وكذلك معدات العمل، أو وثائق الهُوية، والتعرض للضرب والشتم والتعذيب والتهديد بالتصفية حال الإبلاغ عن الاعتقال أو البقاء في المنطقة، والاتهام بالتخابر مع الجيش، أو بأن الصحافي أو الصحافية خلايا نائمة لـ"قوات الدعم السريع" في المنطقة، وتهديد للأمن الوطني. وشملت أسباب الاعتقال التغطية الميدانية لانتهاكات ضد مواطنين والتقاط صور، أو إجراء مقابلات ميدانية، أو مجرد التعرّف إلى الهوية الصحافية، أو التحدث برأي في مجلس عام، كما في حالة الصحافي "نادر خلف الله"، بعد تحدثه عن ضعف قوة الجيش في مجلس عام، فاعتقلته استخبارات الجيش بمدينة "بورتسودان"، أو الانتماء العرقي أو الجهوي، مما يجعل الصحافي أو الصحافية عُرضة للتصنيف بأنه تابع لطرف معين، أو نشر تقارير صحافية، أو مقالات انتقادية على مواقع التواصل الاجتماعي.

وفقاً لتقارير "نقابة الصحافيين السودانيين" لرصد الانتهاكات بحقّ الصحافيين، لا سيّما خلال الحرب، بلغ عدد الذين فقدوا منهم حياتهم، منذ اندلاع الحرب حتى نهاية العام 2024، 20 صحافياً بينهم خمس صحافيات. هذا إلى جانب حالات الإصابة، والاعتداء والتحرش الجنسي كالذي تعرضت له الصحافية "فاطمة علي سعيد" على يد "قوات الدعم السريع"، في منزل عائلتها في "أم درمان".

هناك صحافيون لقوا حتفهم وهم قيد الاعتقال في معتقلات "قوات الدعم السريع"، كصحافيي "قناة الخرطوم" في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون: "مكي عبد الوهاب"، و"هشام الخاتمي"، و"منتصر علي"، منهم من تعرّض للتعذيب، وجاءت وفاته بسبب مضاعفات مرضية وعدم توفير العلاج له، وفي الحالات الثلاث، كما يشير التقرير "لا يوجد تاريخ دقيق للوفاة، ولا يعلم أهله المكان الذي دُفن فيه". 

وفي حالات كانت جهة الاختطاف مجموعة مسلحة مع طلب فدية لإطلاق سراحه، وأخرى وقعت في مصر كما حدث مع الصحافي "عماد ميرغني" وأربعة صحافيين آخرين من قناة "سودان بكره"، اعتقلتهم السلطات المصرية في أيلول/ سبتمبر 2024، بعد مداهمتها مقر القناة في القاهرة، لعدم امتلاكها ترخيصاً، بحسب ما تذكر تقارير النقابة.

انتهاكات أخرى

وشملت الانتهاكات الأخرى إطلاق النار، كالذي حدث مع صحافي مستقل يحجب التقرير اسمه، ويسجل جهة الاعتداء بأنها غير معلومة، وقد وقع الحادث أمام منزل الصحافي بمحلية "كرري" في "أم درمان"، أثناء وقوفه مع أفراد أسرته في آب/ أغسطس 2023 وأُبلغ عنه في كانون الأول/ ديسمبر 2024، حيث أطلق عليهم شخص من على دراجة نارية رصاصة من سلاح ناري، منادياً باسم الصحافي، الذي كان قد نشر تقريراً في صحيفة عربية عن جثث ملقاة في الطرقات.

وبلاغات النشر التي تُسجّل ضد الصحافيين، وتُعدّ كما يذكر التقرير، وسيلة ترهيب لهم، والفصل التعسفي، والنهب المسلح لمنازلهم، والتهديدات الشخصية عبر الاتصال أو الرسائل، والتهديدات العامة كحملات التحريض ضد الصحافيين على مواقع التواصل، والمنع من التغطية بالقوة من قبل السلطات، وكذلك تعديل قانون جهاز المخابرات العامة، بما يعطيه المزيد من السلطات والصلاحيات، ومن ثم يهدّد الحريات العامة، وتعقيد إجراءات الحصول على إذن العمل للصحافيين والمراسلين..

تمثيل الصحافيين السودانيين

كان للأحداث السياسية التي مرّ بها السودان في السنوات الأخيرة، تأثيرها في واقع تنظيم وتمثيل الصحافيين السودانيين، وسط حالٍ عامة من الانقسام والاستقطاب السياسي والأيديولوجي في البلاد. وهذا، منذ الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في كانون الأول/ ديسمبر 2018 ضد رئيس الجمهورية، "عمر البشير"، وقادت إلى إزاحته من قبل الجيش في نيسان/ إبريل 2019، مرورا بانقلاب قائد الجيش في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 على الحكومة المدنية، وحلّه "مجلس السيادة" الذي كان قد تشكّل - وفق "اتفاق تقاسم السلطة" الموقّع في آب/ أغسطس 2019- من مدنيين وعسكريين، لإدارة المرحلة الانتقالية، التي كان من المفترض أن تستمر لـ 39 شهراً، حتى اندلاع الحرب الحالية بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، في نيسان/ إبريل 2023.

من انتهاكات الجيش أيضاً، كما أوضحت "إيمان"، أن قواته أو الميليشيات التابعة له، بعد سيطرتها على مناطق كانت "قوات الدعم السريع" تسيطر عليها، تنفذ إعدامات خارج القانون لمواطني هذه المناطق على خلفية اتهامهم بأنهم موالون لـ"قوات الدعم السريع"، أو متعاونون معها، كما حدث في ولايتي: "الخرطوم" و"الجزيرة".

يتمثل موقف النقابة في الانحياز إلى إيقاف الحرب، حيث المتضرر الأكبر منها هو المواطن المدني، والتي لن تنتهي بانتصار أحد الطرفين، وفقاً لتجارب السودان السابقة، كـ"حرب الجنوب"، و"حرب دارفور"، التي استمرّت كل منهما سنوات طويلة ولم تنتهِ إلا بالتفاوض.

كان المتحدث السوداني الآخر في ندوة نقابة الصحافيين بالقاهرة، "أبيّ عز الدين"، من "الاتحاد العام للصحافيين السودانيين"، القائم في السودان منذ عقود، وقد سبق حلّه في كانون الأول/ ديسمبر 2019 - ضمن اتحادات ونقابات أخرى- بقرار من اللجنة التي شُكّلت آنذاك باسم "لجنة إزالة التمكين وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989"، قبل أن يُلغى القرار في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، ويعود الاتحاد إلى مزاولة نشاطه. ولا يزال هو العضو الرسمي عن السودان لدى "اتحاد الصحافيين العرب"، و"الاتحاد الدولي للصحافيين".

أما بالنسبة إلى "نقابة الصحافيين السودانيين"، فقد تأسست قبل نحو عامين ونصف، حيث انتُخب مجلسها في آب/ أغسطس 2022. توضح "إيمان فضل" التي التقيتُها لاحقاً مع "وليد النور" السكرتير الاجتماعي للنقابة، بأن حكومة "البشير" عند توليها السلطة، حلّت النقابات المهنية وأحلّت محلّها اتحادات يسيطر عليها الموالون لها، كما جرى "إغراق" السجل الصحافي - على حد تعبيرها - بأعضاء ليسوا في الأصل صحافيين بل من تخصصات أخرى، من خلال الحصول على البطاقة الصحافية بعد اجتياز امتحان القيد الصحافي. ويضيف "وليد النور" أن الاتحاد ضمّ أيضا أعضاء من الأجهزة الأمنية، ومن هنا أتت جهودهم لـ"استعادة النقابة"، اعتماداً على "اتفاقية منظمة العمل الدولية" رقم 87 المتعلقة بـ"الحرية النقابية وحماية حق التنظيم"، التي وقّع عليها السودان خلال الفترة الانتقالية.

حالة المذيع "أحمد عربي"

ينعكس ذلك على توثيق الانتهاكات بحق الصحافيين وتحديد الجهة المسؤولة عنها، كما في حالة المذيع في قناة النيل الأزرق "أحمد عربي"، الذي قُتِل بداية العام 2024. ففي كلمته في الندوة، قال "أبيّ عز الدين" إن "عربي" قد تعرض للاختطاف من منزله والتصفية، بعد كشفه عن هويته الصحافية ظنّا منه أنها سوف تحميه، وإن المنطقة في ذلك الوقت كانت تحت سيطرة "قوات الدعم السريع". بينما، وفي حديثي اللاحق معهاـ تقدم "إيمان فضل" رواية مختلفة، إذ قالت إن أول رواية ظهرت بخصوص مقتل "عربي"، أنه قُتِل برصاصة طائشة، ولكن فيما بعد، وبعد سؤال عدد من المصادر من الجيران ومن بعض أقاربه، بخلاف أفراد أسرته الذين رفضوا التصريح ربما لتعرضهم لضغوط أو تهديد كما تقول، فإن الرواية الأرجح والتي سجلتها النقابة في تقاريرها، هي أنه بعد أن أعادت قوات الجيش سيطرتها على منطقة "العبّاسية" في "أم درمان"، حيث يقع منزل المذيع، وقيامها بتمشيطها واقتحام منازل المواطنين، الذين ظلوا موجودين خلال فترة سيطرة "قوات الدعم السريع" عليها، اقتحم أفراد من قوة مسلحة ترتدي زيّ الجيش منزل المذيع، وفتّشوه وحققوا بعنف مع الموجودين فيه، ثم اقتادوا "عربي" خارج المنزل، وسُمع بعدها صوت نقاش حاد بينهم ثم صوت رصاص. عقب ذلك دخل أفراد من هذه القوة وأبلغوا أهله أنه قُتِل برصاصة طائشة، بينما أفاد بعض الجيران أن أحد افراد هذه القوة هو من أطلق عليه الرصاص، أي أنه أعدم أثناء المداهمة، على حد قولها.

طرفا الصراع

وبينما يستخدم ممثل "الاتحاد العام للصحافيين" وصف "الميليشيا" لـ"قوات الدعم السريع" (مقابل الجيش أو القوات المسلحة)، يستخدم ممثلو النقابة تعبير "طرفي الصراع"، إذ يهتمون برصد انتهاكات الجيش وانتهاكات "قوات الدعم السريع" كليهما. وتتمثل أبرز انتهاكات الجيش، كما يقول "وليد النور"، في قصف المناطق التي تسيطر عليها "قوات الدعم السريع" بالطيران، مما يؤدي إلى مقتل أعداد من المدنيين الذين اضطروا للبقاء في هذه المناطق، وإن هناك استغلالاً سياسياً وإعلامياً من كل طرف للضحايا المدنيين الذين يسقطون على يد الطرف الآخر. ويشير "وليد" و"إيمان" إلى أن للجيش أيضاً ميليشياته، المتمثلة في كتائب خارجية مكوّنة من المنتمين إلى الحركة الإسلامية وأعضاء "حزب المؤتمر الوطني" الذي حكم السودان ثلاثين عاماً، وصار له تغلغله داخل مؤسسات الدولة، ومنها المؤسسة العسكرية.

من انتهاكات الجيش أيضاً، كما أوضحت "إيمان"، أن قواته أو الميليشيات التابعة له، بعد سيطرتها على مناطق كانت "قوات الدعم السريع" تسيطر عليها، تنفذ إعدامات خارج القانون لمواطني هذه المناطق على خلفية اتهامهم بأنهم موالون لـ"قوات الدعم السريع"، أو متعاونون معها، كما حدث في ولايتي: "الخرطوم" و"الجزيرة"، على حد قولها. ويتمثل موقف النقابة ــ كما تحدّث الصحافيان ــ في الانحياز إلى إيقاف الحرب، حيث المتضرر الأكبر منها هو المواطن المدني، والتي لن تنتهي بانتصار أحد الطرفين، وفقاً لتجارب السودان السابقة، كـ"حرب الجنوب"، و"حرب دارفور"، التي استمرّت كل منهما سنوات طويلة ولم تنتهِ إلا بالتفاوض.

تجارب النزوح

باندلاع الحرب في الخرطوم، لم يعد باستطاعة "وليد النور" الوصول إلى مقر الوكالة الإعلامية التي يعمل فيها، والواقعة بالقرب من القصر الجمهوري، وهي المنطقة التي تتركز فيها مقرات وسائل الإعلام، وقد صارت منطقة قتال. تحوّل "وليد" إلى كتابة مقالات وتحليلات لمواقع إلكترونية سودانية، أو الظهور كمحلل في قنوات إخبارية خارجية، ومع سوء الإنترنت والاتصالات، كان من الصعب أن يستمر تواصله معها.

أخرج "وليد" أسرته إلى "كُردفان" حيث تعود أصوله، وبقى هو في "أم درمان" - حيث يقيم - لأكثر من شهرين، قبل أن يقرر النزوح إلى "ولاية الجزيرة". كانت الحافلة في طريق النزوح تمر على "ارتكازات" (نقاط تفتيش) للجيش وأخرى لـ"قوات الدعم السريع" في الخرطوم، حيث قُسّمت العاصمة المثلّثة (الخرطوم، بحري، أم درمان) على مناطق سيطرة بين الفريقين، وبدأت ارتكازات "قوات الدعم السريع" بعد جسر "أم درمان". ويقول "وليد" إن الناس، لتسهيل مرورهم عبر هذه "الارتكازات"، يحرصون على ارتداء ملابس رثّة على حد تعبيره بحيث يظهرون كناس عاديين، لا توحي هيئة الفرد فيهم بأنه من الجيش أو مسؤول في الدولة، وهي الفئات التي كانت تتعقّبها "قوات الدعم السريع".. كذلك عدم إبداء أي اعتراض على ما يطلبه منهم هؤلاء، أو مجادلتهم، حتى يمرّوا بسلام. وبالنسبة إلى الصحافيين، فإنهم يحرصون على إخفاء هويتهم الصحافية، تجنبا للأذى أو الاتهام بأنهم يعملون مع الاستخبارات العسكرية للجيش.

ويُكمل "وليد"، أن الذين يُوقِفون الناس في هذه "الارتكازات" أعمارهم في حدود 17 و18 عاماً، وهم من قبائل الغرب (دارفور)، وكانوا يجبرون ركاب الحافلة الرجال على النزول، وقد يوجهون لهم إساءات، ويُمسكون بطاقة الهوية بالمقلوب لأنهم لا يعرفون القراءة، ويعتمدون على التدقيق في الصورة التي تحملها، للتأكد من أنها صورة حاملها بالفعل.

هناك من الصحافيين والصحافيات من غادر الى بلدان أخرى قريبة، لكن العدد الأكبر منهم بقي في السودان، وقد توقفوا عن مزاولة مهنة الصحافة، واضطروا إلى ممارسة مهن أخرى، زراعية أو تجارية، لتوفير دخل للمعيشة في الولايات التي نزحوا إليها.

أبرز التحديات التي يواجهها الصحافيون السودانيون في مصر أنهم بلا عمل، وقد اتجه كثير منهم إلى التسجيل في "مفوضية الأمم المتحدة للاجئين"، ويعتمد أغلبهم على دعم أقاربهم الموجودين في دول الخليج أو أوروبا أو في الولايات المتحدة، وأن عدداً قليلاً جداً يمكن أن يراسل مواقع سودانية، وهي مواقع صغيرة محدودة الإمكانيات. 

خلال الأشهر التالية، عمل "وليد" كمنسق لمشروع تدريبي للصحافيين ممثِّلاً للنقابة، بدعم من "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية"، شمل تدريبات حول تغطية النزاعات، ومحاربة الأخبار الكاذبة والمضلِّلة وخطاب الكراهية، في عدد من الولايات السودانية: (مدني، وبورتسودان، وعُطبرة، والقضارف). بعدها سافر إلى "أديس أبابا"، في "أثيوبيا" لحضور بعض الدورات التدريبية، ومنها إلى مصر في حزيران/ يونيو 2024.

نزحت "إيمان" يوم عيد الفطر، حيث أُعلِنَت هُدنة، مع ابنتها ذات الخمسة أعوام، من منطقة "بُرِّي" في الخرطوم، القريبة من مطار الخرطوم والقيادة العامة للقوات المسلحة، حيث كانت الاشتباكات مستمرة على مدار اليوم، إلى أطراف "أم درمان"، حيث يقع منزل عائلتها، وكانت الأوضاع فيها آنذاك مستقرة، وبقيت هناك لمدة شهر تحاول أن تمارس عملها الصحافي والتوثيقي. لكن المشكلة كانت في انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، وكذلك انقطاع أو ضعف شبكة الاتصالات والإنترنت، الذي عانت منه معظم الولايات السودانية لشهور، كما تقول.

تضيف، أنه في المناطق التي سيطرت عليها "قوات الدعم السريع"، كان يمكن أن توفر هذه القوات أجهزة "ستارلينك" للاتصال بالإنترنت لبعض المواطنين، ولكن باسعار مرتفعة، وحتى في حال توفر الإنترنت، تظل خطورة تفتيش الهواتف والتعرض للاعتقال قائمة، حال وجود صور توثِّق الانتهاكات أو مواد صحافية.

ومع قصف "سوق قندهار" القريبة من منزل عائلتها بطيران الجيش، ووجود قنّاصة من "قوات الدعم السريع" في العمارات المقابلة، نزح أفراد عائلتها إلى ولايات أخرى، بينما فضّلت "إيمان" الاتجاه إلى مصر، فغادرت إلى "الولاية الشمالية"، ومنها إلى "حَلْفا"، ودخلت مصر رسمياً، بصحبة ابنتها في أيار/ مايو 2023، وكان الدخول وقتها متاحاً للنساء، والأطفال، والرجال فوق 50 عاماً، بدون تأشيرة.

أوضاع الصحافيين السودانيين في مصر

لا يوجد حصر بعدد الصحافيين السودانيين الذين جاءوا إلى مصر بعد الحرب، ولكن العدد يمكن أن يُقدّر على الأقل بثلاثمئة صحافي، حسبما يفيد "وليد النور" السكرتير الاجتماعي لـ"نقابة الصحافيين السودانيين". 

آخرون اتجهوا إلى أوغندا أو كينيا، وهناك من ذهب إلى السعودية أو الإمارات، حيث كانت الأولوية لديهم سلامتهم وسلامة أسرهم، بغض النظر عن إمكانية إيجاد فرصة عمل أو لا. بينما بقى العدد الأكبر في السودان، وقد توقفوا عن مزاولة مهنة الصحافة، واضطروا إلى ممارسة مهن أخرى، زراعية أو تجارية، لتوفير دخل للمعيشة في الولايات التي نزحوا إليها، كما يقول "وليد". وأضاف، أن أبرز التحديات التي يواجهها الصحافيون السودانيون في مصر أنهم بلا عمل، وقد اتجه كثير منهم إلى التسجيل في "مفوضية الأمم المتحدة للاجئين"، ويعتمد أغلبهم على دعم أقاربهم الموجودين في دول الخليج أو أوروبا أو في الولايات المتحدة، وأن عدداً قليلاً جداً يمكن أن يراسل مواقع سودانية، وهي مواقع صغيرة محدودة الإمكانيات.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...