"الضيف في حكم المضيف": عن تقاليد الضيافة في اليمن

ترتبط تقاليد الضيافة في اليمن باعتبارات اجتماعية لا تقتصر إحالاتها على قيمة الكرم فحسب، إذ لها دورها الفاعل في الحفاظ على تماسك البُنية الاجتماعية. وهي تمثّل واحدة من أهم الصفات التي تتكامل بها مكانة الفرد، والعائلة، والقبيلة. وفي سياق ذلك، يتحقق نوعٍ من تشبيك الصداقات والعلاقات الودية بين الأفراد والجماعات. وتمثّل هذه التقاليد مدخلاً مهمّاً للتعاطي مع الإشكالات الاجتماعية، كما تمثّل منطلقاً لمناقشة ما يمكن مناقشته من قضايا الخلافات. ومن خلالها، يتم الوصول الى حلول ودية لكثير منها.
2025-03-06

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
هاشم علي - اليمن

ترتبط تقاليد الضيافة في اليمن باعتبارات اجتماعية لا تقتصر إحالاتها على قيمة الكرم الممتدة في التاريخ العربي والثقافات الإنسانية، بل تحيل ــ بمعية ذلك ــ على قيَمٍ أكثر ارتباطاً بخصوصية المجتمع اليمني، وأكثر عمقاً في بُنيته، ونسيج العلاقات بين أفراده، بوصفها من الثوابت الاجتماعية، التي لا يمكن التفريط فيها. لذلك تحظى باهتمامٍ شعبي، ولا تزال سائدة حتى اليوم، في كثيرٍ من المناطق اليمنية، لا سيما بعض المناطق الشرقية، من محافظتي "مأرب"، و"الجوف".

استضافة العابرين

من أبرز الاعتبارات الاجتماعية المرتبطة بتقاليد الضيافة في اليمن، عدم التمييز في مستوى الضيافة ونوعيتها، بين الضيف المعروف للمضيف، والضيف العابر الغريب عنه.

تبدأ استضافة الغرباء والعابرين، من اللحظة التي يظهرون فيها لمجموعة من أبناء منطقة، أو قرية من القرى اليمنية، وهم في طريقهم إلى مكانٍ آخر يقصدون فيه حاجتهم. يقترب منهم أفراد تلك المجموعة، مع إطلاقهم عياراتٍ نارية في الهواء، مشفوعة بعبارات ترحيبية ودعوة الضيافة. وهنا، ليس أمام العابرين سوى التوقف، والتفاوض على دعوة الضيافة، واتخاذ موقفٍ منها قبولاً أو اعتذاراً.

يخضع تحديد نوعية موقف العابرين من دعوة الضيافة، لخصوصية الوقت الذي يتزامن مع تقديمها والتفاوض عليها. فإن تزامن التفاوض والعبور مع وقت تناول الغذاء، أو مع دخول الليل، فإن قبول الدعوة أمرٌ حتميٌّ لا مناص منه. أمّا في غير ذلك، فأمام الضيف فرصة أن يتقدم بالشكر، ويطلب من المضيف السماح له باستئناف طريقه إلى حيث يريد، لا سيما وأن المنطقة ليست مقصد سفره. وبذلك، يُلبى طلبُه، بعد أن يتم تزويده، بما قد يحتاج إليه، من الماء والقهوة والطعام.

سلاح الضيف "في حكم المضيف"

مع سماعهم أصوات الطلقات النارية ــ التي يكون قد أطلقها أفراد المجموعة المعترضة طريق العابرين لاستضافتهم ــ يتأهب أهل القرية لاستقبال الضيف. وفور وصول أحد أفراد تلك المجموعة إليهم لإشعارهم بالأمر، يخرج الرجال المتواجدون في القرية بأسلحتهم، ويتجهون إلى ساحتها، التي اعتادوا على التجمع فيها، حينما يرغبون في مناقشة أمرٍ من أمورهم العامة.

يسير الضيوف خلف مجموعة الاستقبال تلك، التي تتقدمهم إلى الساحة العامة، ثم ينضم أفرادها إلى أهاليهم، الذين يكونون قد شكّلوا فيها صفّاً واحداً. سرعان ما يتشكّل مقابله صف الضيوف، الذين يطلقون عبارات الشكر ردّاً على عبارات الترحيب، التي تتزامن مع جولة ثانية من إطلاق الرصاص في الهواء.

من أبرز الاعتبارات الاجتماعية المرتبطة بتقاليد الضيافة في اليمن، عدم التمييز في مستوى الضيافة ونوعيتها، بين الضيف المعروف للمضيف، والضيف العابر الغريب عنه. ويخضع تحديد موقف العابرين من دعوة الضيافة، لخصوصية الوقت الذي يتزامن مع تقديمها والتفاوض عليها. فإن تزامن مع وقت تناول الغذاء، أو مع دخول الليل، فإن قبول الدعوة أمرٌ حتميٌّ لا مناص منه.

بعد ذلك، يتقدّم شيخ القبيلة أو عاقل القرية، ومن بعده أهلها صفّاً واحداً، إلى صف الضيوف لمصافحتهم. وتترافق هذه الخطوة الإجراء الخاص بأخذ أسلحة الضيوف، وما في حوزتهم من أدوات ومؤن. ويمثّل هذا الإجراء حتميّة ليس من حق المضيف التنازل عنها، ولا من حق الضيوف الاعتراض عليها، ولا الامتناع عن تنفيذها. كما لا يحق لهم التساؤل، عن الوجهة التي أُخذت إليها أشياؤهم، إذ تبقى في حوزة المضيف، وبحكمه، وفقاً لمضمون المثل الشعبي القائل: "الضيف بحكم المضيف"([1]). وبعد انتهاء فترة الضيافة، واستعداد الضيوف للمغادرة، يتم توديعهم بالمراسيم نفسها التي استُقبلوا بها. وفي سياق ذلك، تُعاد إليهم أشياؤهم كاملة غير منقوصة.

قطعة لحم خاصة بالنساء

في صدارة مراسيم الضيافة في اليمن يأتي تقديم الذبائح، تعبيراً عن مكانة هذه العادة في الثقافة الاجتماعية، وتجسيداً لمدى الاهتمام بالضيف والإعلاء من شأنه ومكانته.

وبناءً على عدد الضيوف، يتم تحديد عدد الذبائح. وحتى لو كان الضيف شخصاً واحداً، فلا بد من ذَبْح رأسٍ من الغنم على الأقل. فإن تجاوز عدد الضيوف أربعة أشخاص، فإن عدد الذبائح يزيد، إذ يُذبح لكل خمسة ضيوف رأسٌ من الغنم، وهو العدد الذي يُلزم تكرارُه الزيادة في عدد الذبائح.

يتقدّم شيخ القبيلة أو عاقل القرية، ومن بعده أهلها صفّاً واحداً، إلى صف الضيوف لمصافحتهم. ويترافق ذلك مع أخذ أسلحة الضيوف، وما في حوزتهم من أدوات ومؤن. ويمثّل هذا الإجراء حتميّة ليس من حق المضيف التنازل عنها، ولا من حق الضيوف الاعتراض عليها، ولا الامتناع عن تنفيذها. وبعد انتهاء فترة الضيافة، يتم توديعهم بالمراسيم نفسها. وتُعاد إليهم أشياؤهم كاملة غير منقوصة. 

تتولى النساء عملية طهي طعام الضيافة، بما في ذلك لحوم الذبائح، التي يتم تقديمها كاملةً إلى الضيف. وقبل أن تمتد الأيدي إلى المائدة، يجب ألّا يغفل الضيف عن القيام بخطوة مهمة، تتمثل في أن يقوم بنزع أفضل قطعة من لحم الذبيحة الناضجة، ثم يوجه بإعادة هذه القطعة إلى النساء اللواتي قمن بطبخها([2]). يظهر المضيف نوعاً من المعارضة الشكلية، لكن إصرار الضيف يمضي في تحقيق رغبته.

واجبٌ جمعي وتحفّظٌ احترازي

تتجلّى في تفاصيل تقاليد الضيافة في اليمن، خاصية الواجب الجمعي الفاعل في إنجازها، إذ "يتقاسم الناس عبء الضيافة لضيوفهم مهما بلغ عددهم وفق تنظيم محدد ومتفق عليه سلفاً"([3]).

كما تتجلّى هذه الخاصية، في التزامهم بتوفير نوعٍ من الأريحية للضيوف، لا سيما الذين لا يكونون على معرفة بهوياتهم. بمعنى ألّا يسألوهم عن أسمائهم ولا عن المناطق التي ينتمون إليها. وإن فعلوا ذلك، فليكن بطريقة غير مباشرة، بعد تناول الطعام، أو في لحظات المغادرة والتوديع. ويُعدّ الحرص على هذا الأمر من أهم تقاليد الضيافة، وعلى المضيف أن يراعيها مع ضيوفه بدقة، بما فيهم أولئك الذين يكون على عداءٍ معهم.

الضيافة أيامٌ ثلاثة

تصل مدة الضيافة عادة إلى ثلاثة أيّام. وعلى ذلك، فهناك عوامل فاعلة في استكمال هذه المدة، أو الاكتفاء بيوم أو يومين منها. ذلك لأنها محكومة بنوعٍ من التناسب مع نوعية المكان والمقصد الذي يسعى إليه الضيف. كما أنها محكومة أيضاً بصفة الضيف، معروفاً لمضيفه، أو غريباً عنه.

وبذلك، فإن الحال التي يكون فيها مقصد الضيوف هو المنطقة أو القرية نفسها، التي يُستضافون فيها، فإن العادة تقضي بحتمية استكمال مدة الضيافة أيّامها الثلاثة. بعدها، يمكن البدء في مناقشة الأمر الذي جاء الضيوف من أجله.

قبل أن تمتد الأيدي إلى المائدة، يجب ألّا يغفل الضيف عن القيام بخطوة مهمة، تتمثل في أن يقوم بنزع أفضل قطعة من لحم الذبيحة الناضجة، ثم يوجِّه بإعادة هذه القطعة إلى النساء اللواتي قمن بطبخها.

أمّا إن لم يكن مقصد الضيوف المنطقة أو القرية التي استجابوا لدعوة استضافتهم فيها، فإن مدة الضيافة، يمكن أن يحكمها اتجاهان: الأول يكون فيه الضيوف على معرفة بأهل القرية، وفي هذه الحال باستطاعتهم مناقشة أمر مغادرتهم مع المضيفين في اليوم التالي. وعلى ذلك، تبقى قوة الحسم في يد المضيف. فبإمكانه أن يسمح لهم بالمغادرة، وبإمكانه الإصرار على بقائهم واستكمال ضيافتهم يومين آخرين.

أما الاتجاه الثاني، فهو الذي تنتفي فيه هذه المعرفة بين الضيوف والمضيف. وفيه يمكن للضيوف طلب السماح بالمغادرة في اليوم التالي، فتكون الاستجابة لهم أكثر يُسراً مما هي عليه في الاحتمال السابق.

الضيافة والنسيج الاجتماعي

لتقاليد الضيافة في اليمن دورها المحوري، الفاعل في الحفاظ على تماسك البُنية الاجتماعية. إذ تمثّل واحدة من أهم الصفات التي تتكامل بها شخصية الفرد، كما تتكامل بها مكانة العائلة والأسرة والقبيلة التي ينتمي إليها.

تتجلّى في تقاليد الضيافة خاصية الواجب الجمعي، إذ "يتقاسم الناس عبء الضيافة وفق تنظيم محدد ومتفق عليه سلفاً". كما تتجلّى هذه الخاصية في التزامهم بتوفير الأريحية للضيوف، لا سيما الذين لا يكونون على معرفة بهوياتهم، بمعنى ألّا يسألوهم عن أسمائهم ولا عن المناطق التي ينتمون إليها. أما الأمر الأكثر أهمية، فكامنٌ في ما تمثّله هذه التقاليد من ترسيخ للأمن والاستقرار بين المتخاصمين والأعداء.

وفي سياق هذه الحيوية الاجتماعية للتقاليد، يأتي ما يترتب على اطراد المحافظة عليها، من تحقيقِ نوعٍ من تشبيك الصداقات والعلاقات والصلات الودية بين الأفراد والجماعات. وبذلك، تمثّل هذه التقاليد مدخلاً مهمّا للتعاطي مع الإشكالات الاجتماعية، كما تمثّل منطلقاً لمناقشة ما يمكن مناقشته من قضايا الخلافات، ومن خلالها يتم الوصول إلى ما يمكن الوصول إليه من حلول ودية لكثير من النزاعات والخصومات.

أمّا الأمر الأكثر أهمية في هذا السياق، فكامنٌ في ما تمثّله تقاليد الضيافة من ترسيخ للأمن والاستقرار بين المتخاصمين والأعداء. ذلك، لأن تواجد الشخص في منطقة عدوه يمثل خطراً عليه، فيما لو قضى ليلته في نُزُلٍ عادي، بينما يكون في وضعٍ أكثر أماناً، حينما يبيت في بيت أحد أعدائه، لأن العدو في هذه الحال ملزم بتأمين ضيفه.

______________________

  1. د. حمود العودي، "التراث الشعبي وعلاقته بالتنمية في البلاد النامية. دراسة تطبيقية عن المجتمع اليمني". ط1، دار العودة، بيروت، 1986، ص161.
  2. نفسه، ص162.
  3. نفسه، ص273.

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه