حصَاد الإبراهيمية والقمة القادمة

أنظار العالم بأسره ترنو إلى القمة القادمة في القاهرة، وإلى قفّاز التحدي القاطر سماً واحتقاراً، الملقى عند أقدامها.
2025-02-25

شارك
وليد الخالدي

وليد الخالدي*

لم يكد العائد لتوه إلى كهفِه البيضاوي أن يستقر فيه حتى دعا بنيامين نتانياهو لزيارته أولَ من دعا من زعماء العالم قاطبةً، وأردف دعوته بتصاريح، بحضور ضيفه، أطربت هذا الأخير حول ما صمّم عليه تجاه غزة هاشم وسكانها، خطفت الأنفاسَ بقحّتِها وخفّتِها، وتخطّت كلَ عرفٍ ديبلوماسي، وقرارٍ دولي، ومبدأ قانوني، وألقت في سلّة المهملات، جملةً وتفصيلاً بسالف تعهّدات أسلافه فرداً فرداً تجاه القضية الفلسطينية والحقوق العربية فيها.

أما فحوى ما صرّح به، فهو أنّه للولايات المتحدة الحقُ الأكيدُ في الاستيلاء على غزة هاشم والتصرّف بها وبسكانها كما يحلو لها، وأنه، بالتالي، قد عزم بدون عودةٍ عن قرارِه بتملّك غزة وبسلخِها عن أمِها فلسطين، وبنسخِ صبغتِها الإسلامية العربية، وبدرسِ معالمها التراثية وتحويلها إلى بؤرةٍ سياحيةٍ دوليةٍ تنافس في خلاعتِها ملاهي الريفيرا الفرنسية ومراقصَها، بإدارة ابنتِه وصهرِه، وذلك بعد طرد سكانها المرابطين فيها (من قَبل قيام الولايات المتحدة ذاتها) بقرون، وقذفهم في صحارى الأردن ومصر، أبى حكامهما أم رضوا، تحت طائلة حجب المعونات السنوية عنهما في حال عدم الانصياع لإرادته.

وتثبيتاً لتصميمه على ما أعلن، استدعى عاهلَ الأردن إلى مكتبه، وعلى بعد ذراع من ضيفه الهاشمي، كرّر عليه وجاهةً ما كان قد أعلنه سابقاً، وزاد على الضغث إباله باستدعاء رئيس أكبر دولة عربية وأخطرها شأناً لتكرار المشهد إياه عليه.

لم يكن بنيامين الضليعُ في السياسةِ الأميركية لَيحلم يوماً، يقظةً أم نوماً، بأن يأتي رئيسٌ أميركيٌ يُبيح له ما أباحه السفاحُ بايدن بإعادة غزة هاشم إلى العصر الحجري، أما أن يتلوه مباشرةً خَلفٌ يتفوّه بما تفوّه به طاغوتُ واشنطن العائدُ لتوه إليها، فقد دارت سكرتُه في رأسِه دورانَها وأطلقت لسانَه، فانطلق من عقاله ليفصح عن مكنون الصدور، وإذ به يعلن على رؤوس الأشهاد أن الموقع الطبيعي للدولة الفلسطينية إنما هو صميم الجزيرة العربية ذاتها.

لم تأتِ تصاريح ترامب عن غزة هاشم وتصريح بنيامين عن موقع الدولة الفلسطينية عفواً، ولم يأتِ توقيت دعوات ترامب لعبد الله والسيسي كأول خطوة في سياسته الخارجية صدفة، فالطبخة قديمة تعود إلى ولاية ترامب الأولى، وخميرتها لا لبس فيها ولا إبهام، فهي يقيناً الإبراهيمية الرباعية التي اختلقها بنيامين أصلاً، مع شركاء خليجيين، وأخرجها ترامب مع صهره المطوِّر العقاري.

ولقد أُبقيت الطبخةُ على نارٍ خفيفةٍ إبّان عهد بايدن بانتظار عودة ترامب إلى الحكم، التي صمّم عليها، واكتملت مكوناتُها منذئذٍ بمساهمة الطاهيين دونالد وبنيامين (كما أكد الأخير بنفسه)، وذلك بالتفاهم على مصير سكانها، وعلى ضم الضفة الغربية (المتسارِع اليوم) والقادم حتماً خلال الأســابيع القادمة، لتمســخَ القضيــة الفلسطينية مسخاً أبديّاً، وليتلو ذلك نقاشٌ، كما خطط الاثنان، يطــول أكثــر ممــا يقصـُــر بيــنهما وبين دول عربيةٍ، سنّيةٍ، طيّعةٍ، إبراهيميةٍ مدجّنةٍ، راضيةٍ مرضيةٍ بصفقات سلاح وتقنيات تدفع أثمانها ببلايينها ضد إيران الشيعية،ثمانها ببلايينها ضد إيران الشيعيةأ حول ما تقبل به تل أبيب وواشنطن من صيغٍ رمزيةٍ وفتاتٍ يُقذفُ باتجاه الفلسطينيين، مع الإبقاء على سيف الدولة الفلسطينية في السعودية مسلّطاً فوق الرياض تحسّباً.

فهل من أدنى شك بأن ما عزّز قناعات دونالد للمضيّ في مساره هذا هو حفاظ الدول الأربعة الإبراهيمية على علاقاتها مع إسرائيل بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأهوال غزة ولبنان، مشيرة بذلك أن حياة الفلسطيني أو اللبناني الشيعي ليست على سُلّم أولوياتها، وأن صدر هذه الأولويات ومحتواه إنما هو المزيد المزيد من الصفقات العقارية والتجارية مع ترامب نفسه وذويه، والاتفاقات العسكرية والتقنية مع واشنطن؟؟ وهل من أدنى شك بأن دونالد لا يقيم وزناً لأي دولة إسلامية أو عربية من غير ذوات القناطير المقنطرة، وأن سائر الأعاريب ليسوا عنده من أحد؟؟

وهل من أدنى شك بأن ما حصل يشكّل بمجمله أَمرّ تحدٍ، وافجره لكل صاحب جلالة أو فخامة أو إمارة أو دولة في كل حاضرة من حواضر العالمين الإسلامي والعربي، حتى بمن فيهم سدنة الحرمين الشريفين المرشحين جهاراً لاستضافة الدولة الفلسطينية العتيدة؟؟

فهل يدرك قادتنا أخيراً أن الأمر تخطّى القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وإيران وحماس وحزب الله، وأن حملة أعداء اليوم أشرس وأدهى من جملة سوابقها في العصور الوسطى، وأن عدو العقد الثاني من هذا القرن إن هو إلاّ "المشيانية" الخيبرية العائدة إلى مشرقنا بالتحالف مع صليبية أميركية إنجيلية بروتستانتية، تزهو بالجبروت الأميركي لقلب موازينه رأساً على عقب، ولإذلال الإسلام والعروبة في عقر ديارهما تمهيداً لأحلامهما الالفية؟؟؟

وبعد، فأنظار العالم بأسره ترنو إلى القمة القادمة في القاهرة، وإلى قفّاز التحدي القاطر سماً واحتقاراً، الملقى عند أقدامها.

... أما لسان حالي فهو قولُ الشاعر:
بني وطني مالي أراكم صبرتم على
نوبٍ أعي الحصاةَ عديدُها
أما آدكم حملُ الهوانِ فإنّه
اذا حُمِلّته الراسياتُ يؤودُها؟

______________________

*البروفيسور وليد الخالدي، المؤرِّخ والباحث، علَمٌ بارز من فلسطين، يحتفل هذا العام بعيد ميلاده المئة (مولود في القدس في العام 1925). وهو أحد مؤسسي "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت في العام 1963، وكان قد استقال من التدريس في جامعة أوكسفورد في العام 1956 احتجاجاً على مشاركة بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر، وراح يدرِّس في الجامعة الامريكية في بيروت، كما تولى مناصب اكاديمية عالمية.

-يُنشر النص بموافقة المؤلِّف

مقالات من فلسطين

التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية: استراتيجيات عسكرية موسعة وتهديدات بالضم

2025-03-31

في إطار المتابعة الحثيثة التي يقوم بها "معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني- (ماس)" لمتابعة التطورات، ورصد تأثيراتها، أعد المعهد ورقة خلفية لأولى جلسات "سلسلة الطاولة المستديرة" لهذا العام، صدرتْ في...

سلام "ترامب" الاقتصادي الجديد: من إدارة الصراع إلى تصفية القضية الفلسطينية

ليس الأمريكان الوحيدين الذين لديهم خطط استثمارية وعقارية لقطاع غزة، بعد إعادة احتلاله وتطهيره من حماس، والاستيلاء عليه، حيث بادرت مجموعة عقارية استثمارية إماراتية إلى طرح رؤية أكثر تفصيلية للفكرة...